وجبت محبتي

توفيق الصائغ

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أهمية المحبة ومنزلتها ومكانتها 2/ عظم آصرة المحبة بين الصحابة 3/ بعض مقتضيات الحب في الله 4/ أهمية الحب في الله وفضله 5/ إخبار المحب وإعلامه بمحبته 6/ بعض آداب الحب في الله

اقتباس

الحب موجب للظل يوم أن تدني الشمس من رؤوس الخلائق، فتكون أدنى منهم، وأقرب منهم، فيبلغ العرق والجهد بالناس كل مبلغ. إن من شدة الموقف يوم ذاك -أعاذني الله وإياكم-: أن الناس يودون لو انصرف بهم ولو إلى جهنم -عياذًا بالله-. في هذا الموقف هناك طائفة في البرد والسلام والظل الظليل، من هم؟ إنهم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله -عز وجل- به الغمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه وتبريكاته على أهله وبيته.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

من قال: إن الحب حرام؟! من الذي حرم على الناس أمرًا هو من إكسير حياتهم، وهو متع ولذاذاة حياتهم، لماذا صارت مفردة الحرام دائرة على الألسن أكثر من دوران الحلال على اللسان، مع أن دائرة الحلال في الشريعة أعظم من دائرة الحرام؟

 

دائرة الحلال في الشريعة أكبر وأوسع من دائرة الحرام التي أصبحت دائرة على ألسنة الناس.

 

إن الله -تعالى- أباح كل شيء، وحرم بعض الأشياء.

 

من الذي زعم أن الحب حرم؟ بل من الذي يستطيع أن يعيش على ظهر هذه الدنيا دون أن يحب أو يُحب؟ أليس الحب إكسير الحياة؟ أليس الحب ألذ لذاذات الحياة، وأعظم متعها على الإطلاق؟ بلى.

 

أورد الإمام ابن القيم في "روضة المحبين" قول الشاعر:

 

إذا أنت لم تعشق ولم تعرف الهوى *** فقم واعتلف تبناً فأنت حمار

 

إذا تصورت بشرًا دون حب، فإنما تتصور جمادًا أو جلمدًا أو صخرًا، ولست أقول: بهيمة من بهائم الأنعام؛ لأن بهائم الأنعام أيضًا تحب وتُحبن وتربط بين بعضها البعض عاطفة وعلاقة.

 

كلاماتنا في الحب تقتل حبنا *** إن الحروف تموت حين تقال

 

لست أعني هذا الحب الذي يشقي المحبين، لست أعني تلك اللوعة، وذلك السهر.

 

فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ *** وَإِنْ وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ

تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ *** مَخَافَةَ فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ

فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ *** وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ

فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ *** وَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي

 

لست أعني هذا النوع من الحب، إنني أعني تلك الرابطة العظيمة التي ليست صنيعة البشرية، ولا تركيبة كيميائية، إنها هبة المولى، ومنة الله -سبحانه وتعالى- إذ يقول: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) [الأنفال: 63].

 

إنني أتحدث عن علاقة الحب الطاهر التي تربط بين اثنين، والتي قامت على عقد المولى -سبحانه وتعالى-، إنها منة الله، وأعطية الإله: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) [آل عمران: 103].

 

إذًا، هو الذي عقد العقد، وربط الآسر، ولذلك كانت هذه العلاقة أسمى ما تكون، وأعلى ما ترتجى.

 

إنها سؤال الأنبياء ومطلبهم، لقد دعا موسى أن يجعل الله له خلًا وفيًا، وإن كان أخًا قريبًا ذا نسب.

 

ودعا الصالحون من قبل إلى الاستكثار من العلاقة، فقال علي -رضي الله عنه-: "عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تستمعون لقول أهل النار: (فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: 100 - 101].

 

يقول الحسن -رضي الله عنه ورحمه-: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا، فإخواننا يذكرونا الآخرة، وأهلينا يذكرونا الدنيا".

 

الحب في الله ليس شعارًا نرفعه، بل هو دثار نلبسه إن كنا محقين، الحب في الله، ولله، علاقة من أسمى العلائق، إنها تلك العلاقة التي يقول فيها الحق -جل جلاله-: "وجبت محبتي للمتحابين في".

 

إنها العلاقة التي تجعل صاحبها على منابر من نور، يغبطهم عليها الأنبياء والصديقون والشهداء لقربهم، ولعلو مراتبهم ومجالسهم، في الحديث الصحيح أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه، قال: إن من الناس ناسًا، ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، أتدرون من هم؟ ليسوا الذين جاهدوا وبذلوا وأعطوا وأنفقوا، إلى آخره، وإنما هم الذين تحركت قلوبهم بعلاقة خاصة، أحبوا في الله ولله، ولذات الله، اجتمعوا عليه، وتفرقوا عليه.

 

إذًا، ليست المحبة في الله شعارًا نبثه في المجالس العامة، ونعطيه للكافة بكلمة واحدة: "إني أحبكم في الله" لا، العلاقة هذه علاقة خاصة تقوم على معطيات منها: الإيثار، ترك حظ النفس، وإعطائه للأخ لقيام رابطة الأخوة، والحب في الله -تعالى-.

 

وأعظم مثال على هذه الرابطة المثال الفردي اليتيم في تاريخ الأمم والدول.

 

أتحدى من هذا الموقع: أن تجد علاقة كطهر هذه العلاقة، وسمو هذه العلاقة، وبذل هذه العلاقة، تلك العلاقة التي عقد آصرتها الله -عز وجل- في السماء، وعقد آصرتها في الدنيا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- بين الأصحاب، فقامت كأعلى ما يكون، وأسمى ما يكون، وجلل الوحي هذه العلاقة بأعطية عظيمة، حين قال: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].

 

إن الإيثار في حالة الخصاصة، وشدة الحاجة، والجوع والفقر، والمسغبة، هو غاية الإيثار، هو أعلى الإيثار.

 

كان أحدهم يأخذ اللقمة من فِيه، ويضعها في فِيه أخيه، كان أحدهم يستبقي لا يستبقي نفسًا فيه، فيقدم الكوز من الماء باردًا له، وهو أحوج ما يكون إليه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) [الحشر: 9] هي هذه العلاقة.

 

ومن آثار هذه العلاقة: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].

 

جاء عبد الرحمن بن عوف من مكة أشعث أغبر، لا يملك شيئًا إلا إزاره الذي يستر سوأته، ورداءه الذي يغطي بعضه ويترك بعضًا، فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع، فقامت علاقة من الحب والود والتواصل والتباذل، فجاء سعد بن الربيع يومًا إلى عبد الرحمن، وقال: يا عبد الرحمن هذا مالي فخذ شطره، هذا حائطي فخذ نصفه، هؤلاء زوجاتي فاختر أحب نسائي إليك، فأنزل لك عنهن.

 

عرفتم لماذا أطلقت هذا التحدي من علاقة ما في الدنيا، وأن أقلام التاريخ، وأن صحف الحضارات، وأن البرقيات، والمخطوطات، لم تنقل لنا أبدًا علاقة بمثل هذا السمو، وبمثل هذا الإيثار؟

 

إن الحب في الله معنى الإيثار غاية الإيثار.

 

جاء ضيف إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فلم يجد رسول الله ما يطعم هذا الضيف، وهذا الضيف تربطه برسول الله علاقة حب، وأصحاب رسول الله يحبون من يحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: من يضيف ضيف رسول الله؟ فأخذه رجل من الصحابة، ثم عمد هو وزوجه، فلم يجد شيئًا إلا طعامًا قليلًا، فآثر به ضيف رسول الله على نفسيهما، بل حتى على ولديهما، ثم أطفأ السراج، وتظاهرا بأنهما يطعمان، ليطعم الضيف، وهو قرير العين، فلما أصبحوا جميعًا ، نامت العيون، وعين الله لا تنام عن  مثل هذه المشاهد، ولا عن غيرها، عين الله لا تنام أبدًا، نقل الوحي هذه الحادثة للتو إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- ليصبحا ورسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: "لقد عجب الله من صنيعكما بضيفيكما البارحة" صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله عليهم أجمعين.

 

يقول عبد الله بن عمر: أهدي لرجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- رأس شاة، فقال: أخي فلان أحوج إليه مني، اذهبوا به إلى فلان، فذهبوا به إلى فلان، فلما وصلوا إلى ذلك الإنسان، فقال: أخي فلان أحوج به مني، اذهبوا به إليه، فلا زال رأس الشاة يدور على سبعة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى انتهى إلى الأول. هذا معنى من معاني الحب في الله.

 

ليس الحب في الله شعارًا، وإنما دثارًا نلبسه.

 

من معاني الحب في الله: التزاور، نقل الأقدام والخطى في سبيل الله، لا على دنيا تجمع بينهم، ولا على علائق تربط بينهم إلا الحب في الله، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في الحديث الصحيح: "أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟" بينكم قضاء ديون، بينكم نعمة، بينكم ردود ومقايضات "قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ".

 

"وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ"

 

الحب في الله ليس شعارًا، إن من مقتضياته: التناصح والتواصي، قال الله -تعالى-: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 3].

 

إذًا، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في معنى التواصي، يحقق ذلك صلى الله عليه وسلم، فيربط على كتف معاذ، ويقول له ذات مرة: "يا معاذ إني أحبك في الله، لا تدع دبر صلاة أن تقول كيت وكيت" والله -تعالى- يقول: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1 - 3].

 

من مقتضيات الحب في الله: التجالس والتباذل، ورأيتم من التباذل والإيثار، وسمعتم من القصص والمقام يطول، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لأصحابه: "مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلُ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ".

 

"وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ".

 

يقول أحدهم: "إني لأضع اللقمة في فم أخي، فأجد طعمها في حلقي".

 

من مقتضيات الحب في الله: التماس الأعذار، لا تقطعه لمجرد أنه لا يرد على هاتفك، لا تتدابر معه لمجرد موقف قد يكون له من التفسير ما لا تعلمه، التماس الأعذار، وأن تكون دائرة الالتماس واسعة جدًا، سبعين عذرًا، فإن لم تجد فاتهم نفسك، لعل له عذرًا لم أعرفه.

 

خذ من خليلك ما صفا *** ودع الذي فيه الكدر

فالعمر أقصر من معا *** تبة الخليل على الغيّر

 

وكنتُ إذا الصديقُ أراد غيْظِي*** وأَشْرَقَنِي على حَنَقِ بريقي

صفحْتُ ذنوبَه وعفوْتُ عنه *** مخافةَ أن أعيشَ بلا صديقِ

 

من مقتضيات الحب في الله: الدعاء بظهر الغيب، أن تحب لأخيك الخير، فإن لم تستطع أن تعطيه فلا أقل من أن تسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبذله له، وأن يعطيه له، وأن يقربه له، يقول أبو الدرداء: "إِنِّي لَأَدْعُو لِسَبْعِينَ مِنْ إِخْوَانِي فِي سُجُودِي، أُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ".

 

طيب، إذا حصل هذا ما الذي يعود على المحب؟

 

يعود له رتب عالية، جزاءات كبيرة.

 

إن علاقة الحب في الله من موجبات الإيمان، أوثق عرى الإيمان، كما قال سيدنا رسول الله: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله".

 

إنك إذا حققت الحب في الله، فإنك تعيش لذة وهنأة وسعادة، لا يجدها أحد الناس، بل لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجلدوك عليها بحد السيوف.

 

"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله".

 

وهذا شرط أساس أن يحب أحدنا من يحسن إليه، من يعطيه، من يقدمه في المجالس، من يمدحه في المجالس، لكن هذه العلاقة شرطها أن تكون في الله، يقول أبو إدريس الخولاني: "دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى شاب براق الثنايا، وإذا الناس معه، إذا اختلفوا في شيء، أسندوا إليه، وصدروا عن قوله، فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل، فلما كان الغد، هجرت، فوجدته قد سبقني بالتهجير، ووجدته يصلي، قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك لله.

 

تدرون من هو هذا الشاب براق الثنايا؟

 

إنه صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل.

 

فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله، فقال: آلله؟ فقلت: آلله.

 

يستحلفه عليه ثلاثًا، يعني ما أحببتني إلا لله؟

 

قال: فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: "وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في".

 

إذًا، لا بد أن تكون في الله ولله، لا على دنيا ولا على أنساب، ولا على غيرها.

 

الحب في الله حلقة في خارطة الطريق إلى الجنة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم".

 

تريد مفتاحًا من أعظم مفاتيح الجنة؟

 

الحب في الله.

 

الحب -يا أحبابي- موجب للظل يوم أن تدني الشمس من رؤوس الخلائق، فتكون أدنى منهم، وأقرب منهم، فيبلغ العرق والجهد بالناس كل مبلغ.

 

إن من شدة الموقف يوم ذاك -أعاذني الله وإياكم-: أن الناس يودون لو انصرف بهم ولو إلى جهنم -عياذًا بالله-.

 

في هذا الموقف هناك طائفة في البرد والسلام والظل الظليل، من هم؟

 

إنهم المتحابون في الله "أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظلَّ إلا ظلي".

 

في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه".

 

أحبابي: الحب في الله موصل لعلو المنزلة، ورفعة الرتبة: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ, يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

الحب في الله موجب للسلامة من العداوة، الأخلاء، والأصحاب، والشركاء، أعداء يوم القيامة إلا من كانت رابطتهم في الله ولله: (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)  [الزخرف: 67].

 

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا) [الفرقان: 27 - 29].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 

أما بعد:

 

إذا حصلت علاقة الحب في الله، فإن هذه العلاقة ينبغي أن تكون علاقة إعلام، يعني إذا كنت تحب أحدًا في الله، فلا تكتم هذا الحب، لا تجعله حبيس الحنايا والضلوع، هذا الصدر لا يقوى على حمل هذه العلاقة المفعمة العظيمة، لا بد أن يخرج إلى العلن في صيغة تعبير؛ عند أبي داود في السنن، من حديث أنس: أن رجلًا كان في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمر رجل، فقال هذا الرجل: "إني أحبه في الله" فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أأعلمته؟" قال: "لا"، فقال: "اذهب إليه فأعلمه أنك تحبه فيه"، فذهب الرجل، وقال: "إني أحبك في الله"، قال: "أحبك الله الذي أحببتني فيه".

 

والنبي -صلى الله عليه وسلم- تمثل هذا حينما قال لمعاذ: "إني أحبك في الله، لا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك".

 

إذا أردت أن تتوثق هذه العلاقة، فليكن بينك وبين من تحب التهادي، التواصل، وليس معنى ذلك أن تبذل له من غالي الأثمان؛ لأن قيمة الهدية في معناها وليس في مبناها، قيمة الهدية ليست فيما ما تبذل فيه من المال، ولكن في أنك تذكرته وخصصته من دون العالمين بهذه الهدية، في الخبر: "تهادوا تحابوا".

 

من آداب الحب في الله: التزاور، كما مر: "وجبت محبتي للمتحابين في، والمجالسين في، والمتزاورين في، والمتبادلين في".

 

وقد قالَ النَّبيّ وكانَ بَرّاً *** إذا زرت الحبيب فزره غبّا

 

كذلك من آداب المحبة أو الحب في الله: إفشاء السلام، وبذل النصيحة، والتقويم على الطريق: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 3]، وأن تكون هذه النصيحة سرًا، وأفضل العتاب ما كان في كتاب.

 

تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي *** وجنِّبني النصيحةَ في الجماعهْ

فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ *** من التوبيخِ لا أرضى استماعه

 

أسأل الله -عز وجل- أن يملأ قلبي وقلوبكم بمحبته وتوقيره، وبمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

اللهم إنا نسألك أن تملأ قلوبنا بمحبته ومحبة أصحابته وقرابته.

 

 

المرفقات

محبتي

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات