من هدايات السنة النبوية (16) موعود النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمته

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته من الفتن 2/ الاستمساك بالسنة طريق النجاة 3/ حديث نبوي يحمل المبشرات في زمان المحن 4/ وقاية الله وحمايته لخير الأمم 5/ التحذير من أعظم ما يفتك بالأمة المسلمة 6/ تحذير للشباب أن يكونوا أداة في أيدي أعدائهم 7/ وجوب التنبه لمخططات الأعداء لبلاد الحرمين

اقتباس

وَفِي هَذِهِ الْحِقْبَةِ الْعَسِيرَةِ مِنَ الزَّمَنِ تَكَالَبَ الْأَعْدَاءُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَكَادُوا لَهَا، وَمَكَرُوا بِهَا، وَتَآمَرُوا عَلَيْهَا، وَبَلَغَ مَكْرُهُمْ أَنْ جَنَّدُوا بَعْضَ شَبَابٍ مِنْهَا ضِدَّهَا بِالْإِفْسَادِ فِيهَا، وَاسْتِحْلَالِ الدِّمَاءِ، وَبَثِّ الْخَوْفِ، فِي مُحَاوَلَاتٍ تِلْوِ مُحَاوَلَاتٍ لِزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ، وَزِيَادَةِ الْفُرْقَةِ، وَإِشْعَالِ نِيرَانِ الْفِتْنَةِ الَّتِي لَوِ اشْتَعَلَتْ لَأَكَلَتِ الْأَخْضَرَ وَالْيَابِسَ؛ وَلَمكَّنَتِ الْأَعْدَاءَ المُتَرَبِّصِينَ مِنْ مَفَاصِلِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَاسْتُبِيحَ الحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ، فَلَا يَأْمَنُ حَاجٌّ وَلَا مُعْتَمِرٌ وَلَا مُجَاوِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُعْبَدُ اللهُ -تَعَالَى- فِي بَيْتِهِ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للَّـهِ الْبَاسِطِ الْقَابِضِ، المَانِحِ المَانِعِ؛ ?لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا? [الفرقان: 2] نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ.

 

 وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ حَكِيمُ الْفِعَالِ، شَدِيدُ المِحَالِ، طَوِيلُ الْإِمْهَالِ، عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ؛ يُنْذِرُ عِبَادَهُ قَبْلَ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ، وَيُخَوِّفُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُمْ،  ?وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ? [الأعراف: 183].

 

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ خَيَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بَيْنَ بَقَائِهِ فِي الدُّنْيَا مَعَ الْجَنَّةِ وَبَيْنَ لِقَائِهِ وَالْجَنَّةِ فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ، وَقَدَّمَ جِوَارَهُ عَلَى جِوَارِ خَلْقِهِ، وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ الدُّنْيَا كُلَّهَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَقِيمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَأَخْلِصُوا لَهُ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَاجْتَمِعُوا عَلَى دِينِهِ وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ رَحْمَةٌ، وَإِنَّ الْعَذَابَ فِي الْفُرْقَةِ ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [آل عمران: 105].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ نُصْحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأُمَّتِهِ أَنَّهُ بَشَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، وَرَغَّبَهُمْ وَرَهَّبَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ لِيَسْتَبْشِرُوا بِهِ وَلَا يَيْأَسُوا، وَمَا يَقَعُ مِنَ الْفِتَنِ وَالشَّرِّ لِيَخَافُوا وَيَحْذَرُوا.

 

عَلَّمَهُمْ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مَا يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنْ عِزِّ أُمَّتِهِ وَرِفْعَتِهَا وَمَجْدِهَا كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِمَا يُصِيبُهَا مِنَ المِحَنِ، وَمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْفِتَنِ، فَجَلَّى لَهُمْ أَسْبَابَهَا، وَدَلَّهُمْ عَلَى سُبُلِ النَّجَاةِ مِنْهَا، فَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ دُلَّ الطَّرِيقَ فنُجِّيَ، وَمَنْ حَادَ عَنْهَا تَاهَ وَافْتُتِنَ.

 

وَهَذَا حَدِيثٌ عَنْ خَبَرٍ مِنْ أَخْبَارِهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي مُسْتَقْبَلِ الْأُمَّةِ، وَقَعَ بَعْضُهُ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَلَا يَزَالُ يَقَعُ، وَبَعْضُهُ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ. 

 

عَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

 وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي رِوَايَتِهِ: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّـهِ».

 

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ إِذْ بَلَغَ مُلْكُهَا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَجَمَعَ اللهُ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهَا الْأَرْضَ فَرَأَى مُلْكَ أُمَّتِهِ أَيْنَ سَيَبْلُغُ، وَهَذَا مِنْ إِكْرَامِ اللَّـهِ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ إِذْ حَبَاهُ هَذِهِ المُعْجِزَةَ الْعَظِيمَةَ حِينَ زَوَى لَهُ الْأَرْضَ.

 

وَأَعْطَاهُ اللهُ -تَعَالَى- الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَهُمَا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ،  وَهُمَا كَنْزُ الرُّومِ وَالْفُرْسِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثٍ آخَرَ مَصِيرَ كُنُوزِهِمَا إِذَا غَنَمَتْهَا الْأُمَّةُ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ إِذْ فُتِحَتِ الرُّومُ وَفَارِسُ، وَنُقِلَتْ كُنُوزُهُمَا إِلَى المَدِينَةِ، وَأُنْفِقَتْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ –تَعَالَى-، وَنَشْرِ الْإِسْلَامِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ.

 

وَمِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمَّتِهِ، وَرَحْمَتِهِ بِهَا، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا أَنَّهُ سَأَلَ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ فَأَجَابَهُ اللهُ -تَعَالَى- وَأَعْطَاهُ مَا سَأَلَ؛ فَإِنْ أَجْدَبَتْ بِلَادٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَخْصَبَتْ أُخْرَى لَهُمْ، وَإِنْ أَصَابَ الْغَلَاءُ وَالْجُوعُ بَعْضَهُمْ نَجَا بَقِيَّتُهُمْ.

 

وَسَأَلَ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ –أَيْ: جَمَاعَتَهُمْ وَأَصْلَهُمْ- وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَرَادَ أَنَّهُ لَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ فَيُبِيدُهُمْ.

 

وَهَذَا مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَدَلَّ التَّارِيخُ وَالْوَاقِعُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ التَّتَرَ وَالصَّلِيبِيِّينَ سَعَوْا إِلَى اسْتِئْصَالِ المُسْلِمِينَ وَإِبَادَتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ عَجَزُوا وَارْتَدُّوا خَاسِرِينَ.

 

وَفِي الِاسْتِعْمَارِ الْقَدِيمِ وَالِاسْتِعْمَارِ الْحَدِيثِ حَاوَلَ الشِّيُوعِيُّونَ وَالرَّأْسِمَالِيُّونَ اسْتِئْصَالَ الْإِسْلَامِ فَمَا أَفْلَحُوا، وَلَا زَالَ الرَّأْسِمَالِيُّونَ يُحَاوِلُونَ وَلَنْ يُفْلِحُوا، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مِنَ السِّلَاحِ النَّوَوِيِّ مَا يُدَمِّرُ الْأَرْضَ بِأَكْمَلِهَا وَيَعْجَزُونَ عَنْ إِبَادَةِ المُسْلِمِينَ بِهِ خَوْفًا مِنِ ارْتِدَادِهِ عَلَيْهِمْ؛ وَلِذَا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهَا أَسْلِحَةُ رَدْعٍ لَيْسَ غَيْرُ.

 

فَتَقَعُ سُنَّةُ اللَّـهِ -تَعَالَى- الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا يُسَلَّطُ عَلَيْهَا عَدُوٌّ فَيَقْدِرُ عَلَى إِبَادَتِهَا بِكَامِلِهَا، مَعَ أَنَّ المِلَلَ كُلَّهَا تُبْغِضُ مِلَّتَهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ وَهِيَ بَاطِلٌ، فَهِيَ أُمَّةٌ بَاقِيَةٌ تَحْمِلُ دِينَهَا إِلَى حِينِ نُزُولِ المَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ.

 

وَلَكِنْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي الْأُمَّةِ، وَتَشْتَعِلُ فِيهَا الْفِتَنُ الَّتِي تَصِلُ بِأَفْرَادِهَا إِلَى اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِرْخَاصِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَا جَاءَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْأُمَّةِ فَبَعْضُهَا يُهْلِكُ بَعْضًا؛ تَنَافُسًا عَلَى الدُّنْيَا، أَوْ عَصَبِيَّةً أَوْ تَأَوُّلًا بِجَهْلٍ أَوْ بِهَوًى أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا.

 

وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ»، وَهُمْ رُؤُوسُ النَّاسِ المُقْتَدَى بِهِمْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَيُسَيِّرُونَهُمْ عَلَى وَفْقِ أَهْوَائِهِمْ فَيُضِلُّونَهُمْ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ.

 

وَإِذَا وُجِدَ الضَّلَالُ فِي الْأُمَّةِ اسْتُبِيحَتِ الدِّمَاءُ لِأَجْلِ تَحْقِيقِ الْأَهْوَاءِ، وَالتَّنَافُسِ عَلَى الدُّنْيَا؛ وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ: فَلَا يَتَوَقَّفُ اقْتِتَالُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا سَكَنَتِ الْفِتَنُ فِي بَلَدٍ اشْتَعَلَتْ فِي بِلَادٍ أُخْرَى، وَإِذَا سَكَنَتْ فِي زَمَنٍ عَادَتْ فِي أَزْمِنَةٍ أُخْرَى وَهَكَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:  ?أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ? [الأنعام: 65].

 

 وَهَذَا مِنَ الِابْتِلَاءِ الْعَظِيمِ لِأَفْرَادِ الْأُمَّةِ بِأَنْ يَتَلَمَّسُوا دَرْبَ النَّجَاةِ إِذَا أَظْلَمَ الزَّمَانُ بِالْفِتَنِ، وَأَنْ يَجْتَنِبُوا الْأَهْوَاءَ إِذَا أَخَذَتْ بِنَوَاصِي النَّاسِ إِلَى ذَهَابِ دِينِهِمْ، وَفَسَادِ أَمْرِهِمْ.

 

وَمَعَ كَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ، وَاخْتِلَاطِ الْأَمْرِ، يَلْحَقُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ بِالمُشْرِكِينَ، وَهَذَا وَقَعَ فِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ ارْتَدَّتِ الْعَرَبِ فَلَحِقَتْ قَبَائِلُهُمْ بِالمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مُسْتَمِرُّ الْوُقُوعِ بِسَبَبِ الْأَهْوَاءِ وَحُبِّ الدُّنْيَا؛ وَلِذَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ».

 

 وَقَدْ تَبْلُغُ الْأَهْوَاءُ وَالِانْحِرَافَاتُ بِأَهْلِهَا مَبْلَغَ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ؛ لِنَيْلِ الشَّرَفِ وَالْوَجَاهَةِ، وَتَكْثِيرِ الْأَتْبَاعِ، وَالِاسْتِحْوَاذِ عَلَى مُتَعِ الدُّنْيَا، وَهَذَا مَا أَخْبَرَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: «وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلَاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي».

 

وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لِئَلَّا يُخْدَعَ النَّاسُ بِمَنْ يُظْهِرُونَ خَوَارِقَهُمْ بِالسِّحْرِ وَالشَّعْوَذَاتِ مُدَّعِينَ أَنَّهَا مُعْجِزَاتٌ، وَيَخْدَعُونَ النَّاسَ بِفَصِيحِ الْكَلَامِ، فَيُصَدِّقُونَهُمْ إِذَا ادَّعَوُا النُّبُوَّةَ، فَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، حَتَّى إِنَّ المَسِيحَ حِينَ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا يَأْتِي بِشَرْعٍ جَدِيدٍ.

 

وَمَعَ كَثْرَةِ الضَّلَالِ الَّذِي يَنْتَشِرُ فِي الْأُمَّةِ، وَاسْتِحْكَامِ الظَّلَامِ الَّذِي يُغَطِّي أَنْوَارَ النُّبُوَّةِ؛ فَإِنَّ الْخَيْرَ لَا يُعْدَمُ فِي الْأُمَّةِ، بَلْ يَبْقَى طَائِفَةٌ مِنْهَا عَلَى الْحَقِّ لَا يُبَارِحُونَهُ وَلَوْ قُتِّلُوا وَحُرِّقُوا وَقُطِّعُوا فَهُمْ ثَابِتُونَ عَلَيْهِ، فَلَا تُغَيِّرُهُمُ الدُّنْيَا عَنْ دِينِهِمْ، وَلَا تَمِيدُ بِهِمُ الْفِتَنُ عَنْ مَنْهَجِهِمْ، وَلَا يَتِيهُونَ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ، وَهُمُ المُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّـهِ».

 

وَبِذِكْرِهِمْ خُتِمَ الْحَدِيثُ حَتَّى لَا يَسْتَبِدَّ الْيَأْسُ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلِكَيْ يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْرَادِ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَلْقَى اللهَ -تَعَالَى- أَوْ يَكْتُبَ لَهَا النَّصْرَ، فَلَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ مَعَ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَيُرِيدُونَ رِضْوَانَهُ، وَلَا يَتَعَامَلُونَ مَعَ الْخَلْقِ، وَلَا يَلْتَمِسُونَ رِضَاهُمْ.

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ، وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْحَقِّ إِلَى المَمَاتِ، وَأَنْ يُعِيذَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ وَالْأَهْوَاءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ ?وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ? [البقرة: 123].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: بَانَ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَفْتِكُ بِالْأُمَّةِ تَسْلِيطُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يُفْنِيَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَزْمَانِ وَالْبِلَادِ.

 

وَفِي هَذِهِ الْحِقْبَةِ الْعَسِيرَةِ مِنَ الزَّمَنِ تَكَالَبَ الْأَعْدَاءُ عَلَى الْأُمَّةِ، وَكَادُوا لَهَا، وَمَكَرُوا بِهَا، وَتَآمَرُوا عَلَيْهَا، وَبَلَغَ مَكْرُهُمْ أَنْ جَنَّدُوا بَعْضَ شَبَابٍ مِنْهَا ضِدَّهَا بِالْإِفْسَادِ فِيهَا، وَاسْتِحْلَالِ الدِّمَاءِ، وَبَثِّ الْخَوْفِ، فِي مُحَاوَلَاتٍ تِلْوِ مُحَاوَلَاتٍ لِزَعْزَعَةِ الْأَمْنِ، وَزِيَادَةِ الْفُرْقَةِ، وَإِشْعَالِ نِيرَانِ الْفِتْنَةِ الَّتِي لَوِ اشْتَعَلَتْ لَأَكَلَتِ الْأَخْضَرَ وَالْيَابِسَ؛ وَلَمكَّنَتِ الْأَعْدَاءَ المُتَرَبِّصِينَ مِنْ مَفَاصِلِ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَاسْتُبِيحَ الحَرَمَانِ الشَّرِيفَانِ، فَلَا يَأْمَنُ حَاجٌّ وَلَا مُعْتَمِرٌ وَلَا مُجَاوِرٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُعْبَدُ اللهُ -تَعَالَى- فِي بَيْتِهِ.

 

وَهَذَا مِنَ الْإِفْسَادِ الَّذِي نَهَى اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ?وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا? [الأعراف: 56]، وَلَا يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ المَفْتُونُونَ أَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الطَّائِشَةِ إِنَّمَا يَخْدُمُونَ أَعْدَاءَهُمْ وَأَعْدَاءَ أُمَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يُعَجِّلُونَ بِتَحْقِيقِ مُخَطَّطَاتِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ الْفُرْسِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ لِرَأْبِ الصَّدْعِ، وَنَبْذِ الْفُرْقَةِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ؛ لِمُوَاجَهَةِ الْأَخْطَارِ الْكُبْرَى الَّتِي تَحِيكُهَا الْقُوَى الِاسْتِعْمَارِيَّةُ الطَّامِعَةُ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، السَّاعِيَةُ لِفَنَائِهِمْ، وَمَحْوِ دِينِهِمْ.

 

وَلَوْ عَلِمَ هَؤُلَاءِ الْأَغْرَارُ المَخْدُوعُونَ حَجْمَ جَرَائِمِهِمْ فِي الْإِفْسَادِ فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ، وَتَفْجِيرِ المَسَاجِدِ، وَقَتْلِ النَّاسِ؛ لَكَفُّوا عَنْ ذَلِكَ، فَكَمْ جَنَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأُمَّتِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ! وَكَمْ خُدِعُوا مِمَّنْ يُجَنِّدُونَهُمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ!

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَكْبِتَ المُفْسِدِينَ، وَأَنْ يُعْلِيَ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَالْدِّينِ، وَأَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّ الْكَائِدِينَ وَالْحَاقِدِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

هدايات السنة النبوية (16) موعود النبي صلى الله عليه وسلم في أمته

هدايات السنة النبوية (16) موعود النبي صلى الله عليه وسلم في أمته - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات