إن الحكم إلا لله

عبد الله بن عبد العزيز المبرد

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/تعايش الإسلام مع بقية الأديان 2/طبقات وفئات المجتمع المدني عند بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ذلك 3/حوار الرسول مع يهود المدينة وأبرز قواعد ذلك 4/وجوب التحاكم إلى الله وحده

اقتباس

لقد جاء الإسلام بأعظم مبادئ العدل والحرية وأصدقها، وجاء بأفضل قيم التضامن والإخاء وأعمقها. وإذا كان من شأن الإسلام أن يحقق لأتباعه سعادة الدارين، فهو كذلك يضمن لغيرهم الحرية والأمن والاستقرار، ولا يكرههم على دين، ولا يهضم لهم حقاً، بل لهم البر والقسط، وحسن الجوار، وكرم المواطنة، وذلك بشرط أن...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهد اللهُ فلا مضل له, ومن يُضلل فلا هادي له.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم، وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: اتقوا الله، فهي وصية الله إليكم, وهي خير لباسٍ في الدنيا, وخير زادٍ إلى الآخرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 71 - 70].

 

أيها المؤمنون: لقد جاء الإسلام بأعظم مبادئ العدل والحرية وأصدقها، وجاء بأفضل قيم التضامن والإخاء وأعمقها.

 

وإذا كان من شأن الإسلام أن يحقق لأتباعه سعادة الدارين، فهو كذلك يضمن لغيرهم الحرية والأمن والاستقرار، ولا يكرههم على دين، ولا يهضم لهم حقاً، بل لهم البر والقسط، وحسن الجوار، وكرم المواطنة، وذلك بشرط أن يكفوا أيديهم وألسنتهم، وأن لا يعيقوا تقدم الدعوة، أو يحجبوا نورها عن أحد.

 

فلم تكن التعددية الثقافية معضلة تحتاج إلى حل، ولم تكن تنوع الأعراق واختلاف الاتجاهات قضية تحتاج إلى نقاش وحوار.

 

ففي أول سنواته في المدينة استطاع الإسلام أن يقدم أروع نموذج للميثاق الوطني العادل المنصف، وأكمل صورة للتفاهم الحضاري بين أنواع من التكتلات البشرية التي كانت تعاني عمق الفجوة، وقسوة الجفوة.

 

فقد جاء الإسلام إلى أهل المدينة، وكان فيها عرب ويهود، وكان العرب منقسمين على أنفسهم بين أوس وخزرج، وجاءت فئة رابعة وهم المهاجرون، ثم انشقت فئة خامسة بين تلك الفئات، وهم المنافقون فانظر.

 

إلى حدة الانقسامات وتنوعها وخطورتها على المصلحة الوطنية العامة، وكانت دولة الإسلام آنذاك حديثة التكوين، تعاني ضعف البدايات نواقص النشأة الأولى.

 

فكيف استطاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجنب تلك المركبة أخطار الصراعات، وعواقب الانقسامات، كيف استطاع أن يردم وجوه الطبقية، أو أن يحل مشكلة اختلاف الدين، أو أن يتجاوز معضلة القبلية، ثم صاغ مجتمعاً متكاملاً متوازناً وعاشت كل فئة ناعمة بكامل حريتها، مصونة الحق، لم يلغ لها أصل أو دين، لها حق التعبير عن وجهة نظرها، ولها كامل الحرية في مزاولة أنشطتها التجارية والاجتماعية، بل والدينية، وذلك فيما يخص اليهود والمسلمين أليست تجربة حرِيّة بالدراسة والتأمل، جديرة بالاستنساخ والتأسي، وذلك؛ لأنها أنموذج صاغه الله -عز وجل- على يد رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهي شرع لا شك فيه، ولأنها جيدة التمثيل للتعددية الثقافية، والتنوع الحضاري، ولأنها نجحت باعتراف المؤرخين، وعلماء الاجتماع، وخبراء السياسة.

 

ولنتوقف أولاً عند قضية: اليهودية والإسلام؛ لأنها كانت هي الفجوة الأوسع والأعمق في ذلك المجتمع، فقد جاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً إلى المدينة، وكانت بعض أحيائها مسكونة باليهود منذ أزمنة بعيدة واليهود أهل مجد قديم، وتاريخ عظيم، وأهل خلفية ثقافية ثرية مميزة، وفوق ذلك كانوا ينتظرون النبوة فيهم، فكانوا لا يرون العرب شيئاً، فلما اختار الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- من قريش ثارت ثائرة الحسد في قلوبهم، ونزعوا إلى التكذيب والمناداة -إلا قليل منهم- وعلى ذلك كله فاجأتهم ركائب المهاجرين تحط إلى جوارهم وتساكنهم، ومساجد الإسلام تقوم على مشهد منهم، فكان الخلاف بين اليهود والمسلمين حاداً عميقاً خطيراً تصعب السيطرة عليه، ومع ذلك توصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صيغة تفاهم تعد ميثاقاً وطنياً أخلاقياً عظيماً بكل الموازين، حفظ لكل فئة حقها، وصان لكل قوم مصالحهم، وضمن للجميع الكرامة والأمن والاستقرار.

 

وقد كان أبرز بنود الصحيفة التي كتبها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع اليهود: أن بينهم النصر من حارب أهل هذه الصحيفة، وأنهم بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وكان أعظم بنود الصحيفة وأكبر مرتكزات الميثاق بنده الذي يقول: وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله -عز وجل-، وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا الميثاق التاريخي العظيم صاغ من أهل المدينة الممزقة مجتمعاً متحداً لا يظلم فيه ضعيف ولا يضار صاحب حق.

 

ولو تأملنا هذا التفاهم والحوار الوطني الذي قاده صلى الله عليه وسلم لأمكننا تلخيصه في مجموعة قواعد:

 

أولها: عهد التناصر والعون والمساندة، وأول أبوابه وأبجدياته عدم الاعتداء، والكف عن الإيذاء، وذلك حرصاً على الأمن والاستقرار، فهو توظيف للخلاف لتحصيل القوة والمنعة، وتحقيق الطمأنينة، فرغم عظيم الاختلاف إلا أن الأمن يظل مطلباً ملحاً على كل الفرقاء المساهمة في إرساء دعائمه وحفظه، فزعزعة الأمن ليست في مصلحة طرف دون طرف، وكان من لوازم ذلك أن تؤكد مذكرة التفاهم على التحذير من الاتصال بالعدو الخارجي، أو الاستقواء به.

 

ومعنى ذلك: أنه لن ينجح أي تفاهم وطني أو ميثاق محلي ما دام بعض أطراف يديه اليسرى لبلاده، واليمنى إلى أعدائه، لسانه مع إخوانه، وقلبه مع الغزاة.

 

ولذلك أكدت الصحيفة أن لا تجار قريش، ولا من ناصرها.

 

فالله قد أقر الإحسان للكفار، بل أمر به وبالقسط إذا التزموا المسالمة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8- 9].

 

كما كان من أعظم قواعد الميثاق الوحدوي العظيم: أنه عندما يحدث خلاف بين الفرقاء، أو تنشب مشكلة بين المتحالفين، فإن مردها إلى الله ورسوله.

 

وهذا البند لا يحفظ حق فئة معينة، ولا يصب في مصلحة طائفة محددة، إنه حفظ لحق الله -عز وجل- في التشريع والحكم، يقول عز وجل: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) [الأنعام: 57].

 

أي ليس لأحد حق الحكم والفصل بين الخصوم، ولا في القضايا الخلافية إلا لله وحده بشرعه وكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، والداهية الدهياء، والمصيبة العمياء، هو ذلك الانحراف الذي أصاب فكر المجتمعاتن فباتوا يحسبون النزوع إلى القرآن، والدعوة إلى الاحتكام إلى الوحي، أنه انحياز لمنهج فئة الإسلاميين على حساب غيرهم، فالإسلام ليس هو الإسلاميون.

 

الإسلام شرع الله وحكمه، أنزله للناس كافة، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، كافرهم ومؤمنهم، يقول سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) [النساء: 105].

 

فالحكم لله وحده، فيما اختلف الناس فيه، ولا يلغي حق الله في الحكم بحجة الأغلبية في نظام التصويت، أو غير ذلك من الأساليب التي ابتدعتها ثقافة الكفر، لتنحية شرع الله.

 

نعم، للمجتمعات أن تحسم أمور دنياها بما تشاء من أنظمة، ولكن ليس لها الحق أن تصوت على شيء حكم فيه الله وحسمه في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، لقد جاءت قاعدة الرد إلى الله ورسوله في صحيفة المعاهدة لتحفظ حق الطرفين، وليست لمصلحة المسلمين دون اليهود، ولذلك كان اليهود يرون مصلحتهم في ذلك، فكانوا يحتكمون إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، حتى فيما يشجر بينهم أحياناً، بهذه المرجعية الربانية الواضحة الحاسمة، وعليها أسس الرسول -صلى الله عليه وسلم- الميثاق الوطني، وصنع معجزة التلاحم بين فئات كانت لا يمكن أن تجتمع على عهد لو لا أنه هدى الله الذي هدى إليه رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا) [المائدة: 50].

 

 

الخطبة الثانية:

 

واعلموا: أن مصالح الدنيا يمكن أن تتقاسمها المجتمعات والأفراد، ولكن قضايا الشرع والدين، وأخلاقيات الأمة وهويتها، لا يمكن أن تكون مقسمة ولا موزعة، تلك أمور لا بد أن تكون أحادية المستند والمصدر والمرجع، وليس لأي فئة أو طائفة أو اتجاه أن يجتهد في صناعتها، أو أن يبتكر في تكوينها، فالله قد نزل القرآن العظيم ليكون حكماً على الناس أجمعين، ولا يعني ذلك مصادرة حقهم في التزام دينهم، ولكنهم يلزمون بالاحتكام إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- إذا شجر بينهم خلاف وبين المسلمين.

 

تلك كانت هي قاعدة العهد الذي بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين اليهود، وفي ظل الالتزام بها عاش اليهود آمنين.

 

يروي التاريخ أعاجيب القصص عن ثقتهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واحتكامهم إليه، ورضاهم بقوله، وسعادتهم بعدله.

 

أما طبيعة الوفاق الذي صاغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين على اختلاف قبائلهم وأوطانهم وأعراقهم، فلا تسل عن روح الإخاء التي بناها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينهم، حتى بات الخزرجي يستنصر بالأوسي، فكان الإسلام برمته ميثاقاً غليظاً بين تلك الأعراق.

 

أما بنود هذا الاتفاق، فكان قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس: أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

 

وقوله: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه".

 

وقوله: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

 

وقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

 

وقوله: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله".

 

وقوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جانبه".

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

المرفقات

الحكم إلا لله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات