التفاؤل في وقت الشدة - خطبة عيد الأضحى 1435هـ

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ العيد وحمله للتفاؤل 2/ الفرج بعد الشدة سُنّة ربانية لا تتخلف 3/ لن يغلب عسر يسرين 4/ العلاقة بين طبيعة النفس والواقع من حولها 5/ أهمية التفاؤل والرجاء وحسن الظن بالله

اقتباس

إن من سمات العيد أنه يحمل معه التفاؤل، يحمل معه الرجاء؛ لأن الله -تعالى- أنعم علينا فأمد لنا في العمر حتى تكتب في صحائفنا قمم من الطاعات والعبادات التي لا تعود في كل عام إلا مرة واحدة، وفي ذلك مكسب أيّ مكسب، وغنيمة أي غنيمة ..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله حمدا كثيرا، وأوحده قولا وفعلا، وأكبره تكبيرا، فالله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر ما اختلف الليل والنهار، الله أكبر العزيز الجبار، الله أكبر مصرف الأقدار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) [القصص:68]، فسبحانه ثم سبحانه، ثم سبحانه جل شأنه وعز سلطانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، العزة له -تعالى- ولرسوله وللمؤمنين والذل والصغار والهوان على من خالف أمره من العالمين إلى يوم الدين.

 

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخاتم النبيين وإمام المرسلين ورحمة الله للخلق أجمعين صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم على آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه الغر الميامين والتابعين لهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

 

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]، فاتقوه وأطيعوه، وعظّموا أمره ولا تعصوه، وتزينوا للعرض الأكبر يوم يعرض الناس حفاة عراة ينظر كل امرئ ما قدمت يداه (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

 

أيها المسلمون: ها نحن قد أصبحنا بعد يوم عرفة العظيم، على يوم الحج الأكبر، على يوم النحر، على يوم العاشر من ذي الحجة، على صباح عيد الأضحى، فأسأل الله لي ولكم القبول، وأن يكون حلول العيد بركة علينا وعلى أمتنا.

 

معاشر المسلمين: إن من سمات العيد أنه يحمل معه التفاؤل، يحمل معه الرجاء؛ لأن الله -تعالى- أنعم علينا فأمد لنا في العمر حتى تكتب في صحائفنا قمم من الطاعات والعبادات التي لا تعود في كل عام إلا مرة واحدة، وفي ذلك مكسب أيّ مكسب، وغنيمة أي غنيمة.

 

فقد صح في سنن الترمذي من حديث نفيع بن الحارث أن رجلاً قال: يا رسول الله! أيّ الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله"، قال: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله".

 

وقال للذين سألوه عن رؤيا طلحة في المنام في دخول غير الشهيد المعمَّر الجنة قبل الشهيد الذي مات قبله كيف يدخل قبل الشهيد؟! قال صلى الله عليه وسلم: "أليس قد مكث هذا بعده سنه؟" قالوا: بلى، قال: "وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟" قالوا: بلى، قال: "فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض"، فالحمد لله ثم الحمد لله، نسأل الله -سبحانه وتعالى- القبول.

 

العيد يحمل معه التفاؤل والرجاء، وحسن الظن بالله -جل وعلا-، ولهذا -أيها المسلمون- عندما نذكر التفاؤل نقول: إنه مهما جرى وحل ويحل حولنا من لأواء وشدة؛ فإن من سنن الله الجارية التي يغفل عنها المسلمون أحيانًا: ولادة الفرج في وسط الشدة، هل يمكن أن يحدث فرج إلا بعد شدة؟! كيف نطعم ونلمس الفرج دون أن يكون قبله شدة؟! كيف يتضح الفرج إلا أن تسبقه شدة؟! لا يمكن.

 

فالعسر لا يخلو من يسر مكنون يصاحبه ويلازمه ويتربص زواله حتى يظهر، ولهذا قال تعالى: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:7]، هذا أمر قطعي يقيني (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وسنة ربانية لا تتخلف، وفي الآية السابقة ذكر الله -تعالى- معية اليسر للعسر، هذا مع هذا، لا ينفصلان، لا بل ذكر هذه المعية مرتين تأكيدًا لها (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5- 6].

 

هذه سنة الله الثابتة، ولأن "العسر" تكرر في الآية مرتين بلفظ المعرفة "العسر" وهو واحد واليسر تكرر بلفظ النكرة "يسرا" فهو يسران، إذا فالعسر محفوف بيسرين؛ يسر قبله ويسر بعده، ولذا صح أنه صلى الله عليه وسلم قال بعدها لأصحابه؛ مبشرًا إياهم رافعًا رجاءهم صاعدًا بهم إلى منزل التفاؤل العالية: "لن يغلب عسر يسرين" اليسر يتغلب.

 

قال ابن مسعود: "والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين".

 

وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- يذكر له جموعًا من الروم، وما يتخوف منهم. فكتب إليه عمر -رضي الله عنه-: "أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين".

 

أيها المسلمون: كلنا يعرف الواقع حولنا في الشمال وفي الجنوب، حروب وأهوال، وما يترب عليها من سفك دماء وتشريد ونهب، وهناك اضطرابات وتغيرات لم تُسبق، فنحن لا ننكر الواقع حولنا، ولا نقدر أن ننفصل عنه أبدًا، ولكن معرفة الواقع شيء، والموقف منه شيء آخر، الأمر يبدأ بالنفس ذاتها ثباتها، ويقينها أو شكّها وارتيابها، قوة إيمانها أو ضعف إيمانها، غزارة علمها أو عمق جهلها؛ كل ذلك يؤثر على الموقف من الأحداث؛ فإما أن تكون النفس متشائمة سوداوية، وهذا ما يُفرِح الأعداء، ويجرئهم للمزيد، وإما أن تكون متفائلة تفاؤلاً عمليًّا فاعلاً مقرونًا بالعمل، وهو ما يُحزِن الأعداء ويسوؤهم.

 

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم" أي: أن النفسية تؤثر في الواقع تأثيرًا قويًّا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس- دخل على رجل مريض يعوده، فقال: "لا بأس، طهور إن شاء الله"، فقال المريض بنفسية متشائمة: "كَلَّا، بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ - أَوْ تَثُورُ - عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فنعم إذاً"، وفي رواية شرحبيل في الفتح: "قال: فما أمسى من الغد إلا ميتًا".

 

ولذلك قال أهل العلم: على الإنسان دائمًا أن يتوقع الخير، والتوفيق في أموره، وأن يلزم التفاؤل، فهذا باب من أبواب التوكل على الله -سبحانه- وإحسان الظن به، كما أن التشاؤم من أخلاق الجاهلية، وفيه ما فيه من إساءة الظن بالله -جل وعلا-، إضافة إلى أن من يعتاد التشاؤم والشر يُبتلَى به جزاءً وفاقًا ليذوق وبال إساءة الظن بالرحمن الرحيم الحكيم الخبير -جل وعلا-.

 

وقد جاء هذا المعنى في حديث أنس في قوله صلى الله عليه وسلم: "والطيرة -أي: التشاؤم- على مَن تطير" يعني ينقلب التشاؤم على صاحبه.

 

يقول ابن القيم: "قد يجعل الله -سبحانه وتعالى- تطير العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعل الثقة والتوكل عليه وإفراده بالخوف والرجاء؛ من أعظم الأسباب التي يدفع بها الشر المتطير بها".

 

فالتشاؤم واليأس محظوران، ولذلك لما بشَّرت الملائكة نبي الله إبراهيم بالولد على كبر السن قالوا: (قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الحجر:53]، تعجب من كلامهم و(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر:54]، ذكّروه باجتناب اليأس فـ(قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) [الحجر:55- 56].

 

معاشر المسلمين: خلال الأحداث الجارية سئمنا من عبارات الشؤم والتشاؤم، ومن الأخبار التي تنشر روح الهزيمة في وسائل التواصل، نعم لا أحد ينكر الأحوال السيئة التي يعيشها المسلمون من أهل السنة على الخصوص، لكننا لم نعهد من تربية ديننا التشاؤم، ولا عبارات اليأس والتشاؤم حتى في أحلك الظروف، بل العكس لا نجد إلا التفاؤل والرجاء وحسن الظن بالله.

 

لذلك ثبت في البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا طيرة -أي: لا شؤم ولا تشاؤم-، وخيرها الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم"، لا الكلمة السيئة المتشائمة، الكلمة الصالحة التي ينقلها في وسائل التواصل التي يسمعها أحدكم.

 

وإذا كان النصر غائبًا حتى الآن، فلنتعامل معه بروح الرجاء لا بروح القنوط، كما تعامل مع غائبه يعقوبُ -عليه السلام- وغائبُ يعقوبَ يوسفُ، وغائبُنا النصرُ (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].

 

يعقوب -عليه السلام- كان متفائلاً يحسن ظنه بربه، رغم السنين الطويلة، ولكن تفاؤله لم يكن سلبيًّا، بل كان يتبع التفاؤل بالعمل، فكان عمله هو تحسُّس الغائب، والبحث عنه والتفتيش والتنقيب والسؤال (فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ).

 

وإذا كان العمل عند يعقوب هو التحسس، فالعمل في وضعنا هو إصلاح النفس، وتربيتها على الطاعة، والدعاء الخالص لله في كل حين، والبذل على قدر الاستطاعة، والثقة بالله وحكمته واليقين بنصره بعد نصره (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد:7].

 

ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الترغيب بسند حسن من حديث عبدالله بن عمرو قال -صلى الله عليه وسلم-: "القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله -عز وجل- يا أيها الناس، فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعا عن ظهر قلب غافل".

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين المتقين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله الأمين، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من صار على نهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فالله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله ولله الحمد.

يقول الله -تعالى- مبينًا وصول الفرج بعد طول تمحيص: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28].

 

أسأل الله فرجًا قريبًا وكشفًا للغمة عاجلاً (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء) [الروم:4- 5].

اللهم تقبل منا الصالحات وكفّر عنا السيئات ..

 

 

 

المرفقات

في وقت الشدة - خطبة عيد الأضحى 1435هـ1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات