أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم

محمد نعيم عرقسوسي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ لا يتحدث العاقل بالمبادئ وهو بعيد عنها 2/ كان النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة وأسبق الناس للعمل بما يدعو إليه 3/ سيادة القانون من أهم أسباب الأمن الاجتماعي 4/ واجب من يوصي بالحق 5/ واجب مَن يُوصَى ويُنْصَح.

اقتباس

خاطب الله -تعالى- أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون بقوله –سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ)، حين توصي غيرك بالحق وتدعوه إلى الخير وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر؛ ينبغي أن تكون قد سبقته إلى هذا كله؛ لئلا تكون ممن يتحدث بالمثاليات ويتحدث بالمبادئ وأنت بعيد عنها غائب عنها، بل ينبغي إذا تحدثت أن تكون أعظم الناس عملاً بما تقول، وأكثر الناس التزامًا بما تدعو إليه؛ لكي يكون قولك مصطبغًا بفعلك، ولتكون صاحب حال قبل أن تكون صاحب مقال...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]. نسأل الله أن يحسن ختامنا وختام المسلمين أجمعين ..

 

أيها الإخوة الكرام: خاطب الله -تعالى- أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون بقوله –سبحانه-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) [البقرة:44]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 2- 3].

 

حين توصي غيرك بالحق وتدعوه إلى الخير وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر؛ ينبغي أن تكون قد سبقته إلى هذا كله؛ لئلا تكون ممن يتحدث بالمثاليات ويتحدث بالمبادئ وأنت بعيد عنها غائب عنها، بل ينبغي إذا تحدثت أن تكون أعظم الناس عملاً بما تقول، وأكثر الناس التزامًا بما تدعو إليه؛ لكي يكون قولك مصطبغًا بفعلك، ولتكون صاحب حال قبل أن تكون صاحب مقال.

 

نعم أيها الإخوة: وقدوتنا وأسوتنا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد علمنا هذا فقد كان يبين لنا هذا في حاله وفي أفعاله عليه الصلاة والسلام، فلم يكن يعذر نفسه مما يقول ولم يكن يستثني نفسه مما يأمر به، بل كان أول الناس عملاً بما دعا إليه الناس جميعا.

 

انظروا إليه -صلى الله عليه وسلم-حينما قال: "خيركم خيركم لأهله"، ثم قال: "وأنا خيركم لأهلي".

 

فهو الذي سبقنا بهذا وهو الذي كان رائدنا ورائد الناس في هذا: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، يعني لا أدعوكم إلى أمر أنا بعيد عنه.

 

وقال كذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتعلم من حاله ومقاله -عليه الصلاة والسلام- كما في الحديث الصحيح في البخاري ومسلم وغيرهما حين خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع قال: "ألا وإن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" يعني باطل ولاغٍ، كل أمور الجاهلية لاغية وباطلة.

 

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ودماء الجاهلية موضوعة"، يعني أبطلت وتركت، وطويت صفحتاه لئلا تبقى هناك ثارات، ولئلا تستمر بعد ذلك انتصار الناس لأنفسهم ويكون سفك الدماء ويكون بعد ذلك الإجرام قال: "ألا ودماء الجاهلية موضوعة"، ثم انظروا ماذا قال: "وأول دم أضع من دمائنا "، يعني مما يخص النبي -صلى الله عليه وسلم- "دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب".

 

فبدأ بأهله، بدأ بأسرته، قال: "أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب" كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل.

 

"وإن ربا الجاهلية موضوع" يعني كل ما كان من الفضل على رءوس الأموال ربا الجاهلية كله لاغٍ ولا ينبغي أن يحاسب فيه أحد أحدًا.

 

ثم قال، واسمعوا إلى هذه القدوة العظيمة والأسوة الحسنة، قال: "وأول ربا أضع ربا العباس بن عبدالمطلب"، أول ربا ألغاه ربا عمه الذي كان في الجاهلية يفعل هذا كشأن بقية العرب أول ربا أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب.

 

إذًا أرأيتم كيف أن الذي يأمر بالمعروف ينهى عن المنكر يوصي بالحق يدعو إلى الخير يجب أن يكون مستبقًا به قائمًا به متحققًا فيه.

 

ويروي البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن قريشًا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت"، كان لها شأن عندهم بل خافوا من العيب والعار.

 

وهذا الأمر اتضح وعرف، ورُفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فالقصاص أن تُقطع يدها؛ فأهمهم هذا، فقالوا: "من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: "ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد".

 

وأسامة بن زيد كان معروفًا أنه محبوب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقه وإخلاصه ونجابته، فكلمه أسامة فإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يغضب ويقول: "يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله"، يعني: لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيه، ثم قال له وقد جمع الصحابة وقام فيهم خطيبًا وقال لهم: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف –يعني ذا المنزلة- تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

 

أرأيتم التزامه بمبدئه، التزامه بشريعته، نعم أيها الإخوة الكرام.

ولما قال فاطمة بنت محمد؟ لأن الذي سرقت اسمها فاطمة بن الأسود، فكانوا يحاجون عن فاطمة بنت الأسود فقال لهم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

 

أيها الإخوة: وهذا ما يسميه الحقوقيون اليوم سيادة القانون هكذا يقول الحقوقيون، يتكلمون عن سيادة القانون بأنه لا يُستثنى من القانون أحد، هذا أرسى مبادئه -صلى الله عليه وسلم- ورسخها وأقسم هذا اليمين: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

 

ويقول العلماء والحقوقيون: إن سيادة القانون من أهم أسباب الأمن الاجتماعي، نعم أيها الإخوة، إذًا أرأيتم نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- كيف كان أول الناس التزاما بما يدعو إليه، وقد روى الطبراني في المعجم الكبير وأبو يعلى كذلك وغيرهم عن الفضل بن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام معه وقال صح لي في الناس اجمع الناس، يقول الفضل فجمعت الناس فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ يخطب فيهم بعد أن حمد الله -تعالى- وأثنى عليه ثم قال: "يا أيها الناس إني قد دنا مني خفوف من بين أظهركم " يعني إني راحل عنكم، فإذا به يقول للناس للصحابة "فمن كنت جلدت له ظهرا" يعني بغير حق "فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه".

 

ثم قال -وانظروا إلى هذا التوجيه النبوي الرائع-: "لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قِبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- " يعني قد يجادلني ويشاحنني فأجد نفسي أن على غير حق، قال "ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني، ألا وإن أحبكم إليَّ من أخذ حقًّا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس".

 

ما هذا الكلام العظيم؟! قال "إن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس"، ثم قال: "ألا وإني لا أرى ذلك مغنٍ عني حتى أقوم فيكم مرارا"، يعني يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول هذا مرات، وفعلا قام مرة أخرى، وقال ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام إليه رجل قال يا رسول الله: "إن لي عندك ثلاثة دراهم" فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "أما إنا لا نكذب قائلا ولا نستحلفه على يمين، ففيم كانت لك عندي"، قال يا رسول الله: تذكر يوم مر بك مسكين فأمرتني أن أدفع إليه فأعطيته ثلاثة دراهم".

 

يعني لما مر المسكين لم يكن مع النبي دراهم سأل من معه دراهم قال هذا الرجل أنا قال ادفعها إليه فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للفضل: "أعطه يا فضل".

 

إذاً أرأيتم كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقيد من نفسه ويسبق الناس إلى ما يأمرهم به، نعم أيها الإخوة وهذا ما جرى عليه الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- وأسوتهم في ذلك كلام الله وأسوتهم في ذلك حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد روي عن ابن عمر أنه قال: كان عمر -رضي الله عنه- إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله وقال لهم: "إني نهيت عن كذا وكذا، والناس إنما ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجل منكم وقع في شيء مما نهيت عنه الناس إلا أضعفت له العقوبة لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدم ومن شاء منكم فليتأخر".

 

إذاً هكذا مشى الصحب الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- على أنهم أول الملتزمين بما يقولون وبما يدعون الناس إليه -رضي الله تعالى عنهم-.

 

وقد ذكر لنا ابن عمر كذلك قال: اشتريت إبلاً وأخذتها إلى الحمى –في المرعى- فلما سمنت قدمت بها السوق فدخل عمر السوق، فرأى إبل سمانا، فقال لمن هذه؟ فقيل: لعبد الله بن عمر فجعل يقول: يا عبد الله بخ بخ ابن أمير المؤمنين!

 

قال: فجئته أسعى وقد سمعته يقول هذا الكلام، فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال ما هذه الإبل؟ قلت إبل أنضاء –يعني هزيلة- اشتريتها وجئت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال له: تبتغي ما يبتغي المسلمون! أم يُقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، أفسحوا لإبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر خذ رأس مالك واجعل الربح في بيت مال المسلمين.

 

هذا الالتزام العظيم الذي كان عليه صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أخذوه من حال النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه هو كان أشد الناس التزامًا بما يأمر به وبما يدعو إليه -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- التنفيذ العملي والواقعي لكلام الله -سبحانه وتعالى-.

 

لذلك أيها الإخوة أقول لكم: إن واجب من يدعو إلى الخير ويوصي بالحق أن يكون أشد التزامًا بهذا؛ لأنه سيُسأل عن ذلك يوم القيامة، قد يقول قائل وسألني سائل قال: قد يكون الرجل مثلا معتادا عادة سيئة ولا يريد لولده أن يقع فيها، هل لا ينهاه ولا يحذره لأنه وقع في هذا الخطأ ولأنه مبتلى به؟ قال العلماء الجواب: ينبغي ولو كنت مبتلى بعادة سيئة أن تحذر ولدك والناس منها لكن يجب أن تعد نصيحتك لولدك أو جارك أو أخيك نصيحة لك وله في آن واحد.

 

يعني لعل أمرك له تجعله أمرًا لنفسك وتذكر نفسك مرة أخرى؛ لأنه من الواجب عليك أن تنتهي عن هذا المنكر الذي وقعت فيه، فتكون تذكرتك له تذكرة لك أولا، ويجب أن تضع هذا في ذهنك لكي إذا أمرت بالحق نهيت عن المنكر سارعت أنت أولاً إلى التزام ما تقوله وتدعو إليه فحينئذ إذاً سيمتثل الناس أمرك، وحينئذ سيتابعك الناس على الخير، وحينئذ يعم الخير على المجتمع كله، وتكون أنت بذلك مفتاحا للخير مغلاقا للشر.

اللهم اجعلنا جميعا مفاتيح للخير مغاليق للشر برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

إذاً هذا واجب من يوصي بالحق فما واجب من يوصى وينصح؟ ويؤمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر؟ هذا ما سنذكره في وقت أخر إن شاء الله والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر وأشكره وهو الذي وعد المزيد لمن شكر..

 

عباد الله: اتقوا الله فيما أمر وانتهوا عما عنه نهى وزجر وأخرجوا حب الدنيا من قلوبكم، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه جل جلاله فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات..

 

 

 

المرفقات

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات