القدوة الصالحة والأسوة الحسنة

عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أهمية القدوة للبشر بصفة عامة 2/ أسباب التأثر بالقدوة حسنة كانت أو سيئة 3/ آثار غياب القدوة الحسنة وظهور القدوات السيئة 4/ من أولى الناس بالقدوة الحسنة؟ 5/ صفات القدوة الحسنة.

اقتباس

إن القدوةَ - سواءً أكانت حسنةً أو سيئة - أكثرُ أثرًا وإقناعًا من الكلام النظري مهما كان بليغًا ومؤثرًا، ولعل هذا هو السرُ في إرسالِ اللهِ رسلاً من البشر عبر التاريخ مع أنه تعالى قادر - وهو الذي لا يعجزه شيء - على أن يلهم الناس شرعه، خاصة أن بشرية الرسل تعلَّلَ بها الجاحدون لرفض الإيمان كما قال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً)، لكن الذي قال عن نفسه: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) اقتضت حكمته إرسال الرسل من البشر؛ ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً عبر التاريخ؛ فهم التطبيق النموذجي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد ودليلٌ على واقعيةِ الشرع....

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

القدوة الحسنة عنصر هامّ في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات، وكما قيل: جالسوا من تذكّركم بالله رؤيتُهم، كيف لا وقد أمر اللهُ نبيَه بالاقتداء فقال: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90].

 

وتشتدّ الحاجة إلى القدوة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة بل تصل إلى درجة الوجوب إذا وُجدت قدواتٌ سيئةٌ فاسدةٌ تُحْسِن عرضَ باطلها.

 

إن القدوةَ - سواءً أكانت حسنةً أو سيئة - أكثرُ أثرًا وإقناعًا من الكلام النظري مهما كان بليغًا ومؤثرًا، ولعل هذا هو السرُ في إرسالِ اللهِ رسلاً من البشر عبر التاريخ مع أنه تعالى قادر - وهو الذي لا يعجزه شيء - على أن يلهم الناس شرعه، خاصة أن بشرية الرسل تعلَّلَ بها الجاحدون لرفض الإيمان كما قال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً) [الإسراء:94]، لكن الذي قال عن نفسه: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] اقتضت حكمته إرسال الرسل من البشر؛ ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً عبر التاريخ؛ فهم التطبيق النموذجي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد ودليلٌ على واقعيةِ الشرع.

 

وأوضح دليل على هذا الأثر ما وقع في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر: فلما فَرغ من قضية الكتاب - أي: بنود الصلح - قال رسول الله لأصحابه: "قوموا، فانحروا ثم احلقوا"، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: "يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك"، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.

 

إنّ هذا التأثيرَ القويَ والمباشرَ للقدوة يرجع إلى عدة أسباب منها:

أن الإنسان مفطور على حب التقليد، وكثيرًا ما يكتسب معارفَه وخبراته ومهاراته بالتقليد والمحاكاة، انظر إلى الطفل كيف يحاكي أباه ويتقمص شخصيته؛ لأن التعلم بالرؤية والمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع، والنفس بطبعها تحبّ الحصولَ على الشيء بأسهل الطرق وأسرعها ولو كان محرّمًا، لكن الشرع والعقل يضبطها.

 

وقوعُ الإنسانِ - مهما كان كسولاً أو مقصرًا - أسيرًا للقدوة، فيحمله ذلك الإعجابُ على التقليد والمحاكاة، وهنا تكمن خطورةُ الموضوع؛ لأنّ القدوةَ إما أن تكون حسنةً لها بريقها الذاتي فتَنجذبُ إليها النفوسُ تلقائيًا وتتأثر بها إيجابيًا، وإمّا أن تكون قدوةً سيئةً زخرفت وزينت بالأصباغ والألوان الخادعة، وسُلّط عليها الأضواءُ الإعلاميةُ الباهرة، وأُضفيَ عليها عباراتُ الثناء والتمجيد الكاذبة لإثارة إعجاب المخدوعين، وحقًّا منهم من يقع في حبائلهم وشراكهم، حتى إذا فحصه عن قرب أدرك أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل تبين له الوجهُ الحقيقيُّ، فما كان إلا إثارةً للغرائز والشهوات وتمجيدًا للكفرةِ والفساق والفجار باسم الفن والأناقة والرقص والغناء، وترويجًا للمنكرات والفواحش والرذائل باسم الترويح والسياحة، ومحاربةً للفضائل والحياء باسم الحرية والحضارة، وتنفيرًا من دين الله باسم التأخر والجمود، وتهجينًا لأحكامه باسم الكبت والقسوة، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40]، وتحقيرًا لدعاته باسم التطرف والإرهاب. نعم، هذا هو البديل عند غيابِ أو تغيّبِ القدواتِ الصالحة الحسنة.

 

وللأسف فإنّ دعاةَ الشر وشياطينَ الفساد استطاعوا أن يغزونا في عُقْرِ دارنا بهذه القدوات السيئة الفاسدة المفسدة عبر فضائياتهم، وبدأ المخطط - ولمّا يمضي عليه سنوات - يؤتي أكلَه الفاسد بمباركة الشيطان، فوُجد في فتيانِنا وفتياتنا من يقلّد الكفرةَ والساقطين في كل شيء، في مظهرهم وملبَسِهم، بل حتى في القضايا الجبلّية من أكل وشرب ومشي، تجد الواحدَ يتمايل كالمخبول! قالوا: هذه حضارة، بل حتى في تفاهاتهم الخاصة، وبلغ الأمر منتهاه حين ساغ لبعضهم عبادةَ الشيطانِ تقليدًا أعمى للكفرة، وإعجابًا بالحرية البهيمية، ومَلئًا للفراغ الروحي، لكن للأسف كالمستجير من الرمضاء بالنار، ففروا من الخواء الروحي إلى الشرك بالله في أقبح الصور وهو عبادة الشيطان، وعشنا لنرى قول الله متحقّقًا بنصه: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) [يس:60].

 

إنّ هذه المظاهرَ الشاذةَ لهي دليلٌ قويٌ على الشعور بالنقص والانهزام النفسي، وصدق ابنُ خلدون في قوله: "المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب أبدًا".

 

وإذا كنا قد عَجَزنا عن تحصين أبنائنا وشبابنا ضدّ هذه الفضائيات وبرامِجِها الفاجرةِ التي لا تعلّم إلا قلةَ الأدب ونزعَ الحشمة والحياء في الجملة، والتي يقوم عليها أناس لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة، فهل نحن عاجزون عن إيجاد البديل لتلك القدوات السيئةِ المنحرفةِ وهو القدوات الحسنة؟!

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء:89].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

 

الخطبة الثانية:

 

إنّ القدوة ليس لقبًا خاصًّا بأنواع محدّدة في المجتمع، كلا، بل هو وصف عام لكل مسلم. صحيح أن بعض الفئات يجب أن يكونوا قدوات صالحة في المجتمع؛ لأنّ عدم ذلك يعنى الفتنة والصدّ عن دين الله، لكنه لا يلغي التّبعة.

 

فالمسلمُ الذي يعيش بين ظهراني الكفرة ينبغي أن يكون قدوة لهم وممثّلاً للإسلام؛ لعله أن يكون سببًا في دخولهم الإسلام كما حصل في تاريخ الإسلام. وأهلُ الطاعة ينبغي أن يكونوا قدوة لأهل المعصية؛ بظهور أثر الطاعة وثمارها كالأمن النفسي وإثبات قوة الإرادة. والمدرسُ قدوةٌ لطلابه، فأيّ هدم للقيم يتسبّب فيه المدرس بانحيازه لبعض الطلاب؟! والأب لأبنائه، فأيّ هدم للقيم يباشره الأب حين يكذب أمام أبنائه مهما كان المبرّر كالتّلفون؟! والحاكم لشعبه، فأيّ مصيبة تقع عندما يظلم الحاكم شعبَه أو لا يقيم العدل بينهم؟! والرئيس لمرؤوسيه، فأي دعوة للتسيب يبثها الرئيس بين موظفيه بتأخره عن الدوام دائمًا؟! والداعية لمن يدعوه، فأي فتنة يحدثها الداعية للمدعو حين يعاهده ويخلف؟!

 

فهولاء الأصناف لا مندوحة لهم ولا خيار لهم أن لا يكونوا قدواتٍ صالحةً؛ لأنهم تحت المجهر والمراقبة شاءوا أم أبَوا، فهل يكونون أهلاً للتحدي؟! وهل يستشعرون مسؤولياتهم؟! وهل يحسبون خطواتهم؟!

 

أيّها الإخوة، لكل دعوى دليل، فما دليل دعوانا؟ خمس خصال هي الحدّ الأدنى لصدق الدعوى:

 

1- الاستقامةُ على منهج الله؛ وذلك بسلامة المعتقد وأداء الفرائض والتخلق بأخلاق الإسلام واجتناب الكبائر.

 

2- موافقةُ الأفعالِ للأقوال، ويكفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) [الصف:2، 3].

 

3- البعدُ عن مواطنِ الشبهات، قال رسول الله: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"، وإذا رُئي في موطن الشبهة بيَّن ذلك، فقد فعله من لا يشَكّ فيه البتّة سيدُ المرسلين، فقال: "على رسلكما، فإنها صفية" أي: زوجته -رضي الله عنها-.

 

4- التقليلُ من الترخّصِ وتغليبُ الأخذِ بالعزائم، قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35].

 

5- إتقانُ التخصّصِ ومتابعةُ التطويرِ والإبداعِ، ويكفي قولُ المصطفى: "إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

 

أيّها المقتدي! يجب أن تعلم أن القدوة مهما حرص على الكمال فهو بشر غير معصوم، وعملُه ليس حجة على الإسلام، بل الحجة قال الله قال رسوله، فالتمس لأخيك العذر عند التقصير، وإذا أبيتَ إلا اللوم فلُم نفسك أولاً، فقد قال الله تعالى: (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة:14، 15].

 

أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم*** أو سدّوا المكان الذي سدّوا

 

والماء إذا بلغ القلّتين لم يحمل الخبث.

 

 

 

المرفقات

الصالحة والأسوة الحسنة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات