وفي أنفسكم أفلا تبصرون

محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الخلق والآفاق
عناصر الخطبة
1/حث الإنسان على التفكر في نفسه وأهمية ذلك 2/بعض منافع الرأس وفوائده 3/بعض منافع \"العينين\" و\"الأذنين\" 4/بعض منافع \"الأنف\" وفوائده 5/بعض منافع \"الفم\" و\"الحنجرة\" و\"الأسنان\" 6/بعض منافع الشعر في جسم الرجل وحِكمه 7/بعض منافع الصدر والقلب 8/بعض معاني القلب ووسائل وقايته وعلاجه من الأمراض

اقتباس

إذا تفكر في نفسه استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل، فإنه إذا نظر في نفسه، وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة لمدبره، دالةٌ عليه، مرشدةٌ إليه، إذ يجده مكونًا من قَطرة ماءٍ؛ لحومًا منضدة، وعظامًا مركبة، وأوصالاً متعددة، مأسورة مشددة بـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وجعل وجوده من الأدلة على موجده ومصوره العليم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يخلق ما يشاء ويختار، ويصور خلقه في الأرحام كيف يشاء بأسباب قدرها، وحكم دبرها، أعطى الذكر الذكورية والأنثى الأنوثية، والماء واحد، والجوهر واحد، والوعاء واحد، واللقاح واحد: (الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عِمرَان: 6].

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أخبر عن المرسوم الإلهي الذي يلقيه إلى ملك التصوير، حين يقول: "يا رب أذَكَر، أم أُنثى، شقي، أم سعيد، فما الرزق، فما الأجل؟" فيوحي ربك ما يشاء، ويكتب الملك الكريم.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فقد قال الله -تعالى-: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)[الذّاريَات: 21].

 

عباد الله: لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسُه دعاه خالقه وبارئه، ومصوره وفاطره، من قطرة ماءٍ، إلى التبصر والتفكر في نفسه، فإذا تفكر في نفسه استنارت له آيات الربوبية، وسطعت له أنوار اليقين، واضمحلت عنه غمرات الشك والريب، وانقشعت عنه ظلمات الجهل.

 

فإنه إذا نظر في نفسه، وجد آثار التدبير فيه قائمات، وأدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة لمدبره، دالةٌ عليه، مرشدةٌ إليه، إذ يجده مكونًا من قَطرة ماءٍ؛ لحومًا منضدة، وعظامًا مركبة، وأوصالاً متعددة، مأسورة مشددة بحبال العروق والأعصاب، جمعت بجلد متين، مشتملاً على ثلاثمائة وستين مفصلاً؛ ما بين كبير وصغير، وثخين، ودقيق، ومستطيل ومستدير، ومستقيم ومنحن، وشد هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقًا "أعصاب" للاتصال والانفصال، والقبض والبسط، والمد والضم، والصنائع والكتابة.

 

وجعل فيه عشرة أبواب؛ فبابان للسمع، وبابان للبصر، وبابان للشم، وبابان للطعام والشراب والتنفس، وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها.

 

عباد الله: لننظر في هذه الأعضاء ومنافعها بالتفصيل، ابدأ: "بالرأس" تأمل هذه القبة العظيمة التي ركبت على المنكبين، وما أودع فيها من العجائب، وما ركب فيها من الخزائن، وما أودع في تلك الخزائن من المنافع، وما اشتملت عليه من العظام المختلفة الأشكال والصفات والمنافع، ومن الرطوبات، والأعصاب، والطرق والمجاري، والدماغ، والمنافذ والقوى الباطنة: من الذكر، والفكر، والتخيل، وقوة الحفظ.

 

وذلك من أعظم آيات الله وأدلته وحكمته، كيف ترتسم صورة السموات والأرض، والبحار والشمس والقمر، والأقاليم والممالك والأمم، في هذا المحل الصغير، والإنسان يحفظ كتبًا كثيرة، وعلومًا شتى متعددة، وصنائع مختلفة من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض.

 

ثم انزل إلى "العين" وتأمل عجائبها وشكلها، وإيداع النور الباصر فيها، وتركيبها من عشر طبقات، ركبها سبحانه في أعلا مكان من الرأس بمنزلة طليعته، والكاشف والرائد له، وجعل سبحانه موضع الإبصار في قدر العدسة، ثم أظهر في تلك العدسة قدر السماء والأرض والجبال والبحار، والشمس والقمر، وجعل داخل ماء العين مالحًا لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم، وجعلها مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها، وتدفع الأقذار عنها، وجعل شعر الأجفان أسود ليكون سببًا لاجتماع النور الذي به الإبصار، وأبلغ في الحسن والجمال.

 

وخلق سبحانه لتحرك الحدقة ستة عضلات، لو نقصت واحدة مـنها لاختـل أمر العين.

 

ومع ذلك فيستدل بـأحوال العين على أحوال القلب، من رضاه وغضبه، وحبه وبغضه ونفرته.

 

ثم اعدل إلى "الأذنين" وهما رسولا القلب، وتأمل شقهما في جانبي الوجه، وخلقهما، وإيداعهما القوة السمعية، يدركان بها المعاني الغائبة التي ترد على العبد من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه، وإيداع الرطوبة فيهما، وجعلها مرة لتمتنع الهوام عن الدخول فيهما، وحوَّطهما سبحانه بصدفتين يجمعان الصوت ويؤديانه إلى الصماخ، وجعل في الصدفتين تعريجات لتطول المسافة، فتكسر حدة الصوت، ولئلا يفاجئهما الداخل إليهما من الدواب والحشرات.

 

ثم انزل إلى "الأنف" وتأمل شكله وخلقه، وكيف نصبه سبحانه في وسط الوجه، قائمًا معتدلاً في أحسن شكل، وأوفقه للمنفعة، وفتح فيه بابين، وأودع فيهما حاسة الشم التي يدرك بها الروائح وأنواعها وكيفياتها، ومنافعها ومضارها، ويستدل بها على مضار الأغذية والأدوية ومنافعها، ويعين أيضًا على تقطيع الحروف.

 

وجعله مصبًا للفضلات النازلة من الدماغ لتستريح منها، وستره بساتر أبدي لئلا تبدو تلك الفضلات في عين الرائي.

 

وأيضًا فإنه يستنشق بالمنخرين الهواء البارد والرطب، فيستغني بذلك عن فتح الفم، والهواء الذي يستنشقه ينزل إلى المنخرين، فينكسر برده فيهما، ثم يصل إلى الحلق، فيعتدل مزاجه هناك، ثم يصل إلى الرئة ألطف ما يكون، فإذا أخذت الرئة ما تحتاجه من الهواء عاد من الرئتين إلى الحلقوم، ثم إلى المنخرين.

 

ولم يضيع أحكم الحاكمين ذلك "النَّفَس" بل جعل إخراجه سببًا لحدوث الصوت، ثم جعل سبحانه في الحنجرة واللسان والحنك، باختلاف الصوت، فيحدث الحرف، ثم ألهم الإنسان أن يركب ذلك الحرف إلى مثله ونظيره، فيحدث الكلمة، ثم ألهمه تركيب تلك الكلمة إلى مثلها، فيحدث الكلام الدال على أنواع المعاني.

 

ثم إنه سبحانه جعل "الحناجر" مختلفة الأشكال في الضيق والسعة، والخشونة والملامسة، لتختلف الأصوات باختلافها، فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان.

 

فميز سبحانه بين الأِشخاص بما يدركه السمع والبصر.

 

فتأمل هذه الحكم الباهرة في اتصال النّفس إلى القلب لحفظ حياته، ثم عند الحاجة إلى إخراجه، والاستغناء عنه، جعله سببًا لهذه المنفعة العظيمة.

 

وأما "الفم" فمحل العجائب، وباب الطعام والشراب والنفس والكلام، ومَكَنُّ اللسان الناطق الذي هو آلة العلوم، وترجمان القلب ورسوله المؤدي عنه، وفيه منفعة الذوق والإدراك، وتحريك الطعام، والدليل على اعتدال مزاج القلب وانحرافه، وعلى استقامته واعوجاجه، وعلى أحوال المعدة والأمعاء.

 

وجعله سبحانه عضوًا لحميًا لا عظم فيه ولا عصب، ليسهل عليه القبض والبسط والحركة الكثيرة في أقاصي الفم وجوانبه.

 

وأما "الأسنان" فلما كان الطعام لا يمكن تحوله إلا بعد طحنه جعل الرب -تبارك وتعالى- آلة للتقطيع والتفصيل، وآلة الطحن فجعل آلة القطع، وهي الثنايا وما يليها حادة الرأس ليسهل بها القطع.

 

وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرؤوس عريضة ليتأتى بها الطحن، ونظمها أحسن نظام كاللؤلؤ المنظم في سلك، أنبتها سبحانه من نفس اللحم، وتخرج من خلاله كما ينبت الزرع في الأرض.

 

وزين "الوجه" أيضًا بما أنبت فيه من الشعور المختلفة الأشكال والمقادير.

 

تأمل حال الشعر ومنبته.

 

والغاية التي خلق من أجلها، وهي شيئان:

 

أحدهما: عام، وهو: تنقية البدن من الفضول الدخانية الغليظة، كشعر العانة، والإبط، والأنف.

 

والآخر: خاص، وهو: إما للزينة، أو للوقاية، ففي شعر الرأس منافع ومصالح، منها: وقايته عن الحر والبرد والمرض، ومنها: الزينة والحسن.

 

وفي شعر الحاجبين مع الحسن والجمال والزينة وقاية العين مما ينحدر من الرأس.

 

ولو نقص عن هذا المقدار لزالت منفعة الجمال والوقاية، ولو زاد عليه لغطى العين وأضرَّ بها وحال بينها وبين ما تدركه.

 

وأما شعر اللحية، ففيه منافع منها الزينة والوقار والهيبة، ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى، ومنها: التمييز بين الرجال والنساء.

 

والنساء لما كنَّ محل الاستمتاع والتقبيل، كان الأحسن والأولى خلوهن عن اللحى، وزين الشفتين بما أنبت فوقهما من الشارب وتحتهما من العنفقة، وزين الجبهة بالحاجبين وقوسهما وأحسن خطهما.

 

ثم انزل إلى "الصدر" ترى معدن العقل والعلم والحلم، والرضا والغضب، والشجاعة والكرم، والصبر والاحتمال، والحب والإرادة، والوقار والسكينة، والبر، وسائر صفات الكمال، وأضدادها، فتجد صدور العلِّية تعلو بالبر والخير والعلم والإحسان، وصدور السفلة تغلي بالفجور والشرور والإساءة والحسد والكبر.

 

وفي الصدر "القلب" الذي هو أشرف ما في الإنسان، وهو قوام الحياة، وهو منبع الروح الحيواني والحرارة الغريزية، وهو محل نظر الرب -تعالى- ومعرفته ومحبته وخشيته، والتوكل عليه والإنابة إليه، والرضا به وعنه.

 

والعبوديةُ عليه أوَّلاً، وعلى رعيته وجنده تبعًا، فالجوارح أتباع القلب، والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات أو المعاصي إنما هي آثاره، فإن أظلم أظلمت الجوارح، وإن استنار استنارت؛ ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن -عز وجل-، فسبحان مقلب القلوب، ومودعها ما يشاء من أسرار الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، ويعلم ما ينطوي عليه من طاعته ودينه، مصرف القلوب كيف أراد؛ أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إلي فبادرت وقامت بين يدي رب العالمين، وكره عز وجل انبعاث آخرين: (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ)[التوبة: 46].

 

فاتقوا -عباد الله- وتفكروا في أنفسكم، وما فيها من العبرة والدلالة على خالقكم وبارئكم، والزجر عن معصيته.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[ق: 31- 35].

 

بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه ... إلخ.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: القلب يطلق على معنيين:

 

على العضو اللحمي الصنوبري، الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وفي بطنه تجويف، وفي التجويف دم أسود.

 

والثاني: أمر معنوي، وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية، لها بهذا العضو تعلق واختصاص، وتلك هي حقيقة الإنسانية وهي "الروح".

 

عباد الله: وللملك لمة بالقلب، وللشيطان لمة فإذا ألم به الملك حدث من لمته، والانفساح، والانشراح، والنور، والرحمة، والإخلاص، والإنابة، ومحبةُ الله، وإيثارُه على ما سواه وقِصَرُ الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور.

 

فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه؛ ولكن تأتيه لمة الشيطان فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.

 

ثم من الناس من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى.

 

ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى.

 

والشيطان يلم بالقلب لما كان هناك من جواذب تجذبه؛ فإذا كانت الجواذب صفات قوي سلطانه هناك، واستفحل أمره، ووجد موطئًا ومقرًا، فتأتي الأذكار والدعوات، كحديث النفس، لتدفع سلطان الشيطان.

 

فإذا قلع العبد تلك الصفات وعمل على التطهير منها، والاغتسال بالتوبة النصوح، بقي للشيطان بالقلب خطرات ووساوس، ولمَّات من غير استقرار، وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك، فتأتي الأذكار والدعوات والتعوذات، فتدفعه بأسهل شيء: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)[النحل: 98 - 99].

 

عباد الله: وجماع الطرق والأبواب التي يصان منها القلب وجنودُه أربعة، فمن ضبطها وعدَّلها، وأصلح مجاريها، وصرفها في محالها اللائقة بها، استفاد منها قلبه وجوارحه، ولم يشمت به عدوه، وهي: الحرص، والشهوة، والغضب، والحسد.

 

فمن كان حرصه إنما هو على ما ينفعه، وحسده منافسة في الخير، وغضبه لله على أعدائه، وشهوته مستعملة فيما أبيح له، وعونًا له على ما أمر به، لم تضره هذه الأربعة؛ بل انتفع بها أعظم انتفاع.

 

إن أحسن الحديث ...

 

 

 

المرفقات

وفي أنفسكم أفلا تبصرون2.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات