التوفيق

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ حاجة العبد وافتقاره وضرورته إلى الله تعالى 2/ أهمية سؤال الله تعالى التوفيق في جميع الأمور 3/ تأملات في التوفيق والخذلان 4/ من أعظم ما يستجلب به توفيق الله جل وعلا 5/ فوائد مجاهدة النفس على العبادة والطاعة فرضها ونفلها 6/ فضل صيام يوم عاشوراء.

اقتباس

ما أحوج العبد أن يستشعر هذا المقام؛ مقام حاجته وافتقاره وضرورته إلى الله بأن يوفقه في كل أموره وجميع أعماله، وتأملوا في التجاء نبي الله شعيب -عليه السلام- وهو يدعو قومه إلى الله جل في علاه حيث يقول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود:88]. فالتوفيق -يا معاشر المؤمنين- بيد الله عز وجل؛ يوفق من شاء من عباده بفضله، ويخذل سبحانه وتعالى من شاء منهم بعدله، الأمر أمره والخلق خلقه.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وأمينُه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعَه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أمَّا بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى وراقبوه سبحانه مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه. وتقوى الله جل وعلا: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.

 

أيها المؤمنون عباد الله: سلوا الله تعالى ربكم التوفيق في كل أموركم وجميع مصالحكم وسائر شؤونكم؛ فإنه -جل وعلا- بيده الأمر كله؛ يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يقبض ويبسط، يعز ويذل، يضحك ويبكي، كل يوم هو في شأن، الأمر أمره والخلق خلْقه، ونواصي العباد بيده، وهم أجمعين طوع تسخيره وتدبيره، لا غناء لهم عنه طرفة عين ولا قليلَ نفَس، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)[فاطر:15].

 

معاشر المؤمنين: ما أحوج العبد أن يستشعر هذا المقام؛ مقام حاجته وافتقاره وضرورته إلى الله بأن يوفقه في كل أموره وجميع أعماله، وتأملوا في التجاء نبي الله شعيب -عليه السلام- وهو يدعو قومه إلى الله جل في علاه حيث يقول: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)[هود:88]. فالتوفيق -يا معاشر المؤمنين- بيد الله عز وجل؛ يوفق من شاء من عباده بفضله، ويخذل سبحانه وتعالى من شاء منهم بعدله، الأمر أمره والخلق خلقه.

 

وتأمل في باب التوفيق قول الله -عز وجل-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:7-8]، وقوله -جل وعلا-: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات:17]، وقوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النساء:49]، وقوله سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:83]، وقوله سبحانه: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النور:21].

 

وتأمل في باب الخذلان قول الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ)[يونس:96-97]، وقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)[الأنعام:111]، وقوله سبحانه: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحج:18]، وقوله -سبحانه وتعالى-: (إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ)[النحل:37]، وقوله سبحانه: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[فاطر:8].

 

فيا معاشر المؤمنين: جديرٌ بنا وبكل واحد منَّا أن يتأمل هذا المقام؛ التوفيق والخذلان، وأن الأمر بيد الله جل في علاه، وإذا استحضر هذا المقام من مقامات المعرفة بالله -جل وعلا- تمام الاستحضار وجاهد نفسه على الأخذ بالأسباب تحققت له سعادته في دنياه وأخراه؛ وتأمل في هذا المقام وصيةً عظيمة من خير موصٍ عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة رضي الله عنها وعن الصحابة أجمعين، في السنن الكبرى من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ما يمنعك أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ"؛ تأمل هذه الوصية ما أعظمها «وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ»، لأن العبد إذا وُكل إلى نفسه وكل إلى خذلان وحرمان، وقد أجمع العارفون بالله -جلَّ في علاه- أنَّ التوفيق: أن لا يكِلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان: أن يوكل العبد إلى نفسه؛ فإذا وُكل العبد إلى نفسه وكل إلى خسران وضياع.

 

أيها المؤمنون عباد الله: ومما ينبغي أن يعتنى به في هذا المقام معرفة الأمور التي يُستجلب بها التوفيق؛ وهو باب شريف عظيم للغاية.

 

ومن أعظم ما يستجلب به التوفيق - توفيق الله -جل وعلا- لعبده- النية الصالحة التي هي أساس العمل وقوامه وصلاحه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ"؛ فيحرص المرء على إطابة نيته وإصلاح مقصده ليطيب منه العمل ويزكو بمنِّ الله وفضله.

 

ومما يُستجلب به التوفيق: الدعاء وكثرة الإلحاح على الله؛ فإن من أُعطي الدعاء فقد أعطي مفتاح التوفيق وبابه، والله -جل وعلا- يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة:186]، والله -عز وجل- لا يخيِّب من دعاه ولا يرد من ناجاه.

 

ومما يُستجلب به التوفيق: صدق التوكل على الله -جل وعلا-؛ وقد تقدم في قول شعيب -عليه السلام-: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)[هود:88]، ومن ذلكم ما جاء في قول الله -عز وجل-: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:160] أي في أمورهم واستجلابهم للنصر والتوفيق، إذ إنَّ ذلك كله بيد الله -عز وجل-.

 

ومما يُستجلب به التوفيق عباد الله: إصلاح النفس بالعلم؛ فإن العلم نورٌ لصاحبه وضياء، فما أُتي من أتي في هذا الباب إلا من إضاعته لعلم الشريعة التي هي أعظم أبواب التوفيق والسعادة في الدنيا والآخرة.

 

ومما يُستجلب به التوفيق عباد الله: ملازمة أهل الصلاح والاستقامة، والبُعد عن أهل الشر والفساد؛ فإن من فتح على نفسه باب مجالسةٍ لأهل شرٍ وفساد فتح على نفسه من باب الخذلان والحرمان شيئًا عظيمًا بحسب حاله من هذه المجالسة.

 

ومن الأمور التي يُستجلب بها التوفيق عباد الله: مجاهدة النفس على العبادة والطاعة فرضها ونفلها، وتأمل في هذا الباب الحديث القدسي العظيم حيث يقول الله تبارك وتعالى: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".

 

اللهم إنا نسألك التوفيق لرضاك، والمعونة على طاعتك، وأن لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين؛ إنك سميع الدعاء وأنت أهل الرجاء وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرةً وأصيلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله -جل وعلا- خير زادٍ إلى رضوان الله، وفي تقوى الله -جل وعلا- خلَفٌ من كل شيء، وليس من تقوى الله خلَف.

 

ولنحرص -يا معاشر المؤمنين- ونحن نستقبل يوما فاضلا ألا وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم على صيام ذلك اليوم مع صيام يومٍ قبله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن فضل صيام يوم عاشوراء: "أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"، وهو صيام يوم شكر لله -عز وجل-؛ فهو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون وقومه، ونجى موسى -عليه السلام- وقومه؛ فصامه نبينا صلى الله عليه وسلم شكرًا لله -جل وعلا-.

 

فلنحرص يا معاشر المؤمنين على هذا الخير وعلى كل خير مستعينين بالله طالبين مدَّه وعونه وتوفيقه جل في علاه.

 

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم: " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا وحافظًا ومؤيِّدا، اللهم وعليك بأعداء الدِّين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم وأصلح لنا شأننا كله، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات