هل جزاء الإحسان الإفساد؟

عبد القادر عقاب

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/بديع خلق الله للكون وصنعه له 2/الحث على إصْلاح الأرض والتحذير من إفْسَادها 3/أول فساد وقع في الأرض وأخطر مظاهره 4/استشراء الفساد في الأرض والمقصود به 5/خطر الفساد في الأرض على الفَرد والمجتمع وبعض صوره ومظاهره 6/أسباب تفشي الفساد في الأرض 7/وسائل محاربة الفساد في الأرض والحد منه

اقتباس

إنّ منَ النَّاس مَنْ هو مفتاحٌ للخيْر، مغْلاقٌ للشَّر، وعَلى العَكْس منْ ذَلكَ مَنْ هو مفْتاحٌ للشَرّ مغلاقٌ للخيْر، يَسْعَى إلى كَسْب السَّيّئ والبَاطل بكُلّ وسيلة وطريق، وإن اقْتَضَى منْه الإفسادُ والإهلاكُ لا تَهمُّه نتيجةُ فعْله وعَاقبةُ أمْره، وذَلك في سَبيل تَحْصيل غَايَته ومُبتَغاه. وهَذَا الصّنفُ منَ البَشَر...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحَمْدُ لله فَالق الحَبّ والنّوى يُخرج الحيَّ من الميّت ومُخرجُ الميّت من الحيّ، خَلَقَ البحَار وأَجْرَى الأنهار، وسَخَّر لنا الشَّمْسَ والقَمَر دَائبين، وسَخَّر اللَّيل والنّهار، نَحْمَدُه عَلى نعَمه العَظيمَة، وآلائه الجَسيمة، أَكْمَلَ لَنا الدّين، وأتمَّ علينا النّعمة، وأزالَ عنَّا النّقمة، وأرْسَلَ فينا رسولَه بالهُدى ودين الحَقّ ليُظْهرَه على الدّين كُلّه وَلَوْ كره المُشْركون.

وأشهد أن لاَّ إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَه، وأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّدا عَبْدُه ورسُولُه، صَلَّى اللهُ عليْه وعَلى آله وأصْحابه ومن تَبعهُم بإحسان إلى يوم الدّين.

 

أمّا بعدُ:

 

أيُّها النّاس: أُوصيكُم ونفْسي بتقْوى الله -تَعالى- في السّرّ والعَلَن، والتّمسُّك بدينه في زمَاننا الّذي امْتَلأَ بالفتن.

 

واشكروه أنْ هَداكُم للإيمان، وبَيَّن لكُمْ طَريقَ الفوز بالجنان، والنَّجاة منَ النيّران.

 

فخالقُنا سُبْحَانهُ رَحيمٌ رحْمانٌ، يمُنّ على من يشاءُ منْ عباده بجَميل الإحْسَان، ويُجْزلُ لَهُمُ المثُوبةَ والغُفْران.

 

إنّ اللهَ -تعالى- لمَّا خَلَقَ الكَونَ أحْكمَه وأحْسَنه، وسَخَّرَ فيه كّلَّ شيء لخدْمة الإنسَان، حتَّى يتمتَّع بالعيْش الكريم والحياة الهنيئة، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة: 28].

 

فالذي يتأمَّل آيات الله، وبدائع صُنعه في الآفاق، يتبيّنُ لهُ عَظَمةَ هذا العَالَم الذي نَعيشُ فيه، ويُدركُ عَظَمةَ خَالقه -سُبْحَانه وتَعَالى-، وقدْ هيَّأَ اللهُ -تعالى- هَذا النّظَام الدَّقيق والإبْدَاع المُحْكَم لاسْتقْبَال أعْظم مخلوق له، حتَّى يُحقّقَ الغايةَ التي خُلق من أجلها، وهي العُبُوديةُ للخَالق، وَحْدَه دُونما سواه، لكنَّ إرادةَ الله -تَعالى- في عباده اقْتضَت أن يَكُونَ منَ البَشَر كَافرٌ وَمُؤمنٌ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[ التغابن: 2].

 

ومشيئةُ الله -تَعالى- نافذةٌ في خَلْقه لَا رَادَّ لقَضَائه، ولا مُعَقّب لحُكْمه، وهو العزيز الحكيم، والكفرُ بالله العظيم شرٌّ محْضٌ وجَحْدٌ لإنْعَام الله، وإحْسَانه لعباده، وإفْسَادٌ في الكَوْن.

 

وقَدْ أمَرنا اللهُ -سبحانه وتعالى- بالإصْلاح في الأرض، ونَهانا عن الإفْسَاد فيها، فقال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)[الأعراف: 56].

 

قَال ابْنُ القيّم -رَحمَه اللهُ-: "قال أكثرُ المفَسّرين: لا تُفسدوا فيها بالمعاصي، والدعاء إلى غير طاعة الله، بعد إصلاح الله إيّاها ببَعْث الرُّسُل، وبيان الشَّريعة، والدُّعاء إلى طَاعة الله، فإنَّ عبادةَ غير الله، والدَّعوةَ إلى غيره، والشّركَ به هُو أعظمُ فَسَاد في الأرْض".

 

ولمْ يَزلْ أعْداءُ أمَّتنا الإسْلاميَّة يتربّصُون بها الدَّوائرَ، ويَنْتهزُون الفُرَصَ لبَثّ سُمُومهم الفكْريّة في عُقول أبْنائنا، لَكَيْ يُبيدُوا هُوّيّتَهم، ويُذيبُوها في مُسْتنقَع عَالمهمُ العَفن الذي تجرّد من كُلُّ قيمة إنسَانيّة، وحَضارة بَشَريّة.

 

ولقد كَثُرت الأصْواتُ والدّعواتُ منْ هُنا وهُناك التي تدْعُو إلى الكُفْر الصَّريح، وذلك بالتّشكيك في العقائد والأصُول والثّوابت الدينيّة، وإنكَار الغَيبيّات، والاسْتهزاء بالرُّسل والمناداة بالحريّة المُطْلَقَة التي تُسَوّغُ للإنسان فعْلَ أَيّ شيء يُريده تحْت مُسَمَّى الدّيمقراطيّة.

 

عباد الله: إنَّ أوَّلَ قَضيّة فَسَاد وَقَعَتْ في عَالمنا، هيَ: تلْكَ السُّنَّةُ السّيّئةُ، والجريمةُ النّكراءُ، التي اقْتَرفَها أَحَدُ ابنيْ آدمَ في حقّ أخيه، لمّا قَتَلَهُ حَسَدًا وبَغيًا وظُلْمًا، فَكانَ جزاؤُه الخُسْرانُ المُبينُ: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[المائدة: 30].

 

وأصْبحَتْ كُلُّ جَريمة قتْل تُرتَكبُ في الأرْض عَليْه، وزرُها إلى يوم القيامة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ"[رواه مسلم].

 

إنّ منَ النَّاس مَنْ هو مفتاحٌ للخيْر، مغْلاقٌ للشَّر، وعَلى العَكْس منْ ذَلكَ مَنْ هو مفْتاحٌ للشَرّ مغلاقٌ للخيْر، يَسْعَى إلى كَسْب السَّيّئ والبَاطل بكُلّ وسيلة وطريق، وإن اقْتَضَى منْه الإفسادُ والإهلاكُ لا تَهمُّه نتيجةُ فعْله وعَاقبةُ أمْره، وذَلك في سَبيل تَحْصيل غَايَته ومُبتَغاه.

 

وهَذَا الصّنفُ منَ البَشَر، عَديمُ المسْؤُولية، خبيثُ الطويّة، مريضُ القلْب، تالفُ الرَّأْي، يَدَّعي ضُروبَ البَاطل، ويَتَحلَّى بما هُو عَاطِلٌ، وقد قَصَّ اللهُ عَليْنا نبأَ هؤلاء في كتابه، فقال: (وإذا تولَّى سَعَى في الأرْض ليُفْسدَ فيهَا ويُهْلكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللهُ لا يُحبُّ الفَسَادَ)[البقرة: 205].

 

إنَّ أكبرَ إفْساد في الأرض هُوَ: عباَدةُ غَيْر الله -تَعالى-، وإنْ تَعدَّدَتْ صُورُها ومَظاهرُها؛ لأنَّها تُهينُ الإنسانَ، وتُنزلُه عن مكانته، وتَحُطُّ من قَدْره، وتجعلُه خَاضعًا لمخلوق لا ينفعُه ولا يَضرُّه، والإلحادُ وعَدمُ الإيمان أو التّشَكيكُ في أصول الدّين الحقّ وثوابته إفْسَادٌ في الأرض، قال تعالى: (وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ)[يونس: 40].

 

وما اسْتَشْرى الفَسَادُ في الأرض إلَّا بسَبَب قلَّة الدَّينونة لله -تعالى-، وأمُّتنا الإسلاميّةُ تتخبّطُ في ظُلُمَات الفَسَاد، وتَصْطَلي بنَاره ابْتدَاءً منَ الفَسَاد العقَائديّ إلى الفَسَاد السّياسي والاجْتمَاعي والأخْلاقي، وهذا يَجعلُها تَزْدادُ بُعدًا عن دينها وبُعدًا عن كلّ رُّقيّ إنسانيّ، أو تقدّم حضاريّ؛ لأنَّ الأمَّةَ التي يَنْخرُ في جَسَدها هذا الداءُ الخبيثُ والمرضُ الخطيرُ، لا يُمكنُ لها الاستمرارُ والمضيُّ قُدمًا، فسُرعان ما تَبيدُ وتَفنى، وهذه سنّةٌ كونيةٌ لا تتبدّل ولا تتغيّر، ولكنْ هلْ يَعقلُ هذا أبناءُ الإسلام؟

 

والفسادُ بشَكل عامّ لا يخْلو منْهُ مجتمعٌ من المجْتَمَعات، وخَاصّةً الفَسادُ العَقديُّ؛ واللهُ -سُبحانه وتَعالى- يُخبرُنا أنَّ تَغيُّرَ قُلوب النّاس وعَقائدَهم وأفْعَالهم وسُلوكَهُم يُظْهرُ في الأرض الفَسَادَ برًّا وبحرًا، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41].

 

وكلُّ معصية أو ذنْب يَقْترفُه المرء، هو إفْسادٌ في الأرض، قال أبو العالية: "من عَصَى اللهَ في الأرض، فَقَدْ أفْسَد في الأرض".

 

وقال مُجاهد: "فَسادُ البرّ؛ قَتْلُ ابن آدَمَ، وفسادُ البَحْر؛ أخْذُ السَّفينة غصْبًا".

 

فبالله عليكم كم يُعصى الإلهُ؟ وكم تُنتهكُ حُرُمَاتُه؟ كَم منْ ظُلْم وبَطْش وتَعدّ على حُقوق الله وحُقوق عباده؟

 

أيُّها النَّاسُ: إنّ عاقبةَ الفَسَاد وخيمةٌ على الفَرد والمجتمع، وقد ذَكرَ اللهُ لنا في القرآن الكريم أنباءَ الأمم السّابقة التي بَغَتْ وأفْسَدتْ، فكان مصيرُها الهلاكُ والتَّدْميرُ، قال تعالى عن فرعونَ وملئه لمَّا كذّبوا برسالة موسى -عليه السلام-: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[الأعراف: 103].

 

فكان عاقبتُهُم؛ كما قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)[الذّاريات: 40].

 

أيُّها النّاس: إنَّ للْفَسَاد صُورًا مُتعدّدةً، ومَظاهرَ مُخْتلفةً؛ منَها: ما يَدخُل الجَانبَ السّيَاسيَّ؛ كالتّحاكُم إلى غير شرْع الله، وتحْكيم القَوانين الوَضْعيّة التي تَهْضمُ حُقُوقَ العبَاد، وتَنشرُ في الأرْض الفَسَاد، قَالَ تَعالى عَنْ حُكْم فرْعَون: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[القصص:  4].

 

ومنْها: ما يَدخُل الجانبَ الأخْلاقيَّ، الذي يَجرُّ وراءَهُ جوانبَ كثيرةً؛ كالفَسَاد الماليّ والإداري، ومنْه تَضْييعُ الأمَانة والاخْتلاس والسَّرقة والرّشْوة والهَدَايا المشْبُوهة والتَّزوير، وغيرها... وقَد حَذَّرنا ربُّنا منَ الخوْض في هذه الدُّروب والمسَالك؛ لأنّها تُدَمّرُ الأخْلاقَ، وتَقْضي عَلى العَدالة الاجْتمَاعيّة، وتَعْصفُ بمقدَّرات الأُمَّة، وتُزعْزع اسْتقْرارَها، قال تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[المائدة: 62].

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "السُّحْت: الرشوة".

 

وقد أخْبرنا اللهُ-سبحانه وتعالى- أنّه لا يُصلحُ عَمَلَ المفْسدين، وَلا يُؤيّدُه ولا يَنصُرُه، بَلْ يُزيلُه ويَمحَقُه: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 81].

 

وإنْ طال بهمُ الزَّمانُ، فمآلُ أعْمَالهم إلى زوال، وسوءُ أفْعَالهم آيلةٌ إلى اضْمحْلال، وهيَ قَاعدةٌ عامَّةٌ مبيّنةٌ لسُنَّة الله في تَنازُع الحقّ والباطل، والصَّلاح والفَساد، فإنّ للباطل جَوْلة، وإنّ للحقّ صَوْلة.

 

ولكنْ على أهْل الحَقّ أنْ يَصْبروا ويُصَابروا، ويُرابطوا عليه، ولا يَلتفوا إلى تَخْذيل المتَخَاذلين، أوْ إرْجاف المُرجفين، ولا يَغُرَّنَّهم كثرةُ أهْل الفسَاد والبَاطل، فإنّ كَيْدَهم ضَعيف، فأهلُ الحقّ هُمُ المنصورون، وجندُ الله هُمُ الغالبون، ومنْ كانَ معَ الله -تعَالى- فأيُّ قوة تقف أمامه: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].

 

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)[محمّد: 7- 8].

 

اللَّهمَّ هَيّئْ لهذه الأمّة أمْرَ رُشْد يُعزُّ فيه أهْلُ طَاعَتك، ويُعافى فيه أهْل معْصيتك، ويأُمر فيه بالمعْروف، ويُنهى فيه عن المُنكر.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإيّاكُم بما فيه منَ الآيات والذّكْر الحكيم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ لله حَمدا كَثيرًا كَمَا يُحبُّ ربُّنا ويَرْضَى، وأشهدُ أن لاّ إله إلا اللهُ وحْدَه لَا شَريكَ لهُ، وأشْهدُ أنَّ محُمَّدا عبْدُه ورسُوله، وصَفيُّه منْ خَلْقه وخَليلُه، صَلَّى اللهُ عليْه وعلى آله وأصْحَابه وسَلَّم تسْليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.

 

أمّا بعد:

 

عبادَ الله: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوى، وراقبُوه في أقْوالكُم وأفْعالكُم، واعْلموا أنَّ اللهَ مُطَّلعٌ عَليْكم يَعْلمُ ما أسْررتُم وما أعْلنتم: (إنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْه شَيْءٌ في الأرْض وَلا في السَّمَاء)[آل عمران: 05].

 

أيُّها المسْلمُون: إنّ الفسادَ الذي يُعاني منه مجتمُعُنا، راجعٌ إلى تقْصيرنا وبُعْدنا عن أوامر ربّنا التي فيها نجاحُنا وسعادتُنا، وهي سندُ قُوّتنا وعزّتنا، فعدمُ الإحْساس بروح المسْؤولية والتَّمَلُّص منْها، والسُّكوتُ عَنْ إنكَار المنكَر، وعَدَمُ التَّحْذير منْ خَطَره يَزيدُه انتشاراً واسْتفْحَالاً، ويُوجبُ العُقوبةَ على أهْله، أمَّا إنكارُه والوقوفُ في وَجْهه، وسَدّ أبْوابه، ومنافذه يَحُدُّ من شرّه، ويُخلّص النّاسَ من تَبعَاته، واللهُ -عزَّ وجَلّ- يُثيبُ المُصْلحين الذين يَنْهون عن الفَسَاد في الأرْض، ويُنَجّيهم بفَضْله وَرَحْمَته، قَالَ تَعَالَى: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ)[هود: 116].

 

وإذَا سُكتَ عَن البَاطل والمنكَر عَمَّ العذابُ، قَالَ النّبيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلَّم-: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا"[رواه البخاري].

 

فَهذا مَثلٌ عظيمٌ يُشبّه النّبيُّ -صلّى اللهُ عليه وسلّم- فيه الشَّريعةَ في حفْظها لأمْن وسَلَامَة العَباد بالسَّفينة التي تَقْطَعُ برُكَّابهَا البَحرَ، ويُبيّنُ فيه أحوالَ النَّاس ومَوقفَهم منَ المُنكَر والفَساد، فأيُّ تفريط منْ أيّ أَحَد قَدْ يُؤَدّي بالجَميع إلى الهَلاك، ومصْداقُ هَذَا قولُهُ سُبْحَانهُ وتَعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال:  25].

 

ولا يُمكن لجُذُور الفَسَاد أنْ تُقْتَلعَ إلاَّ إذَا تَحَمَّل جَميعُنا الأمَانةَ الموضوعةَ عَلَى عَواتقنا: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)[الأحزاب: 72].

 

إنَّها الأمانةُ التي يَدعو إليها الإسلامُ بأنْ يُخْلصَ الرَّجلُ لعَمَله، ويُعنى بإجَادته، ويَسْهرُ على حُقُوق النّاس التي وُضعَتْ بيْن يَدَيْه.

 

وعليْنا أنْ نَسْعَى جَاهدين إلى ترْسيخ مَحَاسن أخْلاق ديننا الحنيف، وذلكَ بتَهْذيب النُّفوس، وتَقْويم سُلوكها، بَدْءًا منَ الأُسْرة التي هيَ حَجَرُ الأَسَاس الأوَّل في صَلَاح المجُتْمَع.

 

وهيَ أيْضًا معْوَلٌ منْ مَعَاول هدْمه إنْ فَقَدَت الوازعَ الدّينيَّ، وتَخلَّتْ عَنْ مَسْؤُوليّتها، ولمْ تُؤدّ واجبَها تجاه أفْرادها.

 

ويجبُ عَلَى الأُسْرة المُسْلمة: أنْ تَتَحَلَّى بالقيَم السَّامية، وتَسْتَشْعرَ المسْؤُوليةَ المُوكَلة لها؛ فتربيةُ الأبْناء عَلَى مُراقَبة الله -تَعَالى-، ومَحبَّته والخوف منْه، يُثمرُ في القُلوب الانقيادَ التَّامَّ لأَوَامر الله -تَعالى- ونَواهيه، ويَزرْعُ في النُّفوس الإخْلاصَ، ورُوحَ التَّفَاني في خدْمة الأُمَّة الإسْلاميّة للنُّهوض بها إلى المدَنيّة الفَاضلَة التي يَتَمتَّعُ أفرادُها بالعَدالة الاجْتمَاعيّة الشّاملة، والحياة الطّيّبة المسْتقرّة في ظلّ القرآن الكريم، والسُّنّة النّبويّة، واقتفاء آثار سلفها الصّالح، فَلَنْ يُصْلحَ آخرَ هذه الأُمَّة إلا ما أصْلح أوَّلها.

 

أسأل الله العليَّ العظيم بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى، أن يُصلح أحوالنا، وأحْوال أمّتنا، في كُلّ مكان.

 

ألا، وصَلّوا وسَلَّموا رَحمكُمُ الله على ...

 

 

 

المرفقات

جزاء الإحسان الإفساد؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات