المزيفون

الشيخ د فيصل بن عبد الرحمن الشدي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ المقصود بالمزيفين 2/ حب النفس للظهور والتحذير من ذلك 3/ افتتان الناس بالمظاهر وبعض القصص في ذلك 4/ توزن الناس بالحقائق والبواطن 5/ مفاسد الاغترار بالمظاهر 6/ بعض صور المظاهر المزيفة 7/ وجوب ستر الذنوب وعدم المجاهرة بها 8/ إظهار الإنسان للنعم

اقتباس

عباد الله: دنيانا دنيا المظاهر، دنيانا دنيا التفاخر، بريقها لامع، وسرابها خادع، كم ذهبت أوقاتنا، واستهلكت أفكارنا، وصرفت أموالنا، وقامت مناسباتنا، ومضى ذهابنا وإيابنا، في تزين بالمظاهر، توارت حقائق المخابر بزيف المظاهر، وأصبحت ترى...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله أبان طريق الهدى، وأوضحه بمعالم متتابعة تترى، وحذر سبل الشيطان والهوى، وقال في كتابه الكريم: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه: 132].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداُ عبده ورسوله القدوة العليا صلى الله عليه وعلى آله ومن بهديه اهتدى، وسلم تسليماً كثيرا.

 

أما بعد:

 

الفتن كثيرة، والشرور مستطيرة، فالزموا الحفيظ العليم، فلا -والله- حفظ إلا حفظه، ولا -والله- وقاء إلا وقاءه، فمن لزمه هداه، ومن اتقاه وقاه.

 

عباد الله: دنيانا دنيا المظاهر، دنيانا دنيا التفاخر، بريقها لامع، وسرابها خادع، كم ذهبت أوقاتنا، واستهلكت أفكارنا، وصرفت أموالنا، وقامت مناسباتنا، ومضى ذهابنا وإيابنا، في تزين بالمظاهر، توارت حقائق المخابر بزيف المظاهر، وأصبحت ترى قواما ولا ترى إنساناً هماما، تعجبك الكلمات وتسقط عندها المواقف والمشاهدات، في ثلة من الناس ليست قليلة يصدق عليها لقب "المزيفون" أسأل الله ألا نكون منهم.

 

المزيفون استفرغوا مهنتهم، ونصبوا همتهم في تطلب مظهرية جوفاء، فغروا واغتروا، وفي الظاهر سرُّوا وفي الباطن ضرُّوا، تلمسوا مجاراة الناس ومقايسهم الشكلية.

 

نعم -أيها الإخوة-: لا شك أن محبة الظهور والتميز أمر جبل الله النفوس عليه، وكل يحب أن يكون مذكوراً بما لم يذكر به غيره، ولهذا حذر الشارع التمادي مع هده الصفة بالباطل والانخداع وراء بريقها الزائل.

 

فالمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور؛ فعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي جارة -تعني ضرة- هل علي جناح إن تشبعت لها بما لم يعطيني؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" أي الذي يستكثر من شيء وهو غير واجد له، وغير مالك له، فيوهم السامع بغير ما هو عليه، فيعامله السامع بناءً على كلامه الكاذب غير الصحيح، فهذا "كلابس ثوبي زور" يعني: أن كلامه وفعله زور، فهو كالمتصف بوصفين ذميمين، وهذه زيادة في الإثم، وزيادة في الضرر.

 

أيها الإخوة: إن الاغترار بالأشكال الظاهرة، والإعجاب بالزخارف البالية الخادعة؛ تبتلى به بعض النفوس حينما تشعر بالنقص والدون، فيضيع مقياس القناعة، ويغيب عن البال قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس".

 

واستمع إلى قصة تلك الأم التي حدث عنها النبي -صلى الله عليه الصلاة والسلام- حينما خدعها المظهر، فتمنت لابنها كمالا خداعاً، ودعت أن يكون ابنها مثل هذا الرجل المظهري، ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- قصتها ليحذر من هذا المسلك، قال: "وكانت امرأة ترضع ابنا لها من بني إسرائيل، فمر بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك ثديها ووأقبل على الراكب، فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثديها يمصه، قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يمص إصبعه، قال ثم مرت بأمة، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها، فقال: اللهم اجعلني مثلها، فقالت: لم ذاك؟ فقال: الراكب جبار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل" [متفق عليه].

 

أرأيت هذا رضيع في حجر أمه، مر رجل مهيب له شارة وعلامة وأبهة، فأعجبت به الأم المسكينة، وخدعها الهندام الظاهر، ودعت أن يكون رضيعها إذا كبر مثل هذه الشخصية المتميزة، فأراد الله أن يعطي الأم درساً في الاختيار للأولاد، وأراد الله أن تبقى القصة آية تحكى للأجيال؛ ليتعظوا ولا ينخدعوا، ينطق الله الصبي الرضيع، نعم تكلم وهو في المهد، وقال بعد دعوة أمه: "اللهم اجعله مثله".

 

تكلم بقدرة الله، وقال: "اللهم لا تجعلني مثله" ثم عاد لثدي أمه يمصه، الله أكبر! ثم مرَّ بعد ذلك بأمة مملوكة يوبخها أهلها، ويتهمونها بالسرقة والزنا، ولكنها بريئة من دلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولم تفعل" فقالت أم الصبي: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه"، فتكلم الرضيع مرة ثانية، وقال: "اللهم اجعلني مثلها".

 

كل هذا ليعطي أمه درساً أن لا تنخدع بما يقال، وأن تفتش وتنظر في الحقائق، فهذه مستضعفه محتقرة عند أسيادها، فمن ينقذها من هذا الظلم؟!

 

ومن إعانة الظالم: أن تصدقه فيما يقوله عمن ظلمه، ثم يتسرب إليك شك في حقيقة المظلوم ونزاهته مما قيل فيه.

 

أيها الإخوة: الدعاوى التي يطلقها الناس بعضهم على بعض، أو يطلقها بعض الناس على أنفسهم حتى يكادوا بتزويرهم وكبرهم، وتلبيسهم للحق، يبلغون عنان السماء علواً وسؤدداً، ولكنه زور وبهتان كالضباب المرتفع، تبدده حرارة الشمس إذا طلعت، وينتهي أمره.

 

هذه حقائق المتكئين على المظاهر، حينما يبنون حياتهم على أمجاد موهومة، ويصفون أنفسهم في غير مصافها فلا بالركب لحقوا، ولا بالحقيقة رضوا وقنعوا، كالقابض على الماء بيده أصابها بلل الماء ولم يمسك منه شيئا.

 

ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض *** على الماء خانته فروج الأصابع

 

وأبلغ من هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم, ولا إلى صوركم, ولكن ينظر إلى قلوبكم" [رواه مسلم].

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

 

أيها الأخ الموفق: إن الناس يقاسون ويوزنون ببواطنهم لا بمظاهرهم، بحقائقهم لا بصورهم، عن سهل الساعدي -رضي الله عنه- أنه قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لرجل عنده جالس: "ما رأيك في هذا؟" فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إذا خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله، قال: فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم مر رجل فقال له رسول -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيك في هذا؟" فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من مل ء الأرض من مثل هذا".

 

"هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا" هذا هو المقياس -أيها الأحبة-، هذا الصحابي الذي سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- قاس الأمور بما نقيس نحن الناس عليه اليوم، الذي يقدم الرجل الشريف صاحب المال والجاه والمركز، هو الذي ينكح وهو الذي يسمع له وهو الذي يلفت الأنظار، وأما ذلك الفقير الصعلوك المعدم لا يؤبه له، ولا ينكح ولا يزوج، ولا يسمع له، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يغير المفاهيم وأن يصحح الأفكار، فقال: "إن هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا".

 

إنها كلمات النبوة في حروف من نور، تحرق ظلمات وموازين الجاهلية الفاسدة.

 

فليست القضية أن تجعل حولك هيلمان وصولجان وفخفخات، فربما كل هذا وما تملك وعشرات أضعافه لا يزن عند الله نفس رجل فقير تقي طائع لله.

 

عباد الله: الأجساد والصور والمظاهر قد تورد الإنسان المهالك إذا سعى خلفها وغره زيفها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].

 

فالمباهات في أمور الدنيا غرور بها، واستحسان لزائل عنك، أو زائل عنها، فلنؤدب أنفسنا بأدب القناعة والرضا بالحقائق والاعتزاز بالباقي لا الاغترار بالفاني، وما عند الله خير وأبقى، فمصالحنا تقضى من غير بهارج.

 

رفقاً -يا متكلف الدنيا-،  فلا -والله- السعادة ولا ميزان العقلاء في بيت تتكلف فيه ما لا قدرة لك عليه إلا بديون ثقال، فبعض المتاع يغني عن بعضه.

 

رفقاً يا من حملتم أنفسكم ديوناً تلاحقكم لتشتروا مركوبات فاخرة، ما حملكم على ذلك إلا لتكون مثل فلان مظاهر ومفاخرة؟

 

رفقاً يا أصحاب النياشين والرتب والوظائف، فملوك الأرض نزلت يوماً عن عروشها إلى قبورها، فعن قريب تغادر مكانك.

 

رفقاً يا قومنا في الزواجات والأفراح والمناسبات حملتنا شهواتنا وتفاخرنا ونساؤنا فزيفنا مناسبتنا بغية المديح والقول المليح في تمظهر خادع قوامه ثلاث ساعات، ونحوه، وخسارته آلاف مؤلفة.

 

رفقاً -أيها الشباب-، ليس الجوال وآخر موديلاته، ولا اللباس وآخر موضاته، ولا قصات الشعر وآخر صيحاته، ليست هي موازين الرجال، وليست ممكن الأنس الحقيقي.

 

ولذا تجد شاباً متأنقاً في كل شيء في سيارته في جواله في لباسه في .. وفي..، ولكن عند الحديث تجد خواءً علمياً وفكرياً وروحياً، ما أكثر طفشه، وما أشد تبرمه.

 

رفقاً يا كتاب الإنترنت وقنوات التواصل، فليست المواعظ وأقوال العلماء والحكماء مما نزين بها رسائلنا لنكتبها فحسب لغيرنا، بل هي أول واعظ لك فهلاّ وقفت حقاً عندها؟!

 

رفقاً يا من ملأت مجالسك وأذان سامعيك بثرائك وأموالك وسفراتك، وقصصك ووعودك، وهي في الحقيقة بعضها أو جُلُّها زيفٌ وكذب وتمظهرٌ ممقوت تريد به أمام الناس تجملاً والناس وإن تبسموا أمامك ورفعوا حواجبهم مجاراة لك إلا أنهم في حقيقة أنفسهم يزدرونك ولايصدقونك، والأيام كفيلة بإخراج الزيف والمزيفين.

 

وإني بهذا الكلام أنبه على أمرين:

 

الأول: ليس من المظهرية ستر ذنوبك، إذا ابتليت بالذنب فاستتر، فحبيبك -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون".

 

الثاني: ليس من المظهرية لبس الجميل ولا ركوب الجميل من السيارات، ولا سكنى الجميل من المنازل، ما دام أنك مستطيعٌ له غير متكلف إياه، فالله جميلٌ يحب الجمال، وما دام أنك تعلم وتوقن أن هذه ليست موازين منازل الناس الحقيقية، وإنما هي نعم يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، وأن الميزان الحقيقي وهو التقوى، ولا يعطيها الله إلا من يحب: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات