حصير في ظل شجرة

راشد بن مفرح الشهري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ هوان الدنيا وحقارتها 2/ موقف المؤمن من الدنيا 3/ الدنيا دار زوال والآخرة دار القرار.

اقتباس

الدنيا وما أدراك ما الدنيا كما غرتنا! وفي شهواتها أغرقتنا، وبلهوها أشغلتنا، وما هي إلا متاع الغرور، وكل ما فيها حتمًا يزول، فعلام نقدِّم الدنيا على الآخرة هي زائلة زائفة؟! الدنيا دار زوال والآخرة دار القرار أقول هذا أيها الإخوة الفضلاء في زمن تكالب الناس فيه على الدنيا يأكلون الحلال والحرام، يأكلون الحلال والشُّبَه بالحرام، وتقاتلت الأسر واختلفت الأزواج كل ذلك من أجل الدنيا، وضيعنا كثيرًا من عبادتنا كل ذلك شغف بالدنيا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله كتب الفناء على هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين التقوى وعقبى الكافرين النار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تدركه الأوهام، ولا تبلغه الأفهام، ولا يشبه الأنام، حي لا يموت، قيوم لا ينام.

 

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيه المصطفى، وخليله المجتبى، كل دعوة للنبوة بعده فغيّ وهوى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

 

يجمع الناس كلهم في صعيد ويقسمون إلى شقي وسعيد، فقوم قد حل بهم الوعيد وقوم قيامتهم نزهة وعيد، فاتقوا الله حق التقوى واعملوا ليوم الحسنى والمزيد.

 (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

اللهم اجعلنا من المتقين المحسنين..

 

عباد الله: الدنيا وما أدراك ما الدنيا كما غرتنا! وفي شهواتها أغرقتنا، وبلهوها أشغلتنا، وما هي إلا متاع الغرور، وكل ما فيها حتمًا يزول، فعلام نقدِّم الدنيا على الآخرة هي زائلة زائفة؟!

 

وإذا أردتَ -عبد الله- أن تعرف حقيقة الدنيا، فاسمع لخالقها واصفًا لها مبينًا لحالها، قال الله -جل جلاله-: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60].

 

وصفها أيضًا فقال جل وعلا: (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً)، وعندما تفرح بالدنيا ومتاعها يذكرنا الكريم فضل الجنة العظيم (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد:26].

 

عباد الله: الدنيا دار زوال والآخرة دار القرار (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39]، أقول هذا أيها الإخوة الفضلاء في زمن تكالب الناس فيه على الدنيا يأكلون الحلال والحرام، يأكلون الحلال والشُّبَه بالحرام، وتقاتلت الأسر واختلفت الأزواج كل ذلك من أجل الدنيا، وضيعنا كثيرًا من عبادتنا كل ذلك شغف بالدنيا.

 

قال الكريم العظيم -جل وعلا- مفرقًا بين الدنيا ووعده الصادق في الآخرة (أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص:61].

 

(أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا) أي ينتقل إلى ربه، ويكون من أهل الجنان، هذا هو الوعد الحسن وسماها ربنا -جل وعلا- متاعًا فقال: (وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:35].

 

وسماها متاع الغرور (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "أي تغرّ المؤمن وتخدعه، فيظن طول البقاء وهي فانية".

 

وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: "هذا تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها، وأنها دنية فانية قليلة زائلة؛ كما قال الله (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16- 17].

 

احذر من التفريط في أمر الهوى *** وابكِ على ما فات من خذلان

قصَّرت في حق الإله ولم تزل *** تعصيه في سرٍّ وفي إعلان

غمستك دنياك التي أوليتها *** حظًّا كبيرًا من هوى الشيطان

أغراك زخرفها وبِتَّ معلقًا *** بالمال تجمعه وبالولدان

ويروح عمرك تعمر البيت الذي *** يومًا ستتركه لبيت ثانِ

لا أنت قد حقَّقت فيها بغية *** كلا ولن تعمل لنيل الجنان

اترك لذيذ النوم وانهض خائفًا *** دع مهجع الكسلان للكسلان

أيقظ ضميرًا غافلاً متشبثًا *** بلذائذ الدنيا وبالأدران

واسع لعلم إن سلكت مساره *** أبشر بفيض من رضى المنان

اقرأ ودع عنك الخلائق كلهم *** واجمعه علمًا راسخ البنيان

واصحبه خلًّا صالحًا ترقى به *** سابِقْه للخيرات والإحسان

واسأل إله الكون واستعن *** جدِّده إخلاصًا مدى الأزمان

واصدق مع الرحمن تحظى عونه *** ما خاب من يصدق مع الرحمن

 

وصدق الحي القيوم وهو يصف الدنيا (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [الأنعام:32].

 

هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير الخليقة، وأفضل البشرية عزف عن الدنيا وزخرفها، واكتفى منها بما يوصِّله إلى نعيم الآخرة، ما وجدناه اليوم من النعيم -عليه الصلاة والسلام-، بل طلَّقه كله، وما طلبَه؛ ابتغاءَ ما عند الله.

 

روى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: دخل عمر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على حصير قد أثَّر في جنبه، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: "مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، وَمَا لِلدُّنْيَا وَمَا لِي، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا إِلا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا " (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).

 

ولذلك عباد الله كانت الدنيا عند المتقين صغيرة؛ لأنها عند الله حقيرة، روى الترمذي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا –أي: بأكملها بمتاعها وملذاتها وأموالها وقصورها- لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافر شربة ماء" (رواه الترمذي وصححه الألباني).

 

عباد الله: لئن ضاقت بنا الدنيا أو ببعضنا فانظر إلى نعيم الآخرة، بشِّر المؤمن بالانتقال من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.

 

عباد الله: عجباً لمؤثر الفانية على الباقية، و لبائع البحر الخضم بساقية، ولمختار دار الكدر على الصافية، ولمقدم حب الأمراض على العافية.

 

قدم على محمد بن واسع ابنُ عمٍّ له، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من طلب الدنيا، فقال: هل أدركتها؟ قال لا، فقال: واعجباً! أنت تطلب شيئاً لم تدركه، فكيف تدرك شيئاً لم تطلبه. (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) [المزمل:19].

 

عباد الله: ليس المقصود هنا ترك الدنيا وزخرفها، فما خلَقها الله إلا ليتنعم بها العباد، ولكن لتكن زادًا للآخرة وغاية بذاتها؛ لأنه فانية.

 

اللهم قنا فتنة القبر، اللهم قنا فتنة الدنيا وفتنة القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال إنك سميع الدعاء.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عباد الله: علم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقارة الدنيا فما أقاموا لها وزنًا جعلوها وسيلة لدار القرار.

 

دخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه-، فجعل يقلِّب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ قال: لنا بيت نوجِّه إليه صالح متاعنا –يقصد بيته في الآخرة- قال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا. قال: "إن صاحب المنزل لا يدعنا فيه".

لله درهم ما أكبر فكرهم لهذه الدنيا وحالها!!

 

عباد الله: قد لا نصل إلى منازل أولئك الزُّهاد العُبَّاد، ولكن حسبنا أن نتحرى الحلال، وأن نرضى بالقناعة؛ فإنها ركن التقوى وعمود الزهد وباب الصلاح وسدّ للذرائع وطريق الرضا عن الله وسبيل الثقة بالنفس وعنوان العمل للآخرة، والإقبال على الأعمال الصالحة، ومن لم تكن القناعة له بضاعة ضاع وراء الدنيا فأضاع عمره وضيع الآخرة، وإن طلبت الدنيا فاطلبها بالحلال.

 

رأيت القناعة رأس الغنى *** فصرت بأذيالها متمسك

فلا ذا يراني على بابه *** ولا ذا يراني به منهمك

فصرت غنيًّا بلا درهم *** أمُرُّ على الناس شبه الملك

 

فاعتنوا -رحمكم الله- بالعمل لجنة عالية قطوفها دانية، ويا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية، يا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية، أسفاً حتى إذا جاءك الموت وما تبت عن ذنوبك، فواحسرة عليك إذا دُعيت إلى التوبة فما أجبت، فكيف تصنع إذا نُودي بالرحيل وما تأهبت له، ألست الذي بارزت الله -تبارك وتعالى- بالكبائر وما راقبت؟

فعد إلى الله، واذكر اسم مَن إذا أطعته أفادك، وإذا أتيته شاكرًا زادك، وإذا خشيته أصلح قلبك وفؤادك.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وفضلك عمن سواه..

 

 

 

المرفقات

في ظل شجرة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات