من صفات المنافقين (10) [وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا]

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ محبة الإنسان للمدح شيء فطري 2/ مقبول مدح الآخرين ومرفوضه 3/ تذبذب مواقف المنافقين وحبهم للمدح 4/ نفاق الإعلام والإعلاميين قبيح وآثاره خبيثة 5/ مفاسد العمل من أجل الحصول على مدح الناس 6/ وجوب الاقتصاد في المدح 7/ من أخطر الأمراض الأخلاقية التي تفتك بالمجتمعات.

اقتباس

وَإِذَا انْتَشَرَ فِي النَّاسِ دَاءُ المَدْحِ بِلَا حَقٍّ، وَأَحَبَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ رَاجَتْ سُوقُ النِّفَاقِ، وَاضْمَحَلَّ الصِّدْقُ فِي الْأَوْصَافِ، فَصَارَ الْوَاحِدُ يَكْذِبُ فِي مَدْحِهِ، وَالمَمْدُوحُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصْغِي إِلَيْهِ وَيَبْتَسِمُ لَهُ، وَالْحُضُورُ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصَفِّقُونَ وَيُوَافِقُونَ، فَأَيُّ إِنْجَازَاتٍ سَتَكُونُ لِمَنْ هَذِهِ أَخْلَاقُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ؟! وَإِذَا وَصَلَ الْحَالُ بِالنَّاسِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تُصْبِحُ حَسَنَاتٍ، وَالْإِخْفَاقَاتِ سَتُعَدُّ إِنْجَازَاتٍ، وَيُصْبِحُ الْأَغْبِيَاءُ أَذْكِيَاءَ، وَيُصْبِحُ الْفَاشِلُونَ نَاجِحِينَ، فَتَنْقَلِبُ المَوَازِينُ، وَيَجْنِي الْجَمِيعُ كُلَّ النَّتَائِجِ المُرَّةِ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْوَضِيعَةِ.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ وَالدِّينِ، فَوَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ لِلْيَقِينِ، وَخَذَلَ المُعْرِضِينَ وَالمُسْتَكْبِرِينَ، فَصَارُوا عَنِ الْحَقِّ مَصْرُوفِينَ (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146].

 

 نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ حَذَّرَ عِبَادَهُ مِنَ النِّفَاقِ وَالمُنَافِقِينَ، فَأَبَانَ أَوْصَافَهُمْ، وَذَكَرَ أَفْعَالَهُمْ، وَكَشَفَ مَكْنُونَ صُدُورِهِمْ، وَأَظْهَرَهُ لَحْنًا فِي قَوْلِهِمْ: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لحْنِ القَوْلِ) [محمد: 30].

 

 وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَ بِحَثْيِ التُّرَابِ فِي وُجُوهِ المَدَّاحِين؛ لِأَنَّ المَدْحَ بِغَيْرِ حَقٍّ عَتَبَةٌ لِلنِّفَاقِ وَصِفَةٌ لِلْمُنَافِقِينَ، فَيَمْدَحُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَذُمُّونَ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا بُعِثَ الرَّسُولُ إِلَّا بِالْحَقِّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى؛ وَعِمَارَةِ الْقَلْبِ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَتَرْطِيبِ اللِّسَانِ بِذِكْرِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكُلُّ مَذْكُورٍ فَهُوَ دُونَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَكُلُّ مَمْدُوحٍ فَهُوَ مِنْ خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ حَمْدٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الجاثية: 36-37].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ وَيُمْدَحَ، وَيَكْرَهُ أَنْ يُعَابَ وَيُذَمَّ، وَهَذَا أَمْرٌ فِطْرِيٌّ فِيهِ، يَرْغَبُهُ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ؛ وَلِذَا كَانَ التَّشْجُّعُ مِنْ مُحَفِّزَاتِ الْعَمَلِ وَالْإِنْجَازِ، وَمِنْ أَسْبَابِ النَّجَاحِ وَالْإِنْتَاجِ.

 

وَلَا غَضَاضَةَ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَثْنَى اللهُ -تَعَالَى- فِي الْقُرْآنِ عَلَى الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فُرَادَى وَجَمَاعَاتٍ، وَتَنَزَّلَ الْقُرْآنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَقْرَؤُونَهُ، وَمَدَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرًا مِنْهُمْ بِأَفْعَالٍ فَعَلُوهَا، أَوْ صِفَاتٍ تَخَلَّقُوهَا. وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا.

 

وَإِنَّمَا المَحْذُورُ وَالمَمْنُوعُ أَنْ يُثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَأَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، وَأَنْ يُوصَفُوا بِمَا لَا يَتَّصِفُونَ بِهِ، وَتِلْكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ المُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْكَذِبِ، وَالمُنَافِقُ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ. وَفِي الْقُرْآنِ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمَنْ رَضِيَ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [آل عمران: 188].

 

 عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رِجَالًا مِنَ المُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا»، فَنَزَلَتْ: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ العَذَابِ)» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ). 

 

وَلَا غَرَابَةَ فِي أَنْ يَتَخَلَّقَ المُنَافِقُ بِهَذَا الْخُلُقِ الرَّدِيءِ، وَأَنْ يُحِبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ؛ لِأَنَّ المُنَافِقَ وَقَعَ فِي شَرٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ إِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَإِبْطَانُ الْكُفْرِ؛ لِيَنَالَ بِذَلِكَ أَعْرَاضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ وَلِذَا كَانَ المُنَافِقُونَ يَخْرُجُونَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَزْوِ وَهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِهِ، وَيَتَمَنَّوْنَ هَزِيمَتَهُ وَقَتْلَهُ، فَإِنِ انْتَصَرَ تَوَدَّدُوا لَهُ، وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ؛ لِيُكْمِلُوا مُهِمَّتَهُمْ فِي النِّفَاقِ وَالْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ، وَلِيَكُونُوا مِمَّنْ يُنْسَبُ النَّصْرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا، وَلِيَظْفَرُوا بِشَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُمْ لَمْ يُقَدِّمُوا شَيْئًا لِلْإِسْلَامِ سِوَى الصَّدِّ عَنْهُ، وَالْكَيْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ.

 

وَإِنْ غَلَبَ الْكُفَّارُ المُؤْمِنِينَ تَوَدَّدُوا لِلْكُفَّارِ زَاعِمِينَ أَنَّهُمْ بِتَخْذِيلِهِمْ وَإِرْجَافِهِمْ فِي أَوْسَاطِ المُؤْمِنِينَ، وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ كَانُوا سَبَبَ نَصْرِ المُشْرِكِينَ؛ لِيَجْعَلُوا لَهُمْ أَيَادِيَ عِنْدَهُمْ؛ وَلِكَيْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ) [النساء: 141].

 

وَإِنَّكَ لَتُبْصِرُ هَذَا المَشْهَدَ النِّفَاقِيَّ الَّذِي يَعْرِضُهُ الْقُرْآنُ ظَاهِرًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْإِعْلَامِيِّينَ الْعَرَبِ فِي فَضَائِيَّاتِهِمْ وَصُحُفِهِمْ وَمَجَلَّاتِهِمْ؛ فَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ مَعَ الْأَحْدَاثِ تَقَلُّبَ السَّفِينَةِ عَلَى الْأَمْوَاجِ، وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَهُوَ نِفَاقٌ؛ فَيَمْدَحُونَ الْيَوْمَ مَنْ كَانُوا يَذُمُّونَ بِالْأَمْسِ، وَيَقْدَحُونَ فِي مَنْهَجٍ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يُبَشِّرُونَ بِهِ، وَيُغَيِّرُونَ انْتِمَاءَاتِهِمْ وَوَلَاءَاتِهِمْ بِحَسَبِ مَصَالِحهِمُ الشَّخْصِيَّةِ، وَيُخَوِّفُونَ المُسْلِمِينَ بِأَعْدَائِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَنْصَحُونَ لَهُمْ.

 

بَلْ إِنَّهُمْ يَقِفُونَ بِأَقْلَامِهِمْ وَإِعْلَامِهِمْ فِي خَنْدَقٍ وَاحِدٍ مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمَجُوسِ، وَمَعَ كُلِّ مِلَّةٍ وَنِحْلَةٍ وَطَائِفَةٍ تُحَارِبُ الْإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ فَضَحَتْ وَسَائِلُ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَمْ مِنْ مُغَرِّدٍ وَدَّ لَوْ غَيَّرَ مَا كَتَبَ مِنْ قَبْلُ؛ لِأَنَّهُ انْقَلَبَ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، وَسَارَ عَكْسَ اتِّجَاهِهِ، وَلَكِنْ بَقِيَ مَا يَفْضَحُ تَوَجُّهَهُ وَانْتِمَاءَهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَفْرَحُ بِمَا فَعَلَ مِنْ تَقَلُّبِهِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ وَبِمَا لَا يَدَ لَهُ فِيهِ.

 

وَإِذَا انْتَشَرَ فِي النَّاسِ دَاءُ المَدْحِ بِلَا حَقٍّ، وَأَحَبَّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؛ رَاجَتْ سُوقُ النِّفَاقِ، وَاضْمَحَلَّ الصِّدْقُ فِي الْأَوْصَافِ، فَصَارَ الْوَاحِدُ يَكْذِبُ فِي مَدْحِهِ، وَالمَمْدُوحُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْذِبُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصْغِي إِلَيْهِ وَيَبْتَسِمُ لَهُ، وَالْحُضُورُ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يُصَفِّقُونَ وَيُوَافِقُونَ، فَأَيُّ إِنْجَازَاتٍ سَتَكُونُ لِمَنْ هَذِهِ أَخْلَاقُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ؟!

 

وَإِذَا وَصَلَ الْحَالُ بِالنَّاسِ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تُصْبِحُ حَسَنَاتٍ، وَالْإِخْفَاقَاتِ سَتُعَدُّ إِنْجَازَاتٍ، وَيُصْبِحُ الْأَغْبِيَاءُ أَذْكِيَاءَ، وَيُصْبِحُ الْفَاشِلُونَ نَاجِحِينَ، فَتَنْقَلِبُ المَوَازِينُ، وَيَجْنِي الْجَمِيعُ كُلَّ النَّتَائِجِ المُرَّةِ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الْوَضِيعَةِ.

 

ولَوْلَا أَنَّ حُبَّ المَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ -تَعَالَى- الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى- لِنَبِيِّهِ: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4]، وَقَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزُّخرف: 44].

 

وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ لَا يَعْمَلَ المَرْءُ عَمَلًا لِأَجْلِ المَدْحِ؛ فَإِنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ مَدْحِ النَّاسِ يُذْهِبُ الْأَجْرَ، وَيَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعَمَلِ. وَإِنَّمَا يُنْجِزُ مَا يُنْجِزُ أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ الَّتِي حُمِّلَهَا، وَرِعَايَةً لِلْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا، وَيَكُونُ دَافِعُهُ لِذَلِكَ رِضَا اللَّهِ -تَعَالَى- بِمَا عَمِلَ، وَالسَّعْيَ فِي إِيصَالِ النَّفْعِ لِلنَّاسِ، وَرَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّ «أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ»، «وَخَيْرَ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ» كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.

 

وَلِتَقْلِيلِ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ السَّيِّئَةِ وَهِيَ أَنْ يُحِبَّ الْوَاحِدُ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاقْتِصَادِ فِي المَدْحِ؛ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ المَدْحِ وَلَوْ كَانَ بِحَقٍّ يَقُودُ المَمْدُوحَ إِلَى الْعُجْبِ وَالْغُرُورِ وَفُتُورِ الْهِمَّةِ، وَتَرْكِ المُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي مُدِحَ لِأَجْلِهِ. كَمَا أَنَّهُ يُحَوِّلُ مُجْتَمَعَ المَدَّاحِينَ إِلَى قُطْعَانٍ بَشَرِيَّةٍ تَأْلَفُ بَذْلَ المَدْحِ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْ صِفَاتِهَا الرَّدِيئَةِ الَّتِي تُعِيقُهَا عَنِ الْعَمَلِ وَالْإِنْتَاجِ وَالتَّقَدُّمِ.

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَ أَعْمَالَنَا خَالِصَةً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى أَدَاءِ الْحُقُوقِ، وَرِعَايَةِ الْأَمَانَةِ، وَنَفْعِ النَّاسِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمٍ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ فِي أَعْمَالِكُمْ، وَابْتَغُوا رِضَاهُ سُبْحَانَهُ دُونَ رِضَا خَلْقِهِ؛ فَمَنْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنْ سَخِطَ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ أَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ.

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لمَّا كَانَتْ مَحَبَّةُ الْحَمْدِ بِمَا لَمْ يَفْعَلِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَمْرَاضِ الْأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَفْتِكُ بِالمُجْتَمَعَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُشِيعُ النِّفَاقَ فِي النَّاسِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَسَمَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ؛ لِتَبْقَى أَخْلَاقُ النَّاسِ عَلَى فِطْرَتِهَا لَا تَتَلَوَّنُ لِأَجْلِ مَصَالِحهَا، وَلَا تَتَبَدَّلُ مَوَاقِفُهَا لِأَجْلِ دُنْيَا تَطْلُبُهَا، رَوَى ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «... مَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللهُ إِلَّا قِلَّةً» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَعَاقَبَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَهُوَ مَا ادَّعَى إِلَّا يُرِيدُ كَثْرَةً فَزَادَهُ اللهُ -تَعَالَى- قِلَّةً، وَمَا ادَّعَى إِلَّا يُرِيدُ مَدْحًا فَيَزِيدُهُ اللهُ -تَعَالَى- ذَمًّا عُقُوبَةً لَهُ عَلَى كَذِبِهِ.

 

وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

 

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ، كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ». وَثُنِّيَ ثَوْبُ الزُّورِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، فَجُعِلَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ كَذَبَ مَرَّتَيْنِ؛ فَكَذَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ، وَكَذَبَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- أَنَّهُ يُرِينَا سُنَنَهُ فِي أَهْلِ النِّفَاقِ وَالتَّزَلُّفِ وَالتَّلَوُّنِ؛ فَيَلْفِظُهُمُ النَّاسُ وَيَمْقُتُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَفَضِيحَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَنْكَى.

 

فَلْنَحْذَرْ مِنْ أَوْصَافِ المُنَافِقِينَ، وَلَا نَغْتَرَّ بِمَدْحِ المَدَّاحِينَ، وَلَا نَتَحَلَّ بِمَا لَمْ نُعْطَ، وَلَا نَدَّعِ مَا لَمْ نَفْعَلْ، وَلْنُخْلِصْ لِلَّهِ -تَعَالَى- فِي كُلِّ شُئُونِنَا، فَلَا تَوْفِيقَ وَلَا عِزَّ وَلَا رِفْعَةَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [النساء: 139].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

المرفقات

صفات المنافقين (10) [وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا]

صفات المنافقين (10) [وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا] - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات