الشتاء والجسد الواحد

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: بناء المجتمع
عناصر الخطبة
1/ تفاعل النَّبيّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مع قضايا المسلمينَ ومشاكلِهم 2/ جود النبي -صلى الله عليه وسلم- وكرمه 3/ حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على العمل الخيري 4/ دخول الشتاء والبرد وكثرة الضعفاء والمشردين 5/ وجوب مد يد العطاء للمنكوبين من المسلمين.

اقتباس

سبحانَ اللهِ!! سُرعةُ التَّفاعلِ مع الحدثِ .. تغيَّرتْ ملامحُ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لهذا المنظرِ .. فبانَ على وجهِه الشَّريفِ التَّأثرُ والبأسُ .. وقامَ من مكانِه يبحثُ لهم عن طعامٍ ولباسٍ .. فدخلَ حُجراتِ أزواجِه واحدةً تِلو الأخرى ولم يجدْ شيئاً .. يتغيَّرُ وجهُ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إذا لم يجدْ شيئاً للمُحتاجينَ .. فكم نرى نحنُ ونسمعُ يا عبادَ اللهِ في كلِ يومٍ من أحوالِ المُسلمينَ .. من جوعٍ وفقرٍ وقتلٍ وتشريدٍ وسجن!! وكم تنقلُ لنا وسائلُ الإعلامِ من الأخبارِ والأحزانِ!! ممَّا يَشيبُ له الوِلدانُ والغِربانُ.. فهل تمعَّرتْ الوجوه وبكتْ العينانِ .. أم تبلَّدَ الإحساسُ وجفَّتْ العينانِ؟!..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ ذي الفَضلِ والنِّعمِ والجودِ والكرمِ، علَّمَ بالقلمِ، علَّم الإنسانَ ما لم يعلم، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه، هدى ويسَّرَ، ووفَّقَ وألهمَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً مُبرَّأةً من الشكِّ والتُّهمِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولِه النَّبيِّ الأكرمِ، المبعوثَ للعربِ والعجمِ، صلى اللهُ عليه وباركَ وسلَّمَ، وعلى آلِه وأصحابِه الذينَ هم بدينِ اللهِ أعلمُ، ومنهاجُهم أسلمُ وأحكمُ، والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا. (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 16].

 

أما بعد: فتعالوا يا أهلَ الإيمانِ لنرى موقفاً من المواقفِ الخالدةِ .. والتي تُبيِّنُ لنا كيفَ كانَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يتفاعلُ مع قضايا المسلمينَ ومشاكلِهم.

 

فعَنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِ النَّهَارِ.

كعادتِه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- بأبي هو وأمي .. جالسٌ بينَ أصحابِه يُحدِّثُهم ويسمعُ منهم .. ولا يحتَجبُ عن أحدٍ من النَّاسِ .. كيفَ لا، وهو القائلُ: "مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، إِلَّا أَغْلَقَ اللَّهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ" ..

 

بل كانَ لا يُعرَفُ بينهم كما في حديثِ أنسٍ -رضيَ اللهُ عنه-: "دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟، وَالنَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ".

 

"فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ".

يصفُ جريرُ بنُ عبدِ اللهِ -رضيَ اللهُ عنه- أولئكَ القومَ الذينَ جاءوا للنَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. وهم حفاةٌ عُراةٌ .. لا نعالَ لهم .. وشِبهَ عُراةٍ .. مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ .. أيْ: ليسَ عليهم إلا كساءً مُخطَّطاً من صوفٍ .. قِطعةً من الصَّوفِ قد خَرقوها من وَسطِها وأدخلوا رؤوسَهم فيها وألقوها على سائرِ البدنِ .. في منظرٍ يُثيرُ الرَّحمةَ والشَّفقةَ .. وخاصةً إذا لامسَ الموقفُ قلباً كريماً رحيماً .. فأهلُ الكرمِ لهم مع هذه المشاهدِ شأنٌ آخرَ.

 

أليسَ هو الذي قالتْ عنه خديجةُ -رضيَ اللهُ عنها-: "فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ".

 

فكانَ جواداً لا يردُّ أحداً .. قَالَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ -رضيَ اللهُ عنه-: جَاءَتْ امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إِزَارُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْسُنِيهَا، فَقَالَ: "نَعَمْ"، فَجَلَسَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: "وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلَّا لِتَكُونَ كَفَنِي يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ".

 

تَعوّد بَسْط الكفِّ حتَّى لو أنـَّهُ *** ثناها لِقَبْضٍ لم تجِبْه أَناملُهْ

تراه إذا ما جئتَه مُتهلِّلاً *** كأنَّك تُعطيه الذي أنت سَائلُهْ

ولو لم يكن في كفِّه غير رُوحهِ *** لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ

 

لذلكَ قالَ الرَّاوي: "فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ".

سبحانَ اللهِ!! سُرعةُ التَّفاعلِ مع الحدثِ .. تغيَّرتْ ملامحُ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لهذا المنظرِ .. فبانَ على وجهِه الشَّريفِ التَّأثرُ والبأسُ .. وقامَ من مكانِه يبحثُ لهم عن طعامٍ ولباسٍ .. فدخلَ حُجراتِ أزواجِه واحدةً تِلو الأخرى ولم يجدْ شيئاً فخرجَ وهو مُحتارٌ .. وأنى له طعامٌ وَقَدْ كَانَ يَمُرُّ الهِلَالُ تِلْوَ الهِلَالِ، وَمَا يُوقَدُ فِي بَيتِهِ نَارٌ.

 

عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، قَالَ: نَزَلَ بِنَا ضَيْفٌ بَدَوِيٌّ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أَمَامَ بُيُوتِهِ، فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ النَّاسِ كَيْفَ فَرَحُهُمْ بِالإِسْلامِ، وَكَيْفَ حَدَبُهُمْ عَلَى الصَّلاةِ، فَمَا زَالَ يُخْبِرُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالَّذِي يَسُرُّهُ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- نَضِرًا، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَحَانَ أَكْلُ الطَّعَامِ، دَعَانِي مُسْتَخْفِيًا لا يَأْلُو: أَنِ ائْتِ عَائِشَةَ -رضيَ اللهُ عنها- فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- ضَيْفًا، فَقَالَتْ: "وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، مَا أَصْبَحَ فِي بَيْتِي شَيْءٌ يَأْكُلُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَرَدَّنِي إِلَى نِسَائِهِ كُلِّهِنَّ يَعْتَذِرْنَ بِمَا اعْتَذَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ -رضيَ اللهُ عنها-، فَرَأَيْتُ لَوْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- خُسِفَ".

 

يتغيَّرُ وجهُ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إذا لم يجدْ شيئاً للمُحتاجينَ .. فكم نرى نحنُ ونسمعُ يا عبادَ اللهِ في كلِ يومٍ من أحوالِ المُسلمينَ .. من جوعٍ وفقرٍ وقتلٍ وتشريدٍ وسجن!! وكم تنقلُ لنا وسائلُ الإعلامِ من الأخبارِ والأحزانِ .. ممَّا يَشيبُ له الوِلدانُ والغِربانُ!! فهل تمعَّرتْ الوجوه وبكتْ العينانِ .. أم تبلَّدَ الإحساسُ وجفَّتْ العينانِ؟!

 

فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]، تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حَتَّى قَالَ: وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".

 

وهكذا يتصرَّفُ المسلمُ إذا لم يكن عنده لأخيه ما يُفرِّجُ به الكربَ .. بأن يطلبُ المساعدةَ ممن أنعمَ عليه الرَّبُّ .. فها هو النَّبيُّ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- يخطبُ في النَّاسِ ويحثُّهم على الصَّدقةِ .. وكم عندنا اليومَ من وسائلِ اتِّصالاتٍ حديثةٍ .. تجعلُ البعيدَ قريباً .. وينتشرُ الخبرُ فيها سريعاً .. فكم من صاحبِ مالٍ يبحثُ عن مُحتاجٍ .. وكم من فقيرٍ يبحثُ عن طعامٍ وكساءٍ وعلاجٍ .. فكن ممن يُنيرُ الدَّربَ للآخرينَ كالسِّراجِ.

 

وقولُه: "وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" .. يدلُ على عدمِ احتقارِ ما يُقدِّمُه المسلمُ من الصَّدقاتِ .. ولو كانَ نِصفُ تمرةٍ .. فقد تكونُ سبباً لنجاتِك من النَّارِ .. كما جاءَ في الحديثِ: "ما منكم من أحدٍ إلا سيكلّمُهُ ربُهُ، ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظرُ أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّمَ، وينظرُ أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّمَ، وينظرُ بين يديه فلا يرى إلا النَّارَ، فاتقوا النَّارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ" .. وقد حدثَ مثلُ هذا في زمانِ النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-.

 

فَعَنْ عَائِشَةَ -رضيَ اللهُ عنها-، أَنَّهَا قَالَتْ: "جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ" .. فلا تحتقرْ شيئاً من المعروفِ والمالِ .. فقد ترى التَّمرةَ يومَ القيامةِ كالجبالِ.

 

قَالَ: "فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ".

 

هنئياً للأنصارِ تلكَ المُبادراتِ لنصرةِ الإسلامِ والمسلمينَ .. حتى استحقوا الثَّناءَ الخالدَ من ربِّ العالمينَ .. (الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].

 

يقولُ: "حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".

 

فلأجلِ سعادةِ المُسلمينَ أشرقَ ذلكَ الوجهَ الذي تَمَعر .. حتى أصبحَ كأنَّه قِطعةُ ذهبٍ تَجهَرُ.

 

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ .. وبسنةِ نبيِّه الكريمِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- .. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الواحدِ الأحدِ، الفردِ الصَّمدِ، الذي لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكنْ له كُفواً أحدٌ، أهلُ الثَّناءِ والمجدِ، أحقَّ ما قالَ العبدُ، وكلُّنا له عبْدٌ: لا مانعَ لما أعطى، ولا معطيَ لما منعَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منه الجدُّ ..

 

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّداً عبدُه ورسولُه، خيرَ من صلى للهِ وتعبَّدَ، وقامَ وتهجَّدَ، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، وعلى آلِه وأصحابِه ومن للهِ تعبَّدَ ..

 

أما بعد: فيا أهلَ الإيمانِ .. ها هو الشِّتاءُ قد أطَّلَ علينا ببردِه الأليمِ وزمهريرِه العظيمِ .. وقد كانَ عمرُ -رضيَ اللهُ عنه- يتعاهدُ رعيَّتَه إذا جاءَ الشِّتاءُ ويوصيهم بالاستعدادِ له، فيقولُ لهم: "إنَّ الشِّتاءَ قد حضرَ وهو عدوٌ، فتأهبوا له أُهبتَه من الصُّوفِ والخِفافِ والجواربِ، فإنه سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه".

 

وعندما نسمعُ حديثَ المصطفى -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "مَثلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ، إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى" .. فإننا نعلمُ أنَّه لو بَردَ عضوٌ من أعضاءِ هذا الجسدِ .. فلن يستطيعَ الجسدُ نوماً ولا راحةً .. فإن دفئتَ فغيركَ بردانٌ .. وإن شَبعتَ فغيركَ جوعانٌ .. ولا تنسى أن المؤمنينَ إخوانٌ .. كانَ حسانُ بنُ سعيدٍ المنيعي يكسو في كلِّ شتاءٍ نحواً من ألفِ نفسٍ.

 

ولا تحقرْ شيئاً من أبوابِ الخيرِ في أوقاتِ البردِ والمطرِ .. فكانَ زُبيدٌ الحارثُ وهو من التَّابعينَ وأحدُ الحفاظِ الأعلامِ، إذا كانتْ ليلةً مطيرةً طافَ على عجائزِ الحي، ويقولُ: ألكم في السُّوقِ حاجةٌ؟!

 

قد يكونُ هذا الشِّتاءُ طريقاً لكَ إلى الجنَّةِ .. رأى بعضُ أهلِ الشَّامِ في منامِه أنَّ صفوانَ بنَ سُليمٍ دخلَ الجنَّةَ بقميصٍ كساه، فقدمَ المدينةَ فقالَ: دُلوني على صفوانَ، فأتاه فقصَّ عليه ما رأى، فأخبرَه صفوانُ أنه خرجَ في ليلةٍ باردةٍ بالمدينةِ من المسجدِ، فرأى رجلاً عارياً فنزعَ ثوبَه وكساه إيَّاه .. فكم من صدقةٍ وإحسانٍ .. فتحتْ لصاحبِها بابَ الجِنانِ!

 

اللهم إنا نسألُك العونَ لإخوانِنا المسلمينَ، اللهم إنهم جياعٌ فأطعمهم، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحملهم، اللهم إنهم مظلومونَ فانصرهم، اللهم انصرْهم على عدوِّك وعدوِّهم يا ربَّ العالمينَ، اللهم ارحمَ المستضعفينَ من المسلمينَ.

 

 اللهم نصرَك الذي وعدتَ به عبادَك المؤمنينَ، اللهم عليكَ بأعداءِ الدِّينِ، اللهم اقذف في قلوبِهم الرُّعبَ، اللهم أنزلْ بهم بأسَك وعذابَك ومزِّقهم كلَّ ممزَّقٍ، أنتَ القويُ الذي لا يعجزُك شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، يا منزلَ الكتابِ ويا مجريَ السَّحابِ ويا هازمَ الأحزابِ، اللهم اهزمهم يا ربَّ العالمينَ، وردَّهم على أعقابِهم صاغرينَ.

 

اللهم آمنَّا في أوطانِنا، اللهم أصلحْ ذاتَ بيننا، آمنَّا في الأوطانِ والدُّورِ، وأصلحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، ومن أرادَ بلدَنا هذا بسوءٍ وبلادِ المسلمينَ فامكر به، واجعل كيدَه في نحرِه، وكفَّ شرَه، واقطعْ دابرَه يا ربَّ العالمينَ.

 

 

المرفقات

والجسد الواحد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
28-01-2022

خطبة مميزة حدا