موقف المسلم تجاه ولاة الأمر

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ لا تستقيم حياة الناس إلا بإمام ينظم شئونهم 2/ وجوب السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين في غير معصية الله 3/ الواجب على المسلم تحكيم الشرع في كل مسألة من مسائل الدين 4/ أقسام ولاة الأمر وموقف المسلم تجاههم 5/ أهم مكاسب الشيطان في زمن الفتن 6/ توقير العلماء من سمات السلف الصالح 7/ مكانة الأمراء والحكام في الإسلام 8/ مفاسد الخوض في الحكام بالتفسيق والتكفير

اقتباس

للعلماء نظرة ثاقبة في أوقات الفتن بفضل العلم الذي آتاهم الله، ولذا هم يناصحون سرًّا، وينكرون قدر الاستطاعة، ويدرءون المفاسد ويقللونها، ويجلبون المصالح ويكثرونها، وليس بشرط أن يسُمع لهم، كما أنهم يدرءون الفتن، ويحرصون على عدم إثارتها، وزعزعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويدفعون الفتنة الكبرى بالفتنة الصغرى، ويرون أن المحافظة على أمن الناس من أهم الواجبات...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد فيا أيها الناس:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم *** ولا سراة لهم إذا جهالهم سادوا

 

الناس في هذه الدنيا -كفارًا كانوا أو مسلمين- لا تستقيم حياتهم بلا ولاة أمر يقيمون لهم شئونهم، ويحفظون أمنهم، ولقد بيّن الله ذلك في كتابه، وتكاثرت النصوص الشرعية في ذلك، وذلك لأهمية الأمر، لتستقيم حياتهم، بل ليعبدوا ربهم، وولاة الأمر هم العلماء والأمراء الذين بهم يقوم الدين والدنيا.

 

وإن من أُصول العقيدة الصحيحة: السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين في غير معصية الله، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59].

 

قال الشيخ السعدي –رحمه الله –: «وأمر بطاعة أولي الأمر، وهم: الولاة على الناس، من الأمراء، والحكام، والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس، أمرُ دينهم ودنياهم، إلا بطاعتهم والانقياد لهم؛ طاعةً لله؛ ورغبةً فيما عنده، ولكن بشرط أن لا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".اهـ.

 

عباد الله : بعيدًا عن العواطف والأهواء، فإن الواجب على المسلم تحكيم الشرع في كل مسألة من مسائل الدين، ولو كان فيما نكره، وعلى أثرة علينا، وبعض الناس عندما يرى العالم يتكلم بهذا الكلام يطعن فيه، ولربما قال: إنه مأمور بهذا الكلام، وقول الحق واجب على أهل العلم ولو لم يوافق أهواء الناس، قال الله -جل في علاه-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187].

 

وإنما يبرز دوهم في مثل هذه الأمور، فإن الواجب على أهل العلم أن لا ينساقوا وراء أهواء الناس وعواطفهم، بل يقولوا الحق ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ونحن في مثل هذا الزمن، نلحظ أن الفتن تقود الناس لمخالفة الشرع، خصوصًا في التعامل مع الولاة من العلماء والأمراء، بل إن الوقيعة فيهم لهي علامة على الفتنة، فإنها بهم تبدأ.

 

ولعلنا في هذه الخطبة نمر سريعًا لنبين موقف المسلم تجاه ولاة الأمر، الموقف الشرعي لا موقف الهوى، فالقسم الأول من ولاة الأمر هم العلماء، مصابيح الدجى، والمبينين عن الله شرعه، وهم ورثة الأنبياء، فلهم مكانة ليست لآحاد الناس، فمن ذلك أن الله أوجب طاعتهم، فيما يوجهوننا به من أمور الدين، وعلّق في رقابهم صحة عباداتنا، فيما يشكل علينا من أمور الدين، فقال سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، فسؤالهم والسير على فتاويهم، مقبول عند الله، فإن جانبت الصواب، فلهم أجر الاجتهاد، ولا إثم على المستفتي لأنه طبّق الشرع في سؤال أهل العلم.

 

وإذا جاء وقت الفتن، وتمسك العلماء بالموقف الصحيح الذي يخالف هوى الفتنة، رمى الجهال أهل العلم بالمداهنة، والتملق، واتباع الدنيا، وهذا هو مكمن الخطر، فإذا اتهم العامة أهل العلم فعمن يأخذون دينهم، فتجدهم بعد ذلك يأخذون العلم عن غير العلماء أو يفتون أنفسهم، فيضلوا السبيل، وهذا من أهم مكاسب الشيطان في زمن الفتن، أنه يزرع العداوة بين العلماء والعامة حتى يحجب العامة عن النور والحق وقت الفتن، فنار الفتنة توقد بالعامة ودهماء الناس، عافانا الله وإياكم.

 

وإن من مزالق الناس وقت الفتن تجاه العلماء قولهم، لِم يسكت العلماء عن بيان الحق، والإنكار على الحكام، وأقول: إن للعلماء نظرة ثاقبة في أوقات الفتن بفضل العلم الذي آتاهم الله، ولذا هم يناصحون سرًّا، وينكرون قدر الاستطاعة، ويدرءون المفاسد ويقللونها، ويجلبون المصالح ويكثرونها، وليس بشرط أن يسُمع لهم، كما أنهم يدرءون الفتن، ويحرصون على عدم إثارتها، وزعزعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويدفعون الفتنة الكبرى بالفتنة الصغرى، ويرون أن المحافظة على أمن الناس من أهم الواجبات، لأنه به يقوم الدين، ويعبد الرب، فهم يقدمون الأهم على المهم، ليحافظوا على الأمن، ويقولون مع الأمن يستطيع الدعاة الدعوة إلى وهداية الناس.

 

وإذا صلحت الرعية انصلح الراعي، ولكن وقت الفتن لا تُقام دعوة، ولا يسمع للعلماء، ولا الدعاة، ويضيع الأمن، فالعلماء هم صمام الأمان للناس فيجب طاعتهم، وإحسان الظن بهم، ولا ندعي لهم العصمة ولكنهم مجتهدون، والظن بالله أن يقيمهم وقت الفتن لهداية الناس للصواب والحق.

 

وتوقير العلماء من سمات السلف الصالح، فقد كان الصحابة يوقرون أكابرهم وفقهاءهم، وتلقى ذلك عنهم التابعون وأتباعهم وشاع هذا الخُلق الكريم في زمان الأئمة المتبوعين مالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وغيرهم.

 

والعلماء الذين يجب توقيرهم هم حَمَلة الشريعة الذين عُرفوا بحسن القصد وصالح العمل وصحة المعتقد واتباع منهج السلف الصالح، الذين بذلوا أعمارهم في طلب العلم ونشره وأوتوا حظًّا من الورع، الذين شهدت لهم الأمة الخيار العدول بالإمامة والتبحر في الشريعة وصدر الناس عن رأيهم، فهم الأئمة الكبار حقًّا وهم المعنيون بالإجلال إذا أطلق الكلام، وكل من لديه علم ممن دونهم وقر بحسب علمه وسيره على جادة العلماء.

قال الأوزاعي: الناس هم العلماء ومن سواهم فليس بشيء.

وقال الثوري: لو أن فقيهًا على رأس جبل لكان هو الجماعة.

 

وقد أمر الشرع بتوقيرهم وإجلالهم، فقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى، وغيره من حديث أبي موسى موقوفًا عليه بسند حسنه ابن حجر "إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط".

 وقال طاووس: إن من السنة توقير العالم.

 

عباد الله: لا خير في أمة لا توقر علماءها، فالعلماء هم مرجع الأمة وبإسقاطهم ينتصر المنافقون وأعداء الإسلام وبإقصائهم يعلو شأن أهل البدعة ويستطير شرهم، وإذا رأيت الرجل يغمز العلماء فلا ترج فيه خيرًا، واعلم أنه على شفا هلكة وسبيل بدعة. قال بعض السلف: "من تكلم في الأمراء ذهبت دنياه، ومن تكلم في العلماء ذهب دينه".

اللهم بصرنا بعيوبنا، واحفظ علينا ديننا أقول قولي هذا...

 

 

الخطبة الثانية

 

أما بعد فيا أيها المسلمون: والقسم الثاني من ولاة الأمر هم الأمراء، والحكام، الذين بهم قوام معيشة الناس، وبهم يستقر الأمن، حتى ولو كانوا فجارًا أو ظلمة، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: "يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم"، رواه أبو داود.

 

فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله –تعالى- أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمَع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا رُوي "إن السلطان ظل الله في الأرض"، ويقال: "ستون سنةً من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان"، والتجربة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: "لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان".

 

قال الإمام عبدالله بن المبارك:

لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل **** وكان أضعفنا نهبا لأقوانا .اهـ

 

معاشر المؤمنين: مهما بلغ ظلم الحاكم، فلا بد من معرفة الموقف الشرعي في مثل هذه الحالات، فالموقف الشرعي هو النجاة؛ لأنه من عند رب العالمين، والله أعلم بمصالح عباده، وإن الناظر في حال السلف وكيف تعاملهم مع أئمة الجور ليعرف المنهج الواضح في ذلك، فانظر إليهم وتعاملهم مع الحجاج بن يوسف مع شهرته في الظلم وسفك الدماء، وضعف الديانة، حتى إنهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها فلا يصلون الظهر إلا قبيل المغرب، ومع هذا كان الأئمة من الصحابة كأنس وابن عمر وكبار التابعين كالحسن وابن سيرين يصلون معهم ولا يشقون عصا الطاعة، وإذا خافوا خروج الوقت صلوا إيماء، وكانوا إذا شكوا للحسن ظلم الحجاج، قال: "إن الحجاج عذاب الله في الأرض، فلا تواجهوه، وتوبوا إلى الله واستغفروه"، ولما بلغ الحسنَ موتُ الحجاج، سجد لله شكرًا.

 

وكان السلف الصالح لا يخرجون على حكامهم، ولو كانوا على مذهب مخالف لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

قال حنبل: «اجتمع فقهاء بغداد في عهد الواثق إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل –وقالوا له إن الأمر قد تفاقم وفشا– يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك – ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه، فمنعهم الإمام أحمد من ذلك، وقال: «عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم، ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار". اهـ.

 

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "وما خرج قوم على إمامهم ناقمين عليه في إمرته، منذ زمن عثمان بن عفان حتى وقتنا هذا وهو في القرن الثامن، إلا عاد الحال أسوأ مما كان عليه قبل".

 

أيها المؤمنون:

أرى خلل الرماد وميض جمر *** ويوشك أن يكون له ضرام

فإن لم يُطفها عقلاء قوم *** يكون وقودها جثث وهام

فإن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب أولها كلام

 

وقال الإمام أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله-: "ولا نرى الخروج عن أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ... وندعوا لهم بالصلاح والمعافاة" (العقيدة الطحاوية: 24).

 

وقال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- في الأمراء: "هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود, والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا, والله لما يصلح الله بهم أكثرُ مما يفسدون, مع أن طاعتهم والله لغبطة, وأن فُرقتهم لكفر"، (آداب الحسن البصري لابن الجوزي 121، وجامع العلوم والحكم 2/117).

 

عباد الله: إن من أعظم الفتن، الخوض في الحكام بالتفسيق والتكفير من شباب وعوام الرعية، وهذه أمور مرجعها إلى أهل العلم، وحتى لو حكم أهل العلم على الوالي بالكفر البواح، فإنه لا يجوز الخروج عليه، ويجب السمع والطاعة له، لا لشخصه، وإنما من أجل حقن الدماء، والحفاظ على الأمن، وحتى يكون عند الناس قوةٌ تستطيع إزالته من دون سفك للدماء، وزعزعة للأمن، هذا عند كفره البواح، فما الحال عند إيمانه، ونشره للخير، مع وجود المنكرات والمخالفات، لا شك أن السمع والطاعة أوجب، مع النصح والدعوة إلى الله.

 

أيها المؤمنون: إن سبّ ولاة الأمر، علماءَ وحكامٍ، من وسائل الخروج عليهم، ويدخل فيها التشفي واتباع الهوى، والتفرقة بين الراعي والرعية، إنني لأقول ذلك، وأنا أنظر وأسمع فيما حولنا من الدول ما صنع فيهم الاختلاف على ولي أمرهم أيًّا كان حاله، فما رأينا إلا سفك الدماء، وضعف الدين، وضياع الأمن، وأرى كذلك من يحاول إذكاء نار الفتنة في بلدنا الآمن، إما جهلاً أو حسدًا، فالحذر الحذر عباد الله، ولنلتف حول علمائنا وأمرائنا ونتناصح في الله حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.

 

اللهم آمنا في أوطاننا، وولي علينا خيارنا، ...

 

 

المرفقات

المسلم تجاه ولاة الأمر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات