والله يعلم المفسد من المصلح

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-31 - 1436/04/11
التصنيفات: بناء المجتمع
عناصر الخطبة
1/سلوك منهج الأنبياء في الإصلاح 2/سنة التدافع بين المصلحين والمفسدين 3/محاولة المفسدين الظهور بثياب المصلحين 4/اتهام المفسدين للمصلحين بالإفساد في الأرض 5/المقصود بقوله: (والله يعلم المفسد من المصلح) 6/مفهوم الإصلاح وشموليته لجوانب الحياة 7/بعض صفات المصلحين وبعض صفات المفسدين 8/وجوب الإصلاح على كل مسلم على حسب قدرته وحاله

اقتباس

أيها المسلمون: إن الإصلاح عملية شاملة واسعة، لا تحدها حدود، ولا تقف في وجهها سدود، إن مساحة الإصلاح مساحة عريضة واسعة، لا يمكن بأي حال من الأحوال، قصرها على جوانب معدودة، لذا فإن...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ ...

 

أما بعد:

 

إن الله -جل وتعالى- أوجدنا في هذه الأرض لكي نسلك طريق الإصلاح، ونبتعد عن طريق الفساد والإفساد، بل وأمرنا -جل وتعالى- أن نكون من المصلحين تبعاً لمنهج وطريقة الأنبياء والمرسلين.

 

فشعيب -عليه السلام- قال لقومه: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ)[هود: 88].

 

وصالح عليه السلام قال لقومه: (وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف: 79].

 

ثم إن الله -جل وعز- نهى عن الفساد في الأرض، فقال تعالى: (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الشعراء: 183].

 

وأخبر أنه لا يحب الفساد، فقال: (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ)[البقرة: 205].

 

وقال سبحانه: (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[المائدة: 64].

 

ولهذا لا يمكن أن يجتمع الصلاح والفساد في إناء واحد، ولا يمكن أن يوجد المصلح والمفسد في مكان واحد، إلا وحصل بينهما التدافع: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص: 28].

 

فسبيل المصلحين معروف، وسبيل المؤمنين المتقين معروف، كذلك سبيل المجرمين وسبيل المفسدين معروف؛ لأن الإصلاح ضد الإفساد، والفطر والعقول السليمة تميز ذلك، ولا يمكن أن يلبس على الناس الإصلاح والإفساد، وإن حاول ذلك بعض الأغبياء.

 

أيها المسلمون: إن من عجائب هذا الزمان: محاولة المفسد أن يلبس ثوب المصلح، الرجل الذي عرف بالفساد وتاريخه معروف للجميع، الصغير والكبير، كل يعرفه، وله مواقف سيئة في طريق الإصلاح، سواء كانت ظاهرة أم خفية، بحسب ظنه هو، هذا الرجل يريد أن يلبس الآن ثوب المصلح، ويظهر نفسه أمام الناس أنه المصلح، وأنه يحب طريق الإصلاح: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ)[البقرة: 11 - 12].

 

بل والأعجب من هذا -أيها الأحبة- والأقبح: أن يتهم المفسد المصلح أنه يريد الإفساد في الأرض، وهذه تهمة قديمة جداً، وحيلة قد عفى عليها الزمن لكن لغباء المفسدين، مازالوا يستخدمونها.

 

إن تاريخ هذه التهمة يرجع إلى إمام المفسدين فرعون مصر، الذي كان يتهم موسى -عليه السلام- بذلك، وكان يحاول أن يقنع قومه عبر أجهزة إعلامه بذلك، فكان يقول: (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر: 26].

 

فرعون كان يخاف، وكان حريصاً على الدين، فرعون كان يتهم موسى بأنه يظهر في الأرض الفساد، لذا كان يريد هو أن يحمي مجتمعه من فساد موسى على حد قوله.

 

فالطريقة الوحيدة لحفظ المجتمع هو القتل: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ * وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[غافر: 26 - 29].

 

إلى أن قال فرعون بعد هذه الآيات.

 

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ)[غافر: 36 - 37].

 

وهذه هي نهاية كل مفسد يريد أن يقف في وجه الإصلاح، بل إن أمره لا بد أن ينكشف ويظهر.

 

والله -جل وتعالى- يقرر في آية من كتابه قاعدة عظيمة جليلة في هذا الباب، فيقول عز شأنه: (وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)[البقرة: 220].

 

قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح".

 

فليعلم أهل الإفساد بأن أمرهم مكشوف، وأن الله -جل وتعالى- عليم بهم، كما قال سبحانه: (فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)[آل عمران: 63].

 

بل إن الله -جل وتعالى- قرر في كتابه بأن عمل المفسدين، وتخطيطاتهم، وتدبيراتهم، سيبطلها جل وتعالى، وأنه لا يمكن أن يوفقهم إلى عمل، فقال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: (فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 81].

 

أيها المسلمون: إن الإصلاح عملية شاملة واسعة، لا تحدها حدود، ولا تقف في وجهها سدود.

 

إن مساحة الإصلاح مساحة عريضة واسعة، لا يمكن بأي حال من الأحوال، قصرها على جوانب معدودة، لذا فإن الذي نذر نفسه أن يكون من المصلحين.

 

هذا الإنسان، الله -جل وتعالى- أعطاه كامل الصلاحيات بالإصلاح في كل باب، بشرط أن يكون أهلاً لذلك الباب عالماً من الشريعة ما يحتاجه ذلك الجانب، فلا يحق لأحد أياً كان موقعة أن يقول للمصلح: إن هذا لا يعنيك، وإن إصلاحك ينبغي أن يقتصر على كذا وكذا، فالإصلاح عملية متكاملة تدخل جميع جوانب الحياة.

 

ومن خلال هذا الأصل نعلم بأن تصغير مساحة الإصلاح، عملية غير شرعية، بل هي منافية لشمولية الإسلام، وأيضاً تهميش أدوار المصلحين، أو قصر أدوارهم على جوانب معينة، كل هذا يخالف الإسلام الذي أمر الله به، والذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

إن تحديد الدور أو تحديد الإطار الذي يتحرك ويتكلم ويكتب فيه المصلح عمل يتنافى ويتعارض مع شمولية الشريعة الربانية، وأكبر شاهد على ذلك من هم في قمة هرم الإصلاح، ومن هم رؤوس المصلحين، وهم أنبياء الله ورسله، وفي مقدمتهم إمام المصلحين نبينا محمد -عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى التسليم-، فإن عملية الإصلاح التي قام بها، بل ودعا أتباعه أن يقوموا بها من بعده، شملت كل جانب ودخلت كل شيء، بدءاً بالتوحيد ومحاربة الشرك والوثنية القرشية، ومروراً بالعبادات والأسس والقواعد الشرعية، وقواعد الحكم وأسس بناء الدولة، وانتهاء بكل جوانب الأدب والأخلاق والمعاملات، فلم يدع شاردة ولا واردة مما يمس حياة الناس الخاصة والعامة، الفردية والجماعية، القريبة والبعيدة، الداخلية والخارجية، إلا وشملها عملية الإصلاح، وتكلم عنها محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل ومارسها بالحياة الواقعية، على نفسه وعلى غيره سواءً كانوا أفراداً أو مجتمعات أو دول أخرى، كانت تناطح صخرة الإسلام، ثم جاء من بعده خلفاؤه الراشدون، وساروا على نفس سيره، ونهجو نفس نهجه، ثم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، نراهم ونقرأ سيرهم وأخبارهم على مر التاريخ، وهم يمارسون العملية الإصلاحية، إنهم تكلموا في كل باب، وألفوا في كل فن، بل ومارسوا حياتهم الإصلاحية بكل شمول، ولم تكن عندهم بدعة محدودية العملية الإصلاحية، ولا بدعة تهميش الأدوار، بل لم يكونوا يعرفون من إسلامهم إلا العموم والشمول والتكامل.

 

قال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[هود: 116 - 117].

 

يقول جل وتعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ) أي فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ماذا يعمل هؤلاء؟ وما هي وظيفتهم؟ (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ) ينهون عما كان يقع بينهم ممن الشرور والمنكرات والفساد في الأرض: (إِلاَّ قَلِيلاً) أي أنه قد وجد نماذج من هؤلاء المصلحين، لكنهم قليل وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه، وفجاءة نقمته: (إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ).

 

ولهذا أمر الله -جل وتعالى- هذه الأمة أمراً أن يكون شعارها وعملها ووظيفتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالإصلاح، والنهي عن الإفساد، سلوك ودعم ومساندة طريق المصلحين، ومنع وتقليل وإزالة طرق المفسدين، فقال عز وجل: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[آل عمران: 104].

 

وفي الحديث: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب".

 

ثم قال تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ).

 

أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى نصح المصلحين، حتى فاجأهم العذاب: (وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ).

 

ثم قال عز وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) أي إنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها، محاربة للإصلاح، لا تريد الإصلاح لنفسها ولا لغيرها.

 

فنسأل الله -جل وتعالى- أن يرحمنا برحمته، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

 

أقول هذا القول ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه والشكر له ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى- حكاية عن موسى -عليه السلام- لأخيه هارون: (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف: 142].

 

ويخبر تعالى عن طغاة ثمود، ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر، وتكذيب نبي الله صالح -عليه السلام-: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ)[النمل: 48].

 

وأخبر تعالى أنه فرق أهل الأرض إلى طائفتين، وأنت لا خيار ثالث لك، فقال جل وتعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الأعراف: 168].

 

فاختر لنفسك إما أن تكون من الصالحين أو من دون ذلك، وهذا التفريق ليس في عالم الأنس، بل حتى في عالم الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)[الجن: 11].

 

وأخبر جل وتعالى أن العاقبة تكون في النهاية لأهل الإصلاح، وهم الذين سيتولون زمام الأمور، فقال سبحانه: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)[الأنبياء: 105].

 

فالأرض لم تخلق لكي يلعب بها المفسدون، ولم توجد لكي يحكمها أهل الفساد، وإنما خلقها الله -تعالى- للصلاح ولأهل الإصلاح، وإن حصل شيء من الفساد فهي لفترة مؤقتة، ولحكم يمكنهم الله منها.

 

وأخبر سبحانه أنه مع أهل الإصلاح، وأنه يتولاهم وينصرهم ويعينهم على أهل الفساد والإفساد: (إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)[الأعراف: 196].

 

وقص الله علينا في كتابه قصة أولئك: (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)[الفجر: 11 - 14].

 

أيها الأحبة في الله: المصلحون هم الذين يريدون ويبحثون عن مصلحة البلاد والعباد، والمفسدون هم الذين يسعون لخراب البلاد والعباد.

 

المصلحون لا يرضون بما يوجد من منكرات وأخطاء في المجتمع، فيسعون جاهدين لإزالتهما وتخفيفها، المصلحون يريدون تقليل ومنع طرق الشهوات المحرمة في الناس.

 

إن بقية الخير الذي نشاهده ونلمسه في واقعنا، ما هو إلا بفضل الله -عز وجل- ثم بفضل البقية الباقية من أهل الإصلاح، سواءً كانوا معروفين للناس ظاهرين، أم كانوا مغمورين، لكنهم يعملون ليل نهار لنشر الإصلاح وإيقاف الإفساد، يكفي أن الله يعرفهم.

 

إن هناك قضايا في المجتمع لا يمكن أن تتغير إلا إذا تصدى لها المصلحون، لا يمكن أن يغيرها الرياضيون، ولا الصحفيون، ولا الممثلون، ولا أية شريحة أخرى من شرائح المجتمع.

 

إنه لا يعيدها إلى جادة الصواب إلا المصلحون؛ لذا فلا يحق لأحد أن يحتكر وظيفة الإصلاح لنفسه، ولا ينبغي حكر عملية الإصلاح في جهة معينة أو هيئة معينة.

 

إنها عملية ضخمة، تتسع للجميع أن يشارك فيها، بل ينبغي للجميع المساهمة فيها، كل بحسبه وفي موقعه، ومحدود ما أعطاه الله من طاقات وإمكانيات، فهذا بقلمه، وذاك بخطبته، والثالث بمحاضرته، والرابع بتربيته للجيل القادم، والأب في منزله، والموظف في مكتبه، والإمام في مسجده، والجميع في حارته.

 

أما أن ينبري لنا شخص لوحده، أو جهة محددة، وتدعي حكر عملية التوجيه والإصلاح، فهذا مما لا يُقبل شرعاً ولا عقلاً.

 

ثم إنه لا يحق لأحد أن يخلع ثوب الإصلاح من أحد، أو أن يسلب أحداً خيرية الإصلاح، أو أن يخرجه من دائرة الإصلاح بحجج لا يدعمها أدلة واضحة صريحة من الشرع المطهر، ثم إنه لا يلزم من كل مصلح، وممن يرغب أن ينضم في سلك المصلحين أن يكون كاملاً خالياً من كل نقص وعيب، طاهراً ظاهرا وباطناً، هذا لا يمكن أبداً، والذي يطلب هذا إنما يطلب المستحيل.

 

إن هذه المسألة قد يثيرها أهل الفساد، وهم يتصيدون على أهل الإصلاح بأن فلاناً فيه كذا وكذا، وهو يدعي الإصلاح، ما المانع أن أكون مقصراً في جانب وعليّ نقص في جانب وأنا أدعو للإصلاح وأحب نشر الخير، فإن طلب الكمال محال.

 

فيا من أعددتم أنفسكم لتكونوا من المصلحين: لا توقفكم هذه النقطة، تلمس مواطن النقص والخلل في نفسك، وعالجها وسد الخلل، وأكمل النقص وأنت تمارس العملية الإصلاحية، في آن واحد سواءً بسواء، لا تخدع بتكميل النقص أولاً، وسد الثغور ثم الإصلاح، فإن العمر يفنى ولو عمّرت عمر نوح وسيبقى الخلل موجوداً وهذه طبيعة البشر.

 

ثم إن المصلحين يمكن أن يتعلم بعضهم من بعض، ويستفيد بعضهم من بعض، وينقل المتأخر خبراته للمتقدم، محاولين بذلك سد النقص في قلة حلقات العلم، وقلة العلماء الذين بذلوا أنفسهم لتعليم الناس ولإرشاد المصلحين.

 

نختم بأن الله جلت قدرته قد ألقى الخوف والذعر في قلوب المفسدين- أهل الشهوات وأهل النفاق- من أهل الإصلاح -من المصلحين-، وإن تظاهروا بعكس ذلك، السبب لأن أهل الفساد لو حاولوا تجهيل الناس، ظهر لهم واحد من أهل الإصلاح فأحيا نور العلم والتعليم، ولو حاول أهل الفساد إسقاط راية الجهاد، لظهر في الأمة من يحي روح الجهاد، ولو حاول أهل الفساد إشاعة المنكرات بين الناس، لظهر أعداد من أهل الإصلاح، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

 

والسر في ذلك أن هذه الأمة أمة مباركة، والخيرية باقية فيها إلى قيام الساعة، أمة كالغيث لا يدري أوله خير أم آخره.

 

لذا، فإن المفسدين يتقطع قلوبهم خوفاً من المصلحين، أحيانا يكون المصلح رجل واحد والمفسدين لا أقول مئات، بل آلاف مؤلفة، ويمتلكون أجهزة كاملة ومع ذلك الذعر والخوف ملأ قلوبهم.

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولم بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.

 

اللهم صل على محمد ...

 

 

المرفقات

يعلم المفسد من المصلح

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات