لغتنا والتحديات

يوسف بن محمد الدوس

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: قضايا اجتماعية
عناصر الخطبة
1/ اعتناء الأمم بلغاتها 2/ فضائل اللغة العربية 3/ صور من اعتناء السلف باللغة العربية 4/ صور من ضعف الاعتناء باللغة العربية في البلاد العربية 5/ غزو اللغات الأجنبية لبلادنا 6/ الهزيمة النفسية والرطانة بلغة العجم 7/ واجبنا نحو اللغة العربية 8/ حكم تعلم اللغات الأخرى.

اقتباس

اللغة هي أبرز هوية تنافس عنها الأمة، وتجاهد في سبيل ثباتها وظهورها وسيادتها. اللغة هي التي تعكس قوة أمة أو ضعفها. اللغة هي التي تدل على تماسك ذلك الشعب أو تشتته. ما بالكم يا عباد الله بلغتنا العربية التي نزَل بها القرآن، وتكلم بها الخالق -جل في علاه-، .. إن اللغة العربية الشريفة لها حقّ علينا حقيق، فمن بعض حقها أن نقوم بما يليق بها، وأن نرعى قدرها في كل منسوب إليها، وأن نسعى لنجدتها من كل ضر مسَّها، أو تطاول عليها مارق، أو حزبها أمر...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

 أما بعد: عباد الله: فاتقوا الله -جل في علاه- اتقوا الله وامتثلوا أمره، واستجيبوا لما في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

 

أيها المؤمنين: المتأمل في تاريخ الأمم والمجتمعات وتعاقب الأمجاد والحضارات يلقى فيها ركنًا ركينًا وقطبًا من أقطابها متينًا، يُعدّ من أهم ثوابتها وأصولها ورواسخها، وسبب نشأتها وقيامها، ذلكم هو لسانها ولغتها:

 وإذا طلبت من العلوم أجلّها *** فأجلّها منها مقيم الألسن

 

اللغة -يا عباد الله- اللغة هي أبرز هوية تنافس عنها الأمة، وتجاهد في سبيل ثباتها وظهورها وسيادتها.

 

اللغة يا عباد الله هي التي تعكس قوة أمة أو ضعفها.

اللغة هي التي تدل على تماسك ذلك الشعب أو تشتته.

 

ما بالكم يا عباد الله بلغتنا العربية التي نزَل بها القرآن، وتكلم بها الخالق -جل في علاه-:

لغة إذا وقعت على أسماعنا *** كانت لنا برداً على الأكباد

ستظل رابطة تؤلِّف بيننا *** فهي الرجاء لناطق بالضاد

 

نحن أيها الإخوة الكرام إن كنا في اليوم العالمي للغة العربية؛ فإن دفاعنا عن لغتنا ومنافحتنا عنها في كل يوم من أيام السنة نعتز بها، ونرفعها شعارًا لنا في كل أحوالنا واجتماعاتنا وكتباتنا وحق لها ذلك.

 

إن اللغة العربية الشريفة لها حقّ علينا حقيق، فمن بعض حقها أن نقوم بما يليق بها، وأن نرعى قدرها في كل منسوب إليها، وأن نسعى لنجدتها من كل ضر مسَّها، أو تطاول عليها مارق، أو حزبها أمر.

 

لغتنا العربية اليوم، وفي عصر أنماط العولمة وغلبة الكثير من اللهجات، وثورة التقنيات وانفجار المعلومات والفضائيات والقنوات والشبكات ووسائل التواصل المختلفة؛ أضحت لدى كثير من المسلمين اليوم في خفوت، ورياحها الشجية العبقة في هفوت، فلقد أولينا اللغة حربًا علمنا ذلك أو لم نعلم، وتجاهلنا قيمتها وأثرها في نفوسنا وفي تاريخنا.

 

لقد كان سلفنا الصالح -يا عباد الله- يعنون بالعربية، ويعاقبون صبيانهم على اللحن، ويجازونهم ويثيبونهم على الفصاحة؛ إذا أحسنوا البيان.

 

يقول الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "تعلموا العربية؛ فإنها تُنبت العقل، وتزيد المروءة".

 

وكتب كاتبٌ لأبي موسى الأشعري خطابًا لعمر -رضي الله عنه- فبدأه بقوله: "من أبو موسى"، فغضب عمر وكتب إلى أبي موسى: أن اضرب ذلك الكاتب سوطًا، واستبدله بغيره، كل ذلك غيرةً من عمر -رضي الله عنه- على لغة القرآن.

 

وسمع الأعمش رجلاً يلحن في كلامه، فقال: "من الذي يتكلم وقلبي منه يتألم

وكان الحسن البصري -رحمه الله- يقول: "ربما دعوت فلحنت في دعائي، فأخاف ألا يُستجاب لي".

 

وكان أيوب السيختاني -رحمه الله- وهو من علماء اللغة إذا لَحَن في حديثه استغفر الله.

وسمع الخليفة المأمون بعض ولده يلحن، فقال: "ما على أحدكم أن يتعلم العربية؛ يُصلِح بها لسانه، ويفوق أقرانه، ويقيم أوده، ويزين مشهده، ويُقِلّ حجج خصمه بمسكتات حكمه".. هكذا كانوا مع اللغة، والأخبار في ذلك كثيرة.

 

اللغة -يرعاكم الله- هي كما قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: "أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، ولها مكانتها العظمى في هذا الدين".

 

يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ ولا يُفهَم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

 

ويقول -رحمه الله-: "ومعلوم أن تعلُّم العربية وتعليمها فرض على الكفاية"، أي: إذا قام به البعض سقط عن الباقي.

 

والعجيب في تاريخنا الإسلامي -يا رعاكم الله- في تاريخنا العظيم المجيد، وفي تاريخ هذا الدين العظيم أن أبناء الأمم الأخرى في حِقَبِ القوة والشموخ لهذه الأمة من الفرس والروم وغيرهم هم الذين كانوا يتسابقون إلى تعلُّم لغة القرآن، وكانت المساجد تضجُّ بحِلَق تعليم اللغة العربية.

 

أرأيتم -يا رعاكم الله- كيف يتهافت شبابنا اليوم على تعلُّم اللغة الأجنبية والسفر شرقًا وغربًا كانوا؛ كذلك في هذا الزمن تجاه اللغة العربية يَفِدُون إلى بغداد، وإلى عواصم الأمة ويتسابقون إلى حِلَق تعليم اللغة العربية، ويعدُّون ذلك مظهرًا من مظاهر إثبات الذات والتميز والقوة العلمية والعقلية، بل هم الذين نبغوا فيها، وشاركوا على نحو مُدهَش في وضع قواعدها، وجمع معاجمها؛ انطلاقًا من الشعور الإسلامي العظيم الذي تغلغل في قلوبهم.

 

وأظن أن أسماء مثل سيبويه والبخاري والإمام مسلم -رحمهم الله جميعًا-، وغيرهم كل أولئك لم يكونوا عربًا، بل وفدوا وتعلموا العربية، وأبدعوا فيها ونبغوا فيها وألفوا وكتبوا وقعَّدوا، وكان لهم العز بذلك كله.

 

وفي كل أرجاء الأمة تترد أصداء هذا الحديث النبوي فيما يروى عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "وإنَّ العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ، إنما هي لسان، فمنْ تكلَّمَ بالعربيةِ فهو عربي"، والحديث هذا في إسناده ضعف، ولكنه صحيح في معناه كما أخبر بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.

 

يا أهل اللغة يا أصل الضاد: تمسكنا باللغة من أهم الوشائج في وجه الفتن المزلزلة والمحن المتراكمة المدمرة، لذلك تنمَّر الأعداء للغتنا، وكشفوا عن نيتهم السوداء تجاهها، وقال قائلهم: "إننا لن ننتصر على المسلمين ما داموا يقرءون القرآن، ويتكلمون العربية، فيجب أن نزيل القرآن من وجوههم ونقتلع العربية من ألسنتهم".

 

وخابوا وخسروا وأيم الله، بل أعلنوا عليها حربًا ضروسًا، وأظهروا وجهًا عبوسًا، وأنفقوا الغالي والنفيس لتغريب اللسان العربي، وقطْعِه عن منابع البلاغة والأصالة، لكن ما نقول إلا ما قال الشاعر:

وما على العنبَر الفوَّاحِ من حرجٍ *** أن ماتَ من شَمِّه المأفونُ والنَّتِنُ

 

معاشر المسلمين: واجهت الأمة تحدِّيًا سافرًا في لغتها، في محاولات يائسات لإماتة اللغة، بل لمحوها من الوجود في البلدان العربية، وكان الاستعمار إبَّان بدايته على بلدان المسلمين كان من أولى مهماته محو اللغة، واستبدالها باللغات الأجنبية، أو إحياء العامية، فقد شهدت بلدان المغرب والشام ومصر محاولات شرسة باءت بالفشل حتى كلُّوا وملُّوا وأيقنوا أنهم:

كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْمًا ليوهنها *** فَلَمْ يَضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ

 

لذلك -أيها الإخوة- من إدراك مسئوليتنا تجاه اللغة إحياؤها، والتكلم بها، وإظهار ذلك والترنم بها ما دمنا نردِّد كلام الله -سبحانه وتعالى- بلغتنا التي حقَّ لنا أن نفخر بها فهي لغة ثابتة إلى قيام الساعة ما دامت مقرونة بكتاب الله -سبحانه وتعالى-.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله.

 

أما بعد: عباد الله: إن لغتنا العربية لم تضعُف، ولن تضعف بحال من الأحوال -بإذن الله-، ولكن ضعُف أبناؤها وقصَّر حُماتها، وإن من الظلم والحيد أن يَتَّهم هؤلاء الأبناء العاقون الكسالى لغتهم من غير حُجة ولا برهان، ومسكين واللهِ ذلك المثقف الذي ضعُف وتخاذل فشرَّق وغرَّب يفتِّش لعله يجد له ملجأً أو مدخلاً، عندما تملَّص من لُغته وهُويته، ورأى السيادة والحضارة عند أمم أخرى تيمم تلقاءه.

 

ما الذي يريده هؤلاء المساكين؟ هل يريدون أن ينسلخوا من هويتهم، فيهاجروا بألسنتهم وعقولهم إلى أعدائهم، ويتحولوا إلى مخلوقات تفكِّر بعقولٍ غير عقولها، ورطانة بلسانٍ غير لسانها؟ هل يتخلون عن هويتهم ودينهم وعزهم بسبب نظرة ضيقة ومنفعة آنية هي في مآلها ومصيرها ضرر ماحق وخطر داهم وبلاء محدق؟!

 

وليس هذا حربًا على تعلم اللغات الأخرى، لا والله، ولكنه من بيننا من يدعو إلى التخلي عن اللغة العربية واعتماد اللغات الأخرى في التعليم وغيره؛ لأن ذلك مرتبط بالتقدم والحضارة.

 

ويحدثك آخرون عن سوق العمل فترى مخبولين فخورين يباهون في بعض كلياتهم وأقسامهم بأنهم يدرسون جميع العلوم بلغة أجنبيه؛ بحجة أن سوق العمل يتطلب ذلك، وهي حجج يعلم الله أنها واهية، ويعلم ذلك العقلاء، وكل مَن له أدنى مسكة من عقل وحكمة.

 

بل هي حجة أوهى من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، لكنها أحوال تُذكِّر بعهود التسلط والاستعمار في بعض البلدان، وما أشبه الأجواء الثقافية في عهد العولمة بالأجواء الثقافية بعهد الاستعمار البائس؛ من حيث تسويغ الاستلاب الثقافي والديني عن طريق الهجوم الشرس على اللغة، ورموزها وزعزعتها في حياة الأمة، وإحلال اللغة الأجنبية بمسوغات بالية.

 

حين يحدِّثونك عن اللغة وسوق العمل ليتهم يحدِّثونك عن مصطلحات علمية محدودة، لكان الأمر هينًا، ليتهم يتكلمون عن تقنيات متقدمة أو اتصال بجديد من العلوم ونحوها، ولكنه مع الأسف الشديد ليس سوى إتاحة لعمالة وافدة متوسطة التأهيل ومتدنية الكفاءة تتربع على مواقع العمل في المؤسسات والشركات والأسواق والتجارة؛ مهمتهم عرض البضائع، وترويج السلع، وترتيب المستودعات، وتقييد السجلات، وضبط المراسلات، ثم جعلناهم قدوات وهم أصحاب سوق عمل.

 

سوق عمل مخزٍ تحولت فيه المستشفيات والفنادق والمطاعم، وبعض أقسام الجامعات والأسواق في كثير من البلدان العربية، وكلٌّ منا شاهد ذلك عند سفره إلى أقرب دولة إلينا، وهو يجد ذلك في معارض التجارة واللوحات الإعلانية والتجارية تحوَّل كل ذلك  إلى بيئات أجنبيه، يتبادل فيها أبناء الأمة لغة أو لغات أجنبية حتى تحولت قوائم الأطعمة، وأنت تجلس على مقعد المطعم أو تتجول في السوق والأسعار، وما إلى ذلك، تحول كله إلى اللغة الأجنبية فرَضت وجودها وأنماطها على شرائح واسعة من أجيال الأمة حتى ترسخ في أذهان شبابنا وجيلنا أنه لا تقدُّم ولا حضارة ولا فهمًا إلا بكل ما هو أجنبي.

 

ثم امتد ذلك على اللباس والهيئة والموضة وأسلوب المشي، وما إلى ذلك مما نراه من تخنث وتميع في أوساط شبابنا اليوم، والله المستعان.

 

أما كان الأجدر بهؤلاء إن كانوا وطنيين مخلصين أن يجعلوا تحدُّث لغتهم شرطًا أساسًا للعمالة الوافدة إلى بلداننا، بدلاً من إجبار أبنائنا أن يتحدثوا لغة أجنبية من أجل بعض أولئك!  إن هذا والله لانتكاسة عجيبة.

 

وتعلم اللغة أو اللغات الأخرى مهم، نعم هو مهم ولا أحد ينكر ذلك، ولكن الخطر أن يمتد إلى هوية الشباب، وإلى كل جوانب حياتك، وإلى أن تشعر بالغربة وأنت في بلادك وعلى أرضك، فأيّ وطنية هذه؟! وأي سيادة هذه؟!

 

إن كل مَن وطئ بلادنا عليه أن يتكلم بلغتنا، وكل الأمم المتقدمة تفعل ذلك، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تكون في مطعم فرنسي مثلاً، في باريس، وتتكلم باللغة العربية أو الإنجليزية، بل تجد نفسك مجبرًا على أن تتكلم اللغة الفرنسية؛ لأنهم يدركون ماذا يعني أن يتكلم الوافد بلغتهم الفرنسية على أرضهم.

 

أئمة اللغة الفصحى وقادتها *** ألا بدارا فإن الوقت كالذهب 

ردّوا إلى لغة القرآن رونقها *** هيّا إلى نصرها في جحفل لّجِب

 

الحديث ذو شجون عن لغتنا الحبيبة، ولكني أسأل الله -جل وعلا- أن يحفظ لغتنا من كل مكروه، وأن يحيي جمالها في نفوسنا وعلى ألسنتنا وكتباتنا، وأن يظهر أثرها في كل جوانب حياتنا، وأن تعود الأمة إلى عزها، وأن نكون مؤثرين لا متأثرين، وأن نكون ممن يصدر الحضارة والرقي والتميز بكل ما نملكه من قيم ولغة، وكل ما جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم:4].

 

ثم صلوا وسلموا على رسولكم؛ امتثالاً لأمر ربكم الذي أمركم بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

والتحديات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات