شعلة النار المحرقة (الغضب)

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مفاسد الغضب ومضاره 2/ الغضب شعلة نار 3/ من نتائج الغضب الحقد والحسد 4/ أسباب الغضب ووجوب توقيها 5/ أضرار الغضب الجسدية والاجتماعية 6/ علاج ناجع للغضب 7/ ثمرات كظم الغيظ في الدنيا والآخرة.

اقتباس

إذا اشتعلت نار الغضب انطلقت الأعضاء بالضرب والتهجم والتمزيق، وربما القتل والجرح عند التمكن.. وربما مزَّق الغضبان ثوبه ولطم نفسه، وضرب بيده على الأرض وربما ضرب الجماد والحيوان، وكسر الإناء، وشتم البهيمة ورفسها.. وإذا اشتعلت نار الغضب هاج الحقد والحسد بالقلب وأَضمر السوء والشماتة وأصيب بالحزن والضيق. وأفشى الغضبان السر وهتك الستر. أما أضرار الغضب الجسدية فنذكر منها بالإجمال أمراض شرايين القلب، وارتفاع ضغط الدم، والصداع واضطراب النوم، وقرحة المعدة والشعور المتكرر بالحموضة وعسر الهضم، والشعور الدائم بالإجهاد والإعياء المزمن وضعف القدرة على التحمل...

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها الإخوة يقول الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، وتجنبوا سيئ الأخلاق والأعمال، ألا وأن من أسوأها الغضب..!

 

نعم: إن الغضب شعلةُ نارٍ اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.. وإنها لمستكنة في الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد؛ كاستخراج الحجر النار من الحديد.

 

وقد كشف لنا النبي الأمين -عليه الصلاة والسلام- فيما روي عنه بسند فيه مقال، ولكن معناه صحيح.. "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ..". وشأن النار التلظي والاستعار والحركة والاضطراب، بخلاف الطين الذي هو أصلنا شأنه السكون والوقار..

 

فإذا غضب الإنسان نزع منه عرق إلى الشيطان نعوذ بالله منه.. وإن من نتائج الغضب الحقد والحسد وبهما هلك من هلك وفسد من فسد.. فما أحوجنا إلى معرفة أضراره لنحذر منه ونتقيه..

 

فمن تحذير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما رواه عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟" قَالَ قُلْنَا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: "لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (رواه البخاري ومسلم).

 

وفيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ" "لَا تَغْضَبْ".

 

أحبتي يا لها من وصيةٍ عظيمةٍ قليلةٍ في لفظها عظيمةٍ في معناها؛ فقد جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها خيري الدنيا والآخرة..

 

وذلك أن الغضب يحمل على التقاطع ومنع الرفق، وربما حمل على إيذاء المغضوب عليه وكل هذا سبب في نقص الدين.

 

أيها الأحبة: وللغضب أسباب كثيرة؛ منها المزاح والاستهزاء والتعيير، وشدة الحرص على المال والجاه والكبر وعزة النفس.. وكل هذه أخلاق مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالتها..

 

وإزالتُها تكون بالتخلق بأضدادها: فنزيل المزاح بالتشاغل بالمهمات الدينية والدنيوية التي تستوعب العمر وتفضل عنه، وأما الاستهزاء فنزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس أن يستهزأ بها، وأما التعيير فبالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب، وأما شدة الحرص فبالصبر على مر العيش وبالقناعة بقدر الضرورة طلبا لعز الاستغناء، وأما الكبر فبالتواضع.

 

وكل خُلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر الإنسان في علاجه إلى ترويض النفس، وتحمل المشقة الحاصلة بذلك، والرجوع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها، وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على أضدادها مدة مديدة حتى تصير عادة هينة مألوفة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضًا من الغضب الذي يتولد منها..

 

وأشد البواعث للغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة وعزة نفس فيسمونه يغير اسمه؛ حتى تميل النفس إليه وتستحسنه، وهذا من الجهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل، ويعالج هذا الخلق ببيان فضل كظم الغيظ والعفو وبما كان عليه نبينا من كظم الغيظ والحلم على الجاهل.. وأن يطلع الإنسان على حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ..

 

أيها الإخوة: إن الغضب من الشيطان، وأصل الشيطان من النار، فإذا اشتعلت نار الغضب وهاجت تغير لون الغضبان، واشتدت رعدة أطرافه، وجحظت عيناه واحمرت، وخرجت أفعاله عن الترتيب والنظام، واضطربت حركته وكلامه.. وربما ظهر الزبد على شدقيه؛ فتستحيل الخلقة.

 

ولو رأى الغضبان قبح صورته حال الغضب؛ لسكن غضبه من قبح صورته، ووالله إن باطنه لأقبح.

 

وإذا اشتعلت نار الغضب انطلق اللسان بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحى منه ذو العقل، ويستحي منه قائله عند سكون غضبه.

 

وإذا اشتعلت نار الغضب انطلقت الأعضاء بالضرب والتهجم والتمزيق، وربما القتل والجرح عند التمكن.. وربما مزَّق الغضبان ثوبه ولطم نفسه، وضرب بيده على الأرض وربما ضرب الجماد والحيوان، وكسر الإناء، وشتم البهيمة ورفسها..

 

وإذا اشتعلت نار الغضب هاج الحقد والحسد بالقلب وأَضمر السوء والشماتة وأصيب بالحزن والضيق. وأفشى الغضبان السر وهتك الستر.

 

أما أضرار الغضب الجسدية فنذكر منها بالإجمال أمراض شرايين القلب، وارتفاع ضغط الدم، والصداع واضطراب النوم، وقرحة المعدة والشعور المتكرر بالحموضة وعسر الهضم، والشعور الدائم بالإجهاد والإعياء المزمن وضعف القدرة على التحمل..

 

أيها الإخوة: هذه آثار الغضب فهل بعد هذه الآثار وغيرها كثير، نطلق للنفس والشيطان العنان. ولقد هدانا الهادي البشير إلى علاج ناجع للغضب، فقال: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع" (رواه أبو داود).

 

وذلك أن القائم متهيئ للحركة والبطش، والقاعد دونه في ذلك، والمضطجع دونهما. ومما يعالج به الغضب كذلك الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فعن سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ. قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ. وَأَحَدَهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا، قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا، لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ. لَوْ قَالَ: أَعُوذ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم". فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: إنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. (رواه البخاري ومسلم).

 

ومن هذا الحديث نعلم خطأ من يقول للغضبان: صلّ على النبي، أو قل لا إله إلا الله. بل قال أهل العلم لا يطلب منه ذلك، لأنه ربما قال لن أقول لا إله إلا الله، ولن أصلي على النبي.. وفيه خطر عظيم.

 

ومما يعالج به الغضب الوضوء قال رسول الله: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ "(رواه أحمد وأبو داود).

 

أحبتي: وقد استثنى أهل العلم الغضب لله ولدينه وللحق والعدل. ونقل عن النبي أنه لم يغضب لنفسه قط، إنما كان يغضب لله. فإذا غضب لم يقم لغضبه شيء..

 

ومما يعين على التخلص من الغضب توطين النفس على ما يصيبها من أذى الخلق، سواء من الأذى الفعلي أو القولي. فإذا وفق العبد لذلك وورد عليه وارِدُ الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره ومعرفته بحسن عواقبه.

 

ومما يعين كذلك أن لا ينفّذ غضبه بعد أن يغضب؛ فإن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من ترك تنفيذه، فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب، فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة فكأنه في الحقيقة لم يغضب، وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية والقوة القلبية.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) [الشورى:37]، قد تخلقوا بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعة حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله، كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه، بل غفروه، ولم يقابلوا المسيء إلا بالإحسان والعفو والصفح. بارك الله لي ولكم في القرآن...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خص أولياءه بالكرامة، وجعلهم خلفاء نبيه المبعوث بالرحمة والاستقامة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن مما يعين على تسكين الغضب تذكر ثواب العفو وجزاء الصفح قال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133- 134].

 

دلت هذه الآية على أن الكاظمين الغيظ من المتقين، وأن مغفرة ربهم تنالهم وجنة أعدت لهم. وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ". (رواه أبو داود والترمذي وهو حديث حسن).

 

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ". (رواه ابن ماجه وقال الألباني صحيح).

 

وروي أن رجلاً من جفاة الأعراب قال لعمر -رضي الله عنه-: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عُرف ذلك في وجهه.. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين ألم تسمع قول الله –تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين. فسكن عمر -رضي الله عنه-.

 

وقال أبو الدرداء: "أقرب ما يكون العبد من غضب الله –تعالى- إذا غضب"...

 

 وصلوا على نبيكم

 

 

 

المرفقات

النار المحرقة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات