وما لنا ألا نتوكل على الله

علاء الخليدي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ العبادة الموصلة لله تبارك وتعالى 2/ فضائل التوكل على الله سبحانه 3/ الأنبياء والرسل أمثلة عظيمة في توكلهم على ربهم 4/ الثقة واليقين برب العالمين 5/ تأملات في قصص المتوكلين على الله تعالى 6/ كرامة الله سبحان لأبي مسلم الخولاني.

اقتباس

إذا توكلت على الله لا تخشَ أحدًا، وإذا كان الله وكيلك وليس معك وكيل سوى الله، وتوكلت على الله في أمورك كلها فنم قرير العين مرتاح البال.. والواثق بربه يمشي ورأسه مرفوعة إلى السماء، والله ما استعان بالله أحد إلا أعانه، والله ما استغنى به فقير إلا أغناه، والله ما توكل عليه أحد إلا كفاه، والله ما طلب منه أحد عطاءً إلا أعطاه، والله ما سأله أحد سؤالاً إلا نوَّله وبه كفاه. (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]،  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

إذا ضاقت بك الأحوال يوماً *** فثق بالواحد الفرد العلي

فكم لله من لطف خفي *** يدق خفاه عن فهم ذكي

وكم يُسْرٍ أتى من بعد عسرٍ *** ففرّج كربة القلب الشجي

وكم من أمرٍ تُساء به صباحاً *** وتأتيك المسرة في العشي

 

إنها -يا عباد الله- العبادة الموصلة لله -تبارك وتعالى-، إنها عبادة التوكل على الله -سبحانه وتعالى-، ولقد ضرب لنا الأنبياء والرسل مثلاً عظيمًا في توكلهم على ربهم -سبحانه وتعالى- فها هو باني البيت الحرام، مكسّر الأصنام، خليل الرحمن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يتآمر -يا عباد الله- عليه قومه ويرمونه بالمنجنيق في وسط النيران، لكن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قلبه وتوكله وثقته بربه كانت أقوى من النيران التي ألقي فيها، فلا إله إلا الله!!

 

نزل جبريل الروح الأمين من قِبَل الله -جل وعلا- الواحد الكريم، قال جبريل: "ألك حاجة؟" هل من مساعدة؟ أمدّ لك يد العون، فقال في وثوق الرجل الصابر الذي وثوقه فاق الجبال في ثباتها، وهو في النار مقيّد -عليه الصلاة والسلام- قال: "أما منك يا جبريل فلا، وأما من الله فحسبي الله ونعم الوكيل"، فقُلبت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء:69].

 

إذا توكلت على الله لا تخشَ أحدًا، وإذا كان الله وكيلك وما معك وكيل سوى الله وتوكلت على الله في أمورك كلها فنم قرير العين مرتاح البال.

 

اسمعوا يا رعاكم الله: جاء رجل عند أحد الصالحين يبكي ارتفاع الأسعار وغلاء الأثمان، فقال ذلكم الصالح بكل وثوق بربه -جل وعلا- الواحد المنان،" والله ما باليت بارتفاع الأسعار ولا غلاء الأثمان، والله لا أبالي لو أن حبة الشعير الواحدة بدينار، ما أبالي! عليَّ أن أعبده كما أمرني، وعليه أن يرزقني -سبحانه تبارك وتعالى- كما وعدني".

 

ثبوت.. رسوخ لا يزعزعه إعصار ولا يزعزعه -يا عباد الله- فيضان، والواثق بربه يمشي ورأسه مرفوعة إلى السماء، والله ما استعان بالله أحد إلا أعانه، والله ما استغنى به فقير إلا أغناه، والله ما توكل عليه أحد إلا كفاه، والله ما طلب منه أحد عطاءً إلا أعطاه، والله ما سأله أحد سؤالاً إلا نوَّله وبه كفاه.

 

إنه التوكل على الله -سبحانه تبارك وتعالى- وها هو نبي الله موسى -عليه السلام- العدو من خلفه والبحر -يا عباد الله- من أمامه موسى، هالك لا محالة، قال ذلك أصحاب موسى؛ لما رأوا ما بينه وبين فرعون وجنوده إلا بضع أمتار، قالوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء: 61]، أما موسى فقد امتلأ قلبه يقينًا وثقة أن الله -عز وجل- لن يضيّع كليمه وهو موسى -عليه السلام-.

 

قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62]، ما أتم الكلام إلا وأوحى الله إليه (أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء: 63]، إنه التوكل على الله -سبحانه تبارك وتعالى- عبادة قلبية لا يخالطها نفاق ولا رياء، توكل على الله ولا تخشى في الله لومة لائم.

 

هذه هاجر زوجة الخليل إبراهيم، وضعها -عليه السلام- في وادٍ ليس فيه شجرة تظل ولا بيت يا عباد الله يظل، لما تركها تولى قافلاً راجعًا تناديه: يا إبراهيم! لمن تتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه شجر ولا مدر؟!، ثم تناديه الثانية، وما التفت إليها وقلبه يتقطع؛ لأن الله -جل وعلا- أمره بذلك، ثم قالت في الثالثة: أمرٌ أمرك الله به يا إبراهيم؟ فالتفت إليها وقال: نعم، قالت: اذهب، والله لن يضيعنا الله -سبحانه تبارك وتعالى-.

 

(وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)[المائدة: 23]، فلن تكون قوي الإيمان إلا إذا كنت متوكلاً على الله ذي العزة والاقتدار.

 

يونس -عليه السلام- النبي الصالح يمكث في بطن الحوت، قيل ثلاثة أيام، وقيل سنين، والعلم عند الله رب العالمين، القضية أنه مكث في بطن الحوت في ثلاث ظلمات، لا يعلم بحالها وحلكتها إلا الله -سبحانه وتعالى-، هل كفر، هل نهر، هل جزع، هل قطع توكله بالله؟! بل ما زاده الحبس في بطن الحوت إلا ثباتًا ويقينًا وتوكلاً على الله رب الأرض ورب السماوات.

 

أخذ ينادي ويصلي بالليل وهو يقول: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87]، مباشرة (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ)[الأنبياء: 88]، قال الله: (وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 146- 147].

 

أما ثقة القلب المتوكل على الله، فليس مثل قلب محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ثقة بالله وتوكلاً عليه؛ اثنان مطاردان مهاجران من مكة إلى المدينة يتبعهم كفار قريش ويجعلون الألف ناقة وجعلوا الجوائز لمن يأتي بخبر موت -صلى الله عليه وسلم-.

 

خرج ومعه الصديق حبيبه ورفيقه فمكث في الغار، وجاء المشركون عند الغار يقول أبو بكر: "يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لرآنا يا رسول الله"، فسكت الحبيب وتبسم -صلى الله عليه وسلم- أجمل من القمر وأحلى من الشهد، فقال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، يسمع أنفاس المشركين.

 

نحن لسنا لوحدنا يا أبا بكر! فالله -جل وعلا- معنا من يضر إذًا مع الله، مَن يصيبك حماك الله، من يأخذ مالك إذا اتكلت على الله، من توكل عليه كفاه، ومن احتمى به حماه، ومن استمسك بحبله وقاه، -سبحانه تبارك وتعالى-.

 

"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله"؟ ماذا يصير يا رسول الله؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عمر، وأخرجه الترمذي في السنن قال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله"، ليس أي توكل، بل التوكل أن ترمي أحمالك على الله، التوكل أن تثق بالله، التوكل أن تقول: سلمت أمري لك يا رب العالمين، هذا توكل.

 

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير"، قال أهل الحديث: لماذا قال الطير؟ لأن الطيور -يا عباد الله- في الصباح تطير في سماء الله، تذهب -يا عباد الله- لا وظيفة وليست عندها راتب شهري تتقاضاه في آخر الشهر، وإنما تخرج معتمدة على الله الرزاق، وتطير في جو السماء آخذة بالأسباب، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تغدو خماصًا" تطير بكل وثوق وخفة "وتروح بطانًا" وإذا عادت امتلأت بطنها، بسبب توكلها على ربها، وسعيها امتلأت بطونها، فخف طيرانها وثقل وزنها.

 

"لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانا".

 

اسمع لهذا الكلام واجعله حلقة في الآذان، يقول حماد بن سلمة -وانظروا إلى الوثوق بالله-: "والله لو خُيِّرت أن يحاسبني أبوي، أو الله، لاخترت الله؛ فالله أرحم بي من أبوي"، هذا حق أو باطل؟! يقول هذا من شدة وثوقه بالله.

 

توكل على الله ولا تخش إلا الله، وبعد ذلك أبشر برزق الله وخير الله.

 

اللهم اكتبنا من المتوكلين، ولا تكتبنا من المتواكلين، واجعل أحمالنا كلها عليك يا رب العالمين، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا به من الآيات والذكر الحكيم، أستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لك والشكر لك لا ندّ لك من عالم الذر الخفي إلى الفلك، ما طار أو عام فيه أو اندرج ما كان من جن وإنس أو ملك، إلا وقد شهدوا أن الملك لك والصلاة والسلام على تاج رأسي وسيدي سيدنا محمد صلى الله على ذاك الوجه ما أحلاه! وما أكمله وأنداه!

 

قال الله: (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ)[الرعد: 30]، ما في بعدها خلاص اتخذته ربًّا وأردته لك ربًّا، توكل على الله -سبحانه تبارك وتعالى- يقول الله: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4].

 

يقول الله على رسل الأنبياء والمرسلين لما لقوا العذاب من المشركين: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)[إبراهيم: 12]، يقول ابن عباس: "التوكل على الله جماع الإيمان"، ويقول المفسّر المعروف سعيد بن جبير: "التوكل على الله نصف الإيمان".

 

توكل على الله، ولا تتوكل على غيره، سبحانه جل وعز، اسمعوا لهذه القصة، الثقة بالله -عز وجل- من أعظم العبادات وأجل القربات التي يتقرب بها إلى ربه -عز وجل-.

 

قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي مسلم الخولاني -رحمة الله عليه-، وكان من الصالحين العُبّاد أبو مسلم الخولاني، اشتكت له زوجته الفقر الذي هم فيه، وأنه لا دقيق تصنع له الخبز، فقال: هل في البيت مال؟ قالت: الدينار لا سواه يا أبا مسلم.

 

أخذ الدينار وأخذ الكيس الذي سيشتري بالدينار دقيق، وسيملأ ذاك الكيس بالدقيق، فإذا به -رحمه الله- يمر بالسوق إذ يقف إليه رجل يرى عليه أثر المسألة والمسكنة مسكين، وهو أحوج من أبي مسلم الخولاني، فما كان من أبي مسلم الخولاني إلا أعطاه الدينار الذي سيكون غدائه وعشائه وفطور له ذلك اليوم، أعطاه لذلك المسكين، ثم فكر كيف يرجع بدون دقيق؟ فمر على نجار فأخذ الكيس وملأه نشارة التي تخرج من الخشب، ثم ربط الكيس وذهب إلى بيته ووضع الكيس بين يدي زوجته، وتوكل على الله.

 

هل سيضيع الله هذا الرجل يا إخوان؟! عمل الخير، وآثر ذلك الرجل على نفسه، وأجاع زوجه وأولاده وذهب من أجل أن يشتري دقيق ليصنعوا الخبز لكنه بدله بنشارة الخشب!!

 

فدخل ليواصل القراءة، ثم بعد برهة أتت له زوجته بخبز ساخن، قال لها سبحان الله! من أين لك الخبز يا زوجتي؟ قالت من الدقيق، قال وأيّ دقيق لكم؟ قالت: الكيس الذي ملأته دقيقًا، أنسيته يا أبا مسلم؟! فأخذ يبكي ويقول: سبحان الله سبحانه الله!!

 

(وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم:12].

 

بك أستجير ومن يجير سواك *** فأجر ضعيفا يحتمي بحماك

إني ضعيف أستعين على قوى*** ذنبي ومعصيتي ببعض قواك

أذنبت يا ربي وآذتني ذنوب *** ما لها من غافر إلاك

دنياي غرتني وعفوك غرني *** ما حيلتي في هذه أو ذاك

لو أن قلبي شك لم يك مؤمنا*** بكريم عفوك ما غوى وعصاك

بك أستجير ومن يجير سواك *** فأجر ضعيفا يحتمي بحماك

 

(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3].

 

 

اللهم اكتبنا من المتوكلين عليك، ولا نتوكل على أحد سواك يا رب العالمين..

 

 

 

المرفقات

لنا ألا نتوكل على الله1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات