عقود الجمان في فضل لغة القرآن (1)

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ اخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ 2/ أعظم اللغات شرفاً وأعلاها مكانة 3/ تحدث أعلام الأمة عن فضل اللغة العربية 4/ حرص سلف الأمة على اللغة العربية 5/ قوة اللغة العربية وعظمتها.

اقتباس

اللغة العربية هي من أعظم اللغات ثراءً للمعنى ودقة في التعبير وإطراباً للآذان وجمالاً في الشك والنظم والخط.. وأكثرها مفردات، وقد نقل بعضهم أن عدد كلماتها اثنا عشر مليونا وثلاثمائة وثلاثة آلاف كلمة.. والإنجليزية ستمائة ألف كلمة والفرنسية مائة وخمسون ألف كلمة والروسية مائة وثلاثون ألف كلمة.. فأين الثرى من الثريا؟! اللغة العربية أجمل اللغات خطاً، وحقّ للعربي أن يتباهى بروعة خط لغته على اختلاف أنواعه ومدارسه الموحية.. فيجد فيها جمالاً لا يجده بفنون خطوط اللغات الأخرى...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22]، وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللُّغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إِبْرَاهِيم:4] وَقَوْلِهِ (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) [النَّحْل:103].

 

وَاخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ؛ فَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِمْ فِي النَّوْعِ كَانَ اخْتِلَافُ لُغَاتِهِمْ آيَةً دَالَّةً عَلَى مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّفْكِيرِ وَتَنْوِيعِ التَّصَرُّفِ..

 

أيها الإخوة: وإن من أعظم اللغات شرفاً وأعلاها مكانة ورفعة وأكثرها إبانة وإفصاحاً لمراد المتكلم في دقة متناهية وزمن وجيز.. هي اللغة العربية.

 

ولقد شرفها الله -تعالى- بأن اختارها لحمل رسالة خاتم النبيين إلى الناس أجمعين إلى يوم الدين. قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]، وقال سبحانه: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) [فصلت: 44].

 

وقال من نزَّل هذا القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:192،195]. وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3].. وكرر سبحانه فضله بأن جعل القرآن عربياً في مواضع أخرى متعددة.. ولا غرو أن يبين الله -تعالى- فضله على هذه اللغة وتشريفه إياها بنزول كتابه الخالد بها..

 

أيها الأحبة: وبياناً لما ذكره الله –تعالى- بفضل هذه اللغة العظيمة تحدث أعلام الأمة في فضلها ومكانتها، فقد قَالَ الخليفةُ الراشدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ".

 

وقال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ" وسَمِعَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَجُلًا يَتَكَلَّمُ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الطَّوَافِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ وَقَالَ: "ابْتَغِ إلى الْعَرَبِيَّةَ سَبِيلًا" (روى هذه الآثار البيهقيُ في شعب الإيمان).

 

وروي عنه أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من الدين"، وكتبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله: (من أبو موسى)، فكتبَ إليه عُمرُ أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِله بغيره... "وكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَضْرِبَانِ أَوْلَادَهُمَا عَلَى اللَّحْنِ".

 

وقال عبد الملك بن مروان: "أصلحوا ألسنتكم فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته".

 

وقال: محمد بن أحمد الخوارزمي: "والله لأن أهجى بالعربية أحب إليَّ من أن أمدح بالفارسية".

 

وقال ابن فارس في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:3،4] قدم الله -عز وجل- ذكر البيان على جميع ما توحد سبحانه بخلقه، وتفرد بإنشائه، من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغيرِ ذَلِكَ من الخلائقِ المحْكمة..

 

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية --رحمه الله--: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإنّ فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ".

 

ويقول أيضًا -رحمه الله-: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية".

وقال -رحمه الله-: "إنّ اللسان العربي شعارُ الإسلامِ وأهلهِ، واللغاتُ من أعظمِ شعائرِ الأمم التي بها يتميّزون"..

 

وقال ابن القيّم -رحمه الله-: "وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن افتخارها، ورسائلها..."

 

وقد عبَّر الشاطبيُّ -رحمه الله- عن هذا المعنى بقوله: "إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ، فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة، فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة".

 

ووصف ابن كثير -رحمه الله- اللغةَ العربيةَ وصفاً جميلاً عند قوله تبارك وتعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان:58] أَيْ إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا..

 

وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبّ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحبّ النبي العربي أحبّ العرب، ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم و العرب".

 

وقال شاعر العربية حافظ إبراهيم على لسانها:

وسعْتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغايةً ***ومَا ضقْتُ عنْ آيٍ بهِ وعظاتِ

فكيفَ أضيقُ اليومَ عنْ وصفِ آلةٍ ***وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ

أنَا الْبَحْرُ فِي أحشَائهِ الدُّرُ كامنٌ *** فهَلْ ساءَلُوا الغواصَ عنْ صدفاتِي

 

وقال أحد العلماء: "إن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلّغاً عنه الكتاب والحكمة بلسان عربي، ولم يكن من سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان فصارت معرفته من الدينكما قال عمر عملاق الإسلام: "تعلموا العربية فإنها من الدين"...

 

وقال الرافعي -رحمه الله-: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ.."، فحافظوا على لغتكم واذكروا فضل ربكم حين قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف: 2]، بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ, وعلَّمَهُ البيانَ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شرِيكَ لَهُ الملك الديان، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، سيد الأنام أرسَلَهُ ربُّهُ بلسانٍ عربِيٍّ مبينٍ ليكونَ هدًى ورحمةً للعالمينَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.

 

أما بعد: أيها الإخوة: اللغة العربية هي من أعظم اللغات ثراءً للمعنى ودقة في التعبير وإطراباً للآذان وجمالاً في الشك والنظم والخط.. وأكثرها مفردات، وقد نقل بعضهم أن عدد كلماتها اثنا عشر مليونا وثلاثمائة وثلاثة آلاف كلمة.. والإنجليزية ستمائة ألف كلمة والفرنسية مائة وخمسون ألف كلمة والروسية مائة وثلاثون ألف كلمة.. فأين الثرى من الثريا..

 

اللغة العربية أجمل اللغات خطاً، وحقّ للعربي أن يتباهى بروعة خط لغته على اختلاف أنواعه ومدارسه الموحية.. فيجد فيها جمالاً لا يجده بفنون خطوط اللغات الأخرى..

 

ثم إن في شواهد التاريخ ما يثبت أن اللغة العربية استطاعت أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات، الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية.. في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما وافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم، والجيوش، والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.

 

والدولة الإسلامية على مرّ عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة، للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها..

 

ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضارتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكًا وحرصًا بلغتهم..

 

وللحديث بقية بحول الله وصلوا وسلموا على خير البرية ومعلم البشرية محمد بن عبدالله يعظم الله أجركم فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا"...

 

 

 

المرفقات

الجمان في فضل لغة القرآن (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات