بلاء المجاهرين

عبد الرحمن بن إبراهيم العليان

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/المعاصي سبب كل بلاء 2/خطر المجاهرة بالمعاصي 3/عدم معافاة الله للمجاهرين بالمعاصي في الدنيا والآخرة 4/بعض مظاهر المجاهرة بالمعاصي في العصر الحاضر 5/إهمال أولياء الأمور للأبناء 6/وسائل الحد من المجاهرة بالمعاصي

اقتباس

المجاهرة بالمعاصي؛ ذنبٌ فوق الذنب ذاته، يستحقُّ صاحبها عذابًا فوق العذاب بما يشيع من المنكر، ويفسد من أديان الناس. المجاهرة بالمعاصي؛ إثمٌ وحرجٌ على ذويها، وإشاعةٌ للمنكرات، ودعوة إليها، وتجرئةٌ عليها، وتوهينٌ لخطرها وضررها، فيكونُ وقعها في النفوس ضعيفا أو معدوما؛ لـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد للهِ العفوِّ الغفور، له الحمدُ كلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه، هو بدأكم أول مرة، وإليه النشور.

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، شهادةً يسعدُ بها قائلُها في الدنيا، وينجو ويفوزُ إذا بُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّلَ ما في الصدور.

وأشهدُ أن محمدًا عبدالله ورسوله، الصّبّارُ الشكور، صلى الله وسلم عليه صلاةً وسلامًا دائمين مباركين، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فإن تقوى الله -تعالى- أعزُّ مكتسب، وطاعتَه أشرفُ نسب، كُتِب على المتقين النجاح، وعاقبةُ أمرِهمُ الفوزُ والفلاح، وَحَّدُوا ربهم فأحْسَنُوا التوكل، وأصلحوا العمل، واتَّخَذُوا الشيطانَ عدوًّا، واتقَوا مضلاتِ الفتن، وكبائرَ الإثم، والفواحشَ ما ظَهَرَ منها وما بطن.

 

أيها المؤمنون: إن المعاصيَ لملهكاتٌ مردياتٌ؛ إذْ كلُّ بلاء في قديمٍ أو حديث، أو سرٍّ أو علانية؛ فسببه المعاصي، يقعُدُ معاقِروها ملومين محسورين، إلا أن يتدارَكَهم الله برحمة منه وفضلٍ، فيتوبَ عليهم.

 

وإنه لا أقبحَ من المعصية والإصرارِ عليها إلا: المجاهرةُ بها؛ استخفافًا بحرمتِها، ونزعًا لرداءِ الحياءِ ممّن حرَّمها –تعالى-، ومن الناس.

 

المجاهرة بالمعاصي؛ ذنبٌ فوق الذنب ذاته، يستحقُّ صاحبها عذابًا فوق العذاب بما يشيع من المنكر، ويفسد من أديان الناس.

 

المجاهرة بالمعاصي؛ إثمٌ وحرجٌ على ذويها، وإشاعةٌ للمنكرات، ودعوة إليها، وتجرئةٌ عليها، وتوهينٌ لخطرها وضررها، فيكونُ وقعها في النفوس ضعيفا أو معدوما؛ لكثرة استمرائها، ومشاهدتها، وقلة النكير لها، وربما وقع فيها من كان عنها غافلا، وكَثُرَ فاعلوها كالمستحلِّين لها.

 

وقبل ذلك؛ فيها من الجرأةِ على الله -عز وجل-، ومبارزتِهِ بفعلها، وضعف التقوى، ما فيها؛ ولذا كانت من أسبابِ الهلاكِ العامّ، والأخذِ الشديد، والعذابِ الأليمِ في الدنيا والآخرة، وفي ذلك يقولُ الحقّ -تبارك وتعالى-: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].

 

والجبارُ -عزَّ وتقَدَّس- لم يهلكِ الأولين إلا حين بارزوه بالكفران، وجاهروا بالعصيان، عَقَرَتْ ثمودُ الناقةَ مبصرة، وبخست مدينُ الناسَ أشياءهم، وأتى قومُ لوطٍ في ناديهمُ المنكرَ، وأعلنوا بالفاحشة التي ما سبقهم بها أحدٌ من العالمين، وتجبَّر فرعونُ وملؤه، وعاثَوا في الأرض فسادا، فأخذَ اللهُ أولئكم جميعًا أخْذَ عزيزٍ مقتدر.

 

المجاهرُ، صفيقُ الوجه، عديمُ الحياء، ينادي على نفسه بالوقاحة، تنفرُ من أذاه النفوسُ السوية، وتشمئزُّ من أفعالِه القلوبُ التقية، ويكونُ عرضةً للتندُّرِ، وربما لم تخطئْه سهامُ دعواتِ الصالحين الذين آذاهم بغير ما استحقُّوا.

 

أيها المؤمنون: المجاهرون قد ضَيَّقُوا على أنفسهم، فأخرجوها من دائرة عفو الله -تعالى-؛ وفي ذلك يقولُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ أمتي معافى إلا المجاهرين" [أخرجه البخاري (6069) ومسلم (2990)].

 

وكفى بذلكم تهديدًا ووعيدًا يأخذُ بمجامعِ القلوبِ الحية، وَيَزَعُ من كتبَ اللهُ له الخيرَ من المجاهرين، فيتوبون من مجاهرتِهم، وينزِعون عنها.

 

أَفَيَعِي المجاهرون مقتضى حديثِ رسولِ اللهِ -صلواتُ ربي وسلامُهُ عليه- الآنفِ الذكر؟!

 

إن مقتضى عدمِ المعافاةِ في الدنيا: أن يصرَّ المجاهرُ على ذنبِه، فلا يوَفَّقَ للتوبة النصوح قبل الموت.

 

ومما يدخل في عدم المعافاة: أن يحملَ أوزارَ غيره ممن دعاهم إلى المعاصي بتزيينه واستهتاره، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" [رواه مسلم (2674)].

 

ومن عدمِ المعافاةِ أيضا: أن يكشفَ اللهُ سترَه في الدنيا فيما يستخفي به، ولا يريدُ اطلاعَ الناس عليه فيه، فيفضحَهُ ولو في بيته، مهما استتر خلف معرفات وهمية، وحروفٍ رمزية، ومهما احتاط في استتاره، وأن يمكِّن منه، فيجزى الجزاءَ الدنيويّ.

 

أما عدمُ المعافاة في الآخرة: فيبيّنها هذا الحديثُ المتفقُ على صحته، فعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ المَازِنِيِّ، قَالَ: "قال رجلٌ لابن عمر -رضي الله عنهما-: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ..."[أخرجه البخاري (2441، 4685) ومسلم (2768)].

 

فيُخْشَى على المجاهرِ أن يفوتَه هذا السترُ الإلهيّ، والعفوُ الأخرويّ، فيهلكَ مع الهالكين.

 

أما غير المجاهرين: فهم أرجى لعفو الله، وأقرب إلى رحمته، وأدنى أن يتوبوا، فيتوبَ اللهُ عليهم.

 

قال الإمامُ ابن القيم -رحمه الله-: "المستخفي بما يرتكبه أقل إثما من المجاهر المستعلن، والكاتِمُ له أقلُّ إثما من المخبر المحدِّث للناس به؛ فهذا بعيد عن عافية الله -تعالى- وعفوه.." [إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (2 / 147)].

 

وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "فَإِنَّ سِتْرَ اللَّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِسِتْرِ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ؛ فَمَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ، فَلَمْ يَسْتُرْهُ، وَمَنْ قَصَدَ التَّسَتُّرَ بِهَا حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ وَمِنَ النَّاسِ؛ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَتْرِهِ إِيَّاهُ"[فتح الباري (10 / 488)].

 

عبادَ الله: وللمجاهرة مظاهرُ شتى يصعب حصرُها، وقد ظهرت في هذا العصر صورٌ للمجاهرة أشدُّ وأفظعُ من ذي قبل.

 

فمن المجاهرة: إهمالُ الصلاةِ والاستخفافُ بها، أو تركُ أدائها جماعةً في المسجد، والمجاهرةُ بالفطر في نهار رمضان، والمجاهرةُ بمنعِ الزكاة، وأكلِ الحرام، وشهادةِ الزور، وكتمانِ شهادةِ الحق، وتركِ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر، والمجاهرةُ بالأمرِ بالمنكر والنهيِ عن المعروف، والغشِّ والخيانة، ورؤيةِ الحرام وسماعه، وغشيانِ أماكنِ اللهو الحرام، والتبرجِ والسفور، والاختلاط بين الجنسين، والتشكيكِ في الثوابت، والكذبِ على اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، والمجاهرةُ بالعقوقِ والقطيعة، وشربِ الدخان، وحلقِ اللحية، وإسبالِ الثياب، والتشبهِ بالكفار في اللباسِ والزينةِ، والاحتفالِ بأعيادهم.

 

ومنها: ما حذر منه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْه"[أخرجه البخاري (6069) ومسلم (2990)].

 

ومن مقيتِ صورِ المجاهرة: الدَأَبُ على إشاعةِ الفاحشةِ في الذين آمنوا، عبر أفلام رخيصة، ورواياتٍ عفنة، ومقالات هزيلة، أو استخدام الإعلام الجديد لنشر الفاحشة، وطلبِ المتعة الحرام، ولو كان ذلك عبر أسماءٍ وهمية، وحروفٍ رمزية؛ فالمجاهرة هي المجاهرةُ، وإن جُهِلَ أصحابُها، فالله -تعالى- يعلمهم.

 

إنه ما يفعله بعضُ من اتبعوا خطواتِ الشيطان، فَسَوَّلَ لهم الفحشاءَ والمنكر، يستخدمون مواقعَ التواصلِ الاجتماعيِّ لإشاعةِ الخنا وتوهينِه وتطبيعِه، يدْعون من خلاله إلى الزنا واللواط، بل وزنا المحارم، ويشتركون في مجموعاتٍ ورابطاتٍ يتبادلون من خلالها صورًا فاضحة، وأفلامًا مخزية، ويوحي بعضهم إلى بعضٍ بطرقٍ شتى في التعدي على الأعراض، والإغواء، وانتهاكِ الحرمات، ويُبْرِزُون مصطلحاتٍ وأسامٍ بالغةً في الوقاحة منتهاها.

 

ونحوُ هذا الفعلِ القبيح: لقاءاتٌ مختلطة بين الجنسين بعيدًا عن أعين الرقيب من البشر، يُؤتى فيها كلُّ قبيح من القول، ورديءٍ من الفعل، وقولوا مثل ذلكم في تجمعات شبابية باتت رمزا لنبذ الحياء، وفعل الفحشاء، بل باتت المجاهرة عند بعضهم ميدانًا للتنافس، وكم لمشهدٍ واحدٍ من المجاهرة من أثرٍ بليغٍ في نفوس المشاهدين والسامعين!.

 

وأين هؤلاء وأمثالهم من قولِ الحق -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [النور: 19].

 

تحدُثُ هذه المظاهر المستنكَرة في أوساط الشباب والفتيات في غفلة من أولياء، وقصورٍ في القيام بمسؤولية التربية الحقة، والتوجيهِ والإرشاد، وفي سِنَةٍ من بعض المعنيِّين من باحثين ومربِّين وموجِّهين عن لفت الانتباه نحو هؤلاء، وعن إيجاد ما يملأ الفراغ، ويقوِّم السلوك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27].

 

نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وبسنة النبيّ الأواب، صلى الله عليه وعلى الآل والأصحاب.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون- واعلموا أن المعاصيَ إذا ظَهَرَتْ وفَشَت اسْتحْكمتْ، وعَسُرَ إنكارُها وإزالتُها، وأنها لم تظهرْ بين عشيةٍ وضحاها، بل إنما ظهرت شيئا فشيئا، بعد أن كان أصحابُها يستخْفُون بها.

 

إن الأمانَ دون المجاهرة بالفسوق والعصيان، هو بالقيام بما أوجب الحقّ -سبحانه-، من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يُخشى اللهُ في الناس، ولا يُخْشَى الناسُ في الله، وإن الله -تعالى- لا يعذب العامّةَ بذنب الخاصة، ولكن إذا عُمِلَ المنكر جهارا دون نكيرٍ أخذُ اللهُ العامةَ والخاصة، ثم يدعونه فلا يستجيبُ لهم.

 

وما أروعَ أن تحاصرَ المجاهرةُ المرذولةُ؛ بإشاعة المجاهرة بالفضائل والمعروف في المجامع والمنتديات والمحافل واللقاءات؛ يُعَلَّمُ جاهل، ويُذَكَّر غافل، ويحذَّرُ من بلاء، ويبادَرُ إلى مشروع نافع، ويُرَوَّحُ باللهو المباح، وكان أولى لأولئكم المتعاونين على الإثم والعدوان، أن يستبدلوا تلك المجموعاتِ السافلةَ بمجموعاتٍ خيّرة، تقربهم من الخير، وتأخذ بأيدهم إلى حيثُ الصلاحُ في الدارين، وأن يغتنموا إمهال الله وسترَه، قبل أن يؤخذوا على حين غرة، ولاتَ وقتَ ندم.

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صلّيت على إبراهيم وعلى إبراهيم في العالمين؛ إنك حميدٌ مجيد، وسلم تسليما كثيرا.

 

 

 

المرفقات

بلاء المجاهرين.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات