عبودية القلوب

عبد الله بن عبد العزيز المبرد

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/وجوب عبادة الله وخطر التفريط في ذلك 2/حقيقة العبادة ومعناها 3/خطر صرف العبادة لغير الله وبعض صور ذلك 4/الحرية المزيفة 5/ضابط العبودية في الإسلام

اقتباس

عبادةُ اللهِ -جلَّ وعلا- هي المنهجُ الذي يحفظُ لهذا الكونِ انتظامهُ, وسيرهُ دُونما تخبطٍ في أيِّ ناحيةٍ من نواحي الحياةِ، وأيِّ انحرافٍ عن العبادةِ الحقة، أو نُقصٍ فيها, يعني أنَّ الحياةَ ستميلُ إلى الفسادِ العريض, في كل مجالاتها الاجتماعيةِ والاقتصادية, والسياسيةِ والفنية وغيرها, وما هذا الانحطاطُ الأخلاقي التي تُعانيه البشريةُ، ومَا ذلك الظلمُ الذي تُقاسيهِ الإنسانيةُ، إلاَّ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله, نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ ونتوبُ إليه, ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا, وسيئاتِ أعمالنا, من يهد اللهُ فلا مُضلَّ له, ومن يُضلل فلا هادي له.

وأشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له, وأشهدُ أن محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم، وسلم تسليماً كثيراً.

 

عباد الله: اتقوا الله, فهي وصيةُ الله إليكم, وهي خيرُ لباسٍ في الدنيا, وخيرُ زادٍ إلى الآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 71 - 70].

 

أيَّها المؤمنون: إنَّ جميعَ الرسل-عليهم صلواتُ الله وسلامهُ-، وكلَّ الكتبَ التي أُنزلها عليهم, إنَّما جاءت لدعوةِ الخلقِ لعبادة اللهِ -تعالى- وحدهُ لا شريك له: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 65].

 

وما برأ اللهُ الثقلين إلاَّ لعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذريات: 56].

 

ولقد جعلَ اللهُ العبُوديةَ وصفاً لأكملِ خلقه، وأحبهم إليه، وأقربهم منه، وهمُ الأنبياءُ المرسلون, والملائكةُ المُقربون: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) [النساء: 172].

 

ولما سألَ جبريلُ محمداً -عليه الصلاة والسلام- عن الإحسان, وهو أعلى مراتبُ العبوديةِ، قال: "أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك".

 

يكونُ ابن آدمَ في أعلى درجاتِ الإنسانيةِ, وأسمى مراتبِ الشرفِ, وأسمى درجاتِ الكمال, بقدرِ ما يُحققُ من العبودية, يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية: "كمالُ المخلُوق في تحقيقِ عبوديتهِ لله -تعالى-، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقاً للعبوديةِ, ازداد كمالهُ وعلت درجتُه".

 

فما حقيقةُ العبودية؟ وكيف يرتقي المسلمُ في معارجها؟ كيف يعرفُ المسلمُ من نفسه كمالها ونُقصها؟ أهي مظاهرُ الاستقامةِ التي قد يُفرضَها المجتمعُ على أبنائه؟! أم هي رسومُ العباداتِ التي قد تتحولُ مع خواءِ القلبِ إلى عاداتٍ ووظائفٍ يومية, تُفرغُها الغفلةُ من مضامينها؟!

 

أيَّها المؤمنون: إذا كانت العبوديةُ لله, هي غايةُ الخُلقِ, وسرَّ وجودهم, فإنَّ أيةَ خللٍ فيها يعني خللاً في الإنسانِ ذاته، وانحرافاً في مسيرتهِ، بل إنَّ الخللَ في العبوديةِ, يعني في الوجود الإنساني بأسره, فعبادةُ اللهِ -جلَّ وعلا- هي المنهجُ الذي يحفظُ لهذا الكونِ انتظامهُ, وسيرهُ دُونما تخبطٍ في أيِّ ناحيةٍ من نواحي الحياةِ، وأيِّ انحرافٍ عن العبادةِ الحقة، أو نُقصٍ فيها, يعني أنَّ الحياةَ ستميلُ إلى الفسادِ العريض, في كل مجالاتها الاجتماعيةِ والاقتصادية, والسياسيةِ والفنية وغيرها, وما هذا الانحطاطُ الأخلاقي التي تُعانيه البشريةُ، ومَا ذلك الظلمُ الذي تُقاسيهِ الإنسانيةُ، إلاَّ بسبب اختلالِ العبادةِ في قلوبِ البشر، بل إنَّ المُشكلاتِ التي تُعانيها أنت أيَّها المسلمُ في حياتك الزوجيةَ أو الوظيفية, ما هذا الرهَقُ والنزقُ, والضيقُ والتبرمُ المتفَشي في الناس, إلا بسببِ خللٍ أصابَ العبادةَ, تراهم يُحبون أولادهم ويكونُ شقاؤهم بهم، وتراهم يُحبون أزواجهم, ثمَّ تكونُ تعاستهم معهم, وترى الإنسانُ يجمعُ المالَ, والمالُ هو الذي يُشقيه ويَضنيه، وتراه يعشقُ المناصبَ, وفيها يكون عنته، ذلك أنَّ من أحبَّ شيئاً دون اللهِ عُذب به, وأكثرُ الناسِ لا يفطنون إلى نقصِ العبوديةِ وضعفها في حياتهم, إذ أنَّهم بزعمهم يُصلون مع المصلين، ويصومُون مع الصائمين، ويرحلون مع الحجاج ويؤبون معهم.

 

إنَّهم لا يدرون أنَّ شقاءهم أتاهم من نقصِ عبوديةِ القُلوب، من جفافها وقُسوَتها, وإذا أعرضتِ القلوبُ عن العبادةِ, فما عبادةُ الجوارح بمغنيةٍ عن صاحبها شيئاً, حتى وإن لبسَ مُسوحِ الصالحين.

 

أيَّها المؤمنون: لنعُودُ إلى الغايةِ التي خُلقنا من أجلها, ولنفُكَ قلوبنا من شقاءِ الدنيا ومُشكلاتها، لنتخلصَ من لأواءِ الحياةِ وضغوطَها، دعونا نفقهُ عن ربنا حقيقةَ العبادة التي أرادها منَّا، فلقد قالَ عز وجل: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37].

 

ويقولُ الرسولُ -صلى الله  عليه وسلم-: "من لم يدع قول الزورِ، والعملَ به، فليس لله حاجةً من أن يدعَ طعامه وشرابه".

 

وقال عز وجل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).

 

والآيةُ هنا تُقّر الصلاة المطلوبة, فهي التي تصونُ صاحبها من الانحراف، فحقيقةُ السعادةِ التي يطلبُها الناسُ في دنياهم وأُخراهم لا تُنالُ بما تُمارسهُ الجوارحُ من أشكالِ العبادة, وإنَّما تُنالُ بما يقومُ في القلبِ من أعمالٍ كالإخباتِ، والتذللِ ، والخضوع والحبِ لله، والأُنسُ به، والخوفُ منه، والانكسارُ له، فشرودُ القلبِ في مواطنِ العبادةِ من أعظمِ المصائبِ التي تصيبُ الإنسان في حياته, وذلك أنَّ العبادةَ التي تؤديها جوارحهُ ولا تقومُ في قلبه, لا تتركُ  الأثرَ المطلوب على نفسه, فلا يحصلُ بها أجرٌ, ولا يتحققُ أنسٌ وطمأنينة, ولا راحةٌ, يقولُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الرجل لينصرفُ من صلاتهِ وما كُتبَ لهُ إلا عُشرَ صلاته، تسعُها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خمُسها، رُبعها، ثُلثها، نصفُها".

 

وإذا استمرَّ القلبُ في الشرودِ في ثنايا العبادةِ, تحولت إلى حركاتٍ ظاهرةٍ, وشكلياتٍ يعتادُها, ليس لها تأثيرٌ على سلوكهِ, ولا ظلَّ على أقواله, وأفعاله, وذلك تفسيرُ ما تراهُ من مخالفاتٍ، وجرأةٍ على المعاصي، وبذاءةٍ في الأقوالِ، ونزوعٍ إلى الشهوات، وطمعٍ في الدنيا من أُناسٍ هم من روادِ المساجد الراكعين الساجدين, بل ذلك علة ما نعيشُ من مشكلاتٍ في بيوتنا, مع أننا نرى أنفسنا قد أدَّ نيا ما علينا من العبادات.

 

واستمع إلى السلفِ الصالح, وهم يُعلمون أمتهم معنى العُبوديةَ الحقيقية, يقولُ ابن جرير: "معنى العبادةِ: الخضوعُ لله بالطاعةِ, والتذللُ لهُ بالاستكانة".

 

وقال القاضي أبو يعلى: "حقيقةُ العبادةِ، هي: الأفعالُ الواقعةُ للهِ -عز وجل- على نهايةِ ما يُمكنُ من التذللِ والخضوع".

 

ويقولُ ابن تيميةَ -عليه رحمةُ الله-: "العبادةُ، اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُهُ اللهُ ويرضاه, من الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظاهرة, فالصلاةُ والزكاةُ والصيامُ, والحجُ وصدقُ الحديثِ, وأداءُ الأمانةِ وبرُ الوالدين, وصلةُ الأرحام، والوفاءُ بالعهودِ، والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهادُ للكفارِ والمنافقين, والإحسانُ إلى الجارِ واليتيم والمسكينِ, وابن السبيلِ والمملوكُ من الآدميين والبهائم, والدعاءُ والذكرُ والقراءةُ, وأمثالُ ذلك من العبادةِ, وكذلك حبُّ اللهِ ورسُولُه، وخشيةُ اللهِ والإنابةَ إليه, وإخلاصُ الدين له, والصبرُ لحُكمهِ، والشكرُ لنعمه, والرضا بقضائهِ, والتوكلُ عليه, والرجاءُ لرحمتهِ, وخوفهُ لعذابهِ, وأمثالُ ذلك هي من العبادة".

 

ألا فلنسأل أنفُسَنا بصدقٍ وإلحاحٍ, كيف حظُّنا من تلك الأنواعِ والأبواب؟! ولنسأل مرةً أُخرى: كيف انحسرَ مفهومُ العبادةِ في أضيقِ الحدُودِ, حتى صارَ عند بعضَ الناس مظاهرَ خاويةً يؤديها بجسدٍ لا قلب فيه؟ ثمَّ يتساءلُ ويتساءلُ المجتمعُ معه: من أيَّن تأتينا المصائبُ والشدائدُ والخلافات, ونكدُ العيش؟! (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].

 

أيَّها المؤمنون: أعظمُ عقوبات القلوبُ الشاردةِ عن عبادةِ الله: أنَّها تقعُ في عبادةِ غيره، وتصيرُ أسيرةً لدى سفا سفِ الأُمور، ومحقرات الأشياءِ، يقولُ ابن تيميةَ -رحمهُ الله-: "الاستقراءُ، يدلُ عن أنَّه كلمَّا كان الرجلُ أعظمُ استكباراً عن عبادةِ الله, كان أعظمُ إشراكاً، فمن لم يكُن اللهُ معبودهُ، ومنتهى حبهِ, فلا بدَّ أن يكون لهُ مرادُ محبوبٍ يستعبدُهُ غيرَ الله, فيكونُ عبداً لذلك المرادَ المحبوب, إمَّا المالُ, وإمَّا الجاهُ, وإمَّا الصورُ, وإمَّا ما يتخذُهُ إلهاً من دون الله".

 

أجل، ولذلك قالها صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيح: "تعسَ عبدُ الدنيا, تعسَ عبدُ الدرهم, تعسَ عبدُ الخميصةِ, تعسَ عبدُ القطيفة".

 

ومن تشعبَ قلبهُ بين المحبوباتِ ذاقَ ألوانَ القلقِ، والحيرةِ والشك, وعاشَ ممزقَ النفسِ, مشتتَ العقلِ، وما ظنُّك بعبدٍ له أسيادٌ مختلفون, كلٌ يأمُرهُ حسب هواه, فلا يدري من يعصى ومن يُطيع, إذا رضى هذا يهيجُ سخطَ ذاك, قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)  [الزمر:29].

 

فما أكثرَ من استبعدَ قلبهُ المالَ، فكان فيه نشاطهُ وكسله، وعليه رضاهُ وغضبه، وفيه حبُهُ وبغضهُ، وما أكثرَ من استأ سر قلبهُ للشهواتِ, فباتَ عليها عاكفاً، ومنحها عزيزَ أوقاتهِ، وثمرةَ حياته، وما أكثرَ من استذلتهُ المناصبُ, فصارَ يسكتُ عن الحقِّ طمعاً فيها، وينطقُ بالباطلِ خوفاً عليها، وما أكثرَ من استرقتهم النساء, فأصبحوا وأمسوا يفشوا المعاصي طاعةً لهنَّ، ويغفَلون عن الطاعاتِ تقرباً منهنَّ ، فهم في ظاهرِ أمرهم أسياد, ولكنهم على الحقيقةِ أُسرى مستعبدون، فقُلوبُهم شتات، وحياتُهم قلقٌ واضطراب، أين هم من العارفين الذين سكنت قلوبُهم لخالقها, واطمأنت نفُوسهم لبارئها؟

 

فكلُ ما سواه في أنفسهم حقير، وكلُّ ما عداهُ عندهم هين، يقولُ عنهم ابن القيم -رحمهُ الله-: "وجملةَ أمرهم, أنَّهم قومٌ امتلأت قُلوبهم من معرفةِ الله، وغُمرت بمحبته وخُشيته وإجلاله ومراقبته، فسَرت المحبةُ في أجزائهم, فلم يبق فيها عِرقٌ ولا مفصلٌ إلاَّ وقد دخلهُ الحبُّ، قد أنساهم حبهِ ذكرَ غيره، وأوحشهم أُنسهم به ممن سواه، وبخوفهِ ورجائهِ والرغبةُ إليه, والرهبةُ منه, والتوكلُ عليه، فشغلوا بحبهِ عن حبِ من سواه, وبذكرِه عن ذكرِ من سواه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

واعلموا -أيَّها المؤمنون-: أنَّ الإنسانَ بطبعهِ يعشقُ الحريةَ، ويبذُلُ دمهُ في سبيلها، ويأبى العبوديةَ ولا يقبلها بأيةِ ثمن، ولكنَّ الناسَ في زمنٍ عبثت فيه ثقافةُ الكُفرِ بالمصطلحاتِ والمفاهيم, لا يعرفون في الغالبِ حقيقةَ الحُريةِ التي يُريدون, فالذين يطلبون الحريةَ في نُظم الجاهلية، وماديةَ الشهوات, إنَّما هم ضالونَ مُضلون, وهمُ الذين يدفعون بالمجتمعِ في وهدةِ الاستعبادِ والرق.

 

انظروا إلى العالمِ الذي يعيشُ واقعهُ المرير, ففيهِ أكبرُ شاهدٍ على تحولِ البشريةِ إلى حالةٍ من الاستعباد, فالأقوياءُ يستعبدون الضُعفاء، والأغنياءُ يسترقون الفقراء، وتجارُ الشهواتِ يأسِرون عبيدها، وذلك على مستوى الأفرادِ والمجتمعات والدول, في ثقافةِ المصالحِ يصبحُ الناسُ عبيداً لكُبرائهم وتجَّارهم، وتُصبحُ الإنسانيةُ في دوائرٍ من الرقِ, بعضُها ملفوفٌ على بعض، فلا ترى فيها حُراً ولا طليقاً.

 

فالحريةُ الحقةُ في ميزانِ الشرعِ, وثقافةِ الإسلامِ, هي حريةُ القلبِ، فمن تحررَ قلبهُ من كلِّ قوى الأرضِ وشهواتها, فهو الحُرُّ الطليق، ولا سبيلَ لنفسٍ أن تُعتق من الأرض وما فيها, إلاَّ إذا دخلت في عُبوديته عزَّ وجل, يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ الرقَّ والعبوديةَ في الحقيقةِ هو رقُّ القلبِ, فما استرقَ القلبُ واستعبدهُ فالقلبُ عبده".

 

ولهذا يُقالُ: "العبدُ حرٌ ما قنع, والحرُّ عبدٌ ما طمع".

 

وكلمَّا قوي طمعُ العبدِ في فضلِ اللهِ ورحمتهِ ورجائه, لقضاءِ حاجتهِ، ودفعِ ضرورته, قويت عُبوديتهُ وحريتهُ عما سواه: "فكمالُ الشرفِ والحريةِ في كمالِ العُبوديةِ لله, والإنابةِ إليه، والسكونِ إليه, والتذللِ والانكسارِ بين يديه, عن تعلقِ ذلك منهم لغيره".

 

أولئك أدرى الناس, كيف تُدارُ الحياةُ, وأعرفهم كيف تُدركُ الآخرة، أولئك يَعيشون ملوكاً لا يُذلون، أغنياءُ لا يفتقرون، آمنينَ لا يخافون، أحراراً لا يُستعبدون، طُلقاءَ لا يُسجنون، أولئك هم أسعدُ الناس، وأعقلُ الناس، وأفقههم، أولئك هم الذين أسلموا وجُوههم وقُلوبهم لله: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [لقمان: 22].

 

وصلى الله وسلم على محمد.

 

 

المرفقات

القلوب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات