لنطلب العلم

توفيق الصائغ

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/منزلة العلم ومكانته وشرفه وفضله 2/حرص الأنبياء على العلم وتحصيله 3/بعض قصص الصحابة في طلب العلم وتحصليه والرحلة إليه 4/بعض قصص التابعين وتابعيهم في طلب العلم والرحلة إليه 5/بعض ما لاقاه العلماء من التعب والجهد والفقر 6/الاقتداء بعلماء الإسلام لا بعلماء الحضارة الغربية الزائفة

اقتباس

أبناء المدارس معاقل الأمل، تعقد على نواصيهم الأمة عريض الآمال. طلاب العلم، أحق بأن تعقد لهم جمع لا جمعة واحدة؛ لأن العلم أشرف المطالب، وأعلى المراتب. أليس الله -عز وجل- قد أشاد بالعلم والعلماء، ولم يسو بهم غيرهم أبداً، وأشهدهم على أعظم حقيقة في الكون، وأكبر قضية في...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

 

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

أبناء المدارس معاقل الأمل، تعقد على نواصيهم الأمة عريض الآمال.

 

أأبناءَ المدارسِ إنَّ نفسي *** تأمَّلُ فيكمُ الأملَ الكبيرَا

فسُقيًا للمدارسِ مِن رياضٍ *** لنا قدْ أنْبَتتْ مِنكُمْ زُهُورَا

 

طلاب العلم، شداة المعرفة؛ أحق بأن تعقد لهم جمع لا جمعة واحدة؛ لأن العلم أشرف المطالب، وأعلى المراتب.

 

أليس الله -عز وجل- قد أشاد بالعلم والعلماء، ولم يسو بهم غيرهم أبداً، وأشهدهم على أعظم حقيقة في الكون، وأكبر قضية في التاريخ: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)[آل عمران: 18].

 

نعم، العلماء أعلى مرتبة من غيرهم.

 

الملوك دين لهم الناس، لكن العلماء يدين لهم الملوك.

 

لو لم يكن من شرف العلماء والعلم والتحصيل إلا النصوص المتناثرة الكثيرة في كتاب الله، التي أنا في غنى عن ذكرها لكفى.

 

لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- بما آتاه الله من الحكمة، يبين معاني القرآن، فيقول عليه وآله الصلاة والسلام كما في حديث أبي أمامة: "فضل العالم على العابد، كفضلي على أدناكم".

 

كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنانا درجة ورتبة!.

 

وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لِأَهلِهِ *** وَأَجسادُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ

وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيِ بِالعِلمِ مَيِّتٌ *** وَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ

 

لذلك كانت هذه الخطبة، حثا لأبنائنا من طلاب المدارس، حثا لنا صغارا كنا أو كبارا، على تلمس طرق العلم، وعلى سلوك سبيله، فإن السائر في درب العلم، مرحوم على كل حال.

 

تعلم فليسَ المرءُ يولدُ عالماً *** وَلَيْسَ أخو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ

 

والذي يسير في درب العلم مرحوم، لا يفوته أجر، ولا يذهب عنه ذخر: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة".

 

يا لله! السماوات وأبراجها، والأرض وفجاجها، والبحار وأمواجها، والمخلوقات على تنوعها، تستغفر لطالب العلم: "وإن طالب العلم ليستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في بحارها".

 

لعمرك ما الرزية فقد مال *** ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد حُرٍّ *** يموت بموته خلق كثير

 

إنه العلم الذي امتن الله -عز وجل- به على الأنبياء، امتن الله به على موسى -عليه السلام-، فقال: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[القصص:14].

 

وامتن به على عيسى-عليه السلام-، فقال: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ)[المائدة:110].

 

وامتن به على داود -عليه السلام- مرارا، فقال: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص:20].

 

وامتن به على داود وسليمان-عليهما السلام-، فقال: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)[الأنبياء:79].

 

أما سيد الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليه-، فإن الله امتن عليه بأبلغ الامتنان، فقال: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النساء: 113].

 

أشرف الرتب العلم، أشرف حتى من العقل الذي هو نعمة النعم، يميز الإنسان به بين الصحيح والسقيم، والغث والسمين.

 

العلم درجة أعلى من رتبة العقل.

 

علم العليم وعقل العاقل اختلفا *** أي الذي منهما قد أحرز الشرفا

فالعلم قال أنا أحرزت غايته *** والعقل قال أنا الرحمن بي عرفا

فأفصح العلم إفصاحاً وقال له *** بأينا الله في فرقانه اتصفا

فبان للعقل أن العلم سيده *** وقبل العقل رأس العلم وانصرفا

 

طلاب العلم الذين نخصهم بهذه الخطبة، هم وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ألا يكفيهم شرفا ومنصبا أن يكونوا بهذه المكانة، يوصي بهم النبي -عليه وآله الصلاة والسلام- ويمنحهم هذا اللقب؛ عن أبي سعيد الخدري فيما حسنه الإمام الألباني في صحيح الجامع أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه قال: "سَيَأْتِيكُمْ قَوْمٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ، فَقُولُوا لَهُمْ: مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-، وَاقْنُوهُمْ".

 

يا طلاب العلم، وكلنا لا بد أن يأخذ من هذا اللقب بحظ ونصيب، أيا كانت أسناننا أيا كانت منازلنا! أيا كانت مشاغلنا!.

 

يا طلاب العلم: أسوق إليكم جملة وطائفة من الذين بذلوا في العلم جهدا ونصبا وتعبا، أولهم وأقدمهم: موسى بن عمران -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ألم يتبع الرجل وركب له البحر، وشق عباب الماء، يلتمس منه علما، ويستصبره على ما لم يستطع عليه صبرا، حتى ينال حظا من العلم! مع أن الله شرفه برتبة النبوة والرسالة، وكونه من أولي العزم من الرسل، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يبذل الجهد والكد لينال من العلم نصيبا؟!.

 

وصحابة النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا أئمة ذلك وسادته، ولكنني أحلي ذلك وأجمله، بوصايا العلماء، الذين بينوا رتبة العلم، وجعلوها أعلى حتى من رتبة الملك والإمارة والسلطان.

 

وقف الخليفة بين يدي عبد من أعبد مكة، عطاء بن أبي رباح، الذي مكث أكثر من أربعين سنة، يلتحف سماء مكة، ويفترش أرض الحرم، حتى نال الرتبة العليا في مكة، حتى كان لا يجرؤ أحد أن يفتي في المناسك في حضرته، كان يجتمع إليه في الموسم الحجاج، هذا يسأله عن الطواف، وآخر عن الركعتين، وثالث عن السعي.

 

أراد الخليفة أن يتقدم ومعه ولداه، وحق الخلفاء أن يتقدموا على الناس، وأن يكون لهم التقدم، لكنه عند العلم أُخر وأرجع، وقيل له: مكانك! ثم قال الخليفة لبنيه: "أرأيتم وُقوفنا وذلنا بين يدي هذا العبد إنما رفعه الله بالعلم؟!".

 

يقول عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بني تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم".

 

ومن لم يذق مر التعلم ساعة *** تجرع ذل الجهل طول حياته

ومن فاته التعليم وقت شبابه *** فكبر عليه أربعا لوفاته

 

ولنا اعتراض على البيت الأخير؛ لأن التعلم والتعليم لا سن له أبداً!.

 

ذكرت لكم في الخطبة الماضية: أن الإمام أبا يوسف، صاحب أبي حنيفة، كان يراجع الناس مسألة في الفرائض، وهو يحتضر!.

 

والإمام ابن مالك، صاحب الألفية، حفظ أربعة أبيات، وهو على فراش الموت!.

 

العلم، هو الملك الحقيقي!.

 

ابن المبارك أمير المؤمنين في الحديث، قال حدثنا أشعث بن شعبة، قال: "قدم الرشيد الرقة، فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أمة من إيماء الرشيد، أم ولد لأمير المؤمنين من برج من على قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا –والله- هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس بالشرط والأعوان".

 

لكن هذا الملك، لا يمكن أن ينال براحة الجسد، لا يمكن أن ينال بتعريض الوسادة، ومد الجسد على الفرش.

 

لا، هذا العلم يحتاج إلى الكد والجهد والتعب.

 

أخي لن تنال العلم إلا بستة *** سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ *** وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ

 

أخرج الإمام مسلم في صحيحه، قال يحيى بن أبي كثير: "لا ينال العلم براحة الجسد".

 

فقل لمرجي معالي الأمور *** بغير اجتهاد طلبت المحال!

 

كما بذل موسى بن عمران، وقته وجهده، بذل جابر بن عبد الله -رضي الله عن وعن أبيه- بذل وقتا طويلا، وسفر كثيرا، لينال حديثا واحدا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جهز الرحلة، وارتحل شهرا كاملا، فلما وصل إلى دار عبد الله بن أُنيس، قال للبواب: "قل له بالباب جابر، قال: ابن عبد الله بن حرام؟ قال: نعم، فسمع ذلك عبد الله بن أنيس، فخرج للتو واللحظة، واعتنق جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، ثم قال جابر: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه".

 

وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِباراً *** تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

 

ومن تكن العلياء همة نفسه *** فكل الذي يلقاه فيها محبب

 

شهرا كاملا! والسفر قطعة من عذاب! لا يتصورنَّ أحدكم أن جابر بن عبد الله امتطى طائرة، ليبخر عباب السحاب!.

 

لا، بل قطعها على كد الأرجل شهرا كاملا، يصعد شارفا، ويهبط واديا، وبين عينيه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لم يكن بدعا من الأمر؛ هذا سعيد بن جبير، اختلف أهل الكوفة عنده، في قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)[النساء:93].

 

قال: فارتحل سعيد بن جبير من الكوفة إلى المدينة، حتى وافى عبد الله بن عباس، فقال له ابن عباس: "هي آخر ما نزل من القرآن لم ينسخها شيء".

 

ارتحل من أجل هذه الجملة! من أجل هذه العبارة!.

 

أيها الطلاب: إنكم تذهبون إلى مدارسكم على سيارات من أوثر ما يكون، إنكم تذهبون إلى دور التعليم، موفرة لكم كل أسباب الراحة، أفتقعدون عن المراتب العالية؟!.

 

قال ابن المديني -رحمه الله-: "قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟ قال: "بنفي الاعتماد -أي الاعتماد على الغير- والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب".

 

بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسر من التعب

 

مالك بن أنس، يقول عنه ابن القاسم: "أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه!".

 

قال مالك -رحمه الله-: "لا ينال هذا الأمر -يعني طلب العلم- حتى يذاق فيه طعم الفقر".

 

والفقر ملازم للعلم والعلماء.

 

قلت للفقر: أين أنت مقيم؟ *** قال: في عمائم الفقهاء

إن بيني وبينهم لإخاء *** وعزيز علي ترك الإخاء

 

يقول أحمد بن حنبل: "رحلت في طلب العلم والسنة إلى الثغور والشامات، والسواحل والمغرب، والجزائر، ومكة المدينة، والحجاز واليمن، والعراقين جميعا، وفارس وخراسان، والجبال والأطراف، ثم عدت إلى بغداد".

 

إن أحدهم كان يلازم شيخه أربعين سنة!.

 

وأحدهم كان يتردد على حلق العلم، فيقرأ أكثر من خمسين كتابا! ويحضر أكثر من اثني عشر درسا!.

 

بقدر الكد تلتمس المعالي *** ومن طلب العلا سهر الليالي

ومن رام العلا من غير كد *** أضاع العمر في طلب المحال

تروم العز ثم تنام ليلاً *** يغوص البحر من طلب اللآلئ

 

يا طلاب العلم: إنكم تنالون الإعانة، وطلاب العلم قديما لم يكونوا لينالوا الإعانة؛ شعبة بن الحجاج أبو بسطام، يقول: "من طلب الحديث أفلس!".

 

يقول شعبة: "بعت طست أمي بسبعة دنانير!".

 

وأحدهم نقض سقف بيته غير مالك، وباعه من أجل العلم!.

 

والإمام أحمد، في رحلته إلى عبد الرزاق الصنعاني باليمن، كان يؤجر نفسه -رحمه الله- للجمالين، حتى ينال دراهم ودنانير، يقتات بها!.

 

أما الإمام النووي، الذي نقرأ كتابه، دبر كل صلاة عصر في مساجد نجد والحجاز، وفي كل بقاع المعمورة، تقرأ كتبه، وكان أهل العلم قديما، يقولون: "بع الدار واشتر الأذكار".

 

الإمام النووي، لم ينل هذه الرتبة براحة الجسد، كان يحضر في اليوم اثنى عشر درسا! ويراجع وهو يمشي في الطريق!.

 

أما أبو حاتم الرازي، فمشى على قدميه في طلب العلم ألف فرسخ!.

 

دَبِبْتَ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا **** حَدَّ النُّفُوسِ وَأَلْقَوا دُونَهُ الأزرا

وَكَابَدُوا المَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ **** وَعَانَقَ المَجْد مَنْ وَفى وَمَنْ صَبَرَا

لاَ تَحْسِب المَجْدَ تَمْراً أَنْتَ آكِلَهُ**** لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعِقَ الصَّبِرَا

 

اللهم يا معلم إبراهيم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا.

 

نسألك علما نافعا، وعملا صالحا.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما في من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

 

أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، يا طوبى للمستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 

أما بعد:

 

المصنفات العظيمة التي بين أيدينا من كتب السنة والحديث، لم يأت بها العلماء أبدا إلا بعد أن بذلوا لها نفوسهم؛ هذا الإمام البخاري، حافظ الدنيا، صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله -تعالى-، يستيقظ في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة، ليدون خاطرة، أو حديثا، أو فكرة، أو علما.

 

بات عنده ليلة أحد طلاب العلم، فقال: أحصيت على محمد بن إبراهيم البخاري، يقوم أكثر من ثمان عشرة مرة كلما تذكر، كأن عقله يعمل وهو نائم، من اشتغاله بالعلم: "كلما تذكر فائدة" قال: "أوقد المصباح والسراج، ثم دون هذه الفائدة ونام!".

 

دواوين السنة لم تأت إلا بعد الترحال الطويل، حفظ لأجلها أحمد بن حنبل ألف ألف حديث، وأمر ابنه أن يحفظ قريبا من سبعين ألف حديث، ثم قال له: "يا بني ما حفظته، كان السقيم -الضعيف الموضوع- ابدأ الآن بحفظ الصحيح".

 

ما أجمل هذه المثل! حين تقدم لشبابنا! وحين تقرب لناشئتنا! تبعث فيهم الهمة! وتقدح فيهم الزناد!.

 

أقول ما أجمل هذه المثل! وتاريخنا وسير أسلافنا مليئة عامرة بمثل هذه الأمثال!.

 

أقول ذلك؛ لأننا بلينا في متأخري الأزمان، حتى من بعض من درجوا في سبيل العلم، بلينا بذكر الأمثال من غير مالك والشافعي وشعبة وغيره!.

 

لماذا تذكر لي عن ستيقن كوفي وعندي من تجارب البخاري والشافعي ما هو مقدم؟!

 

لست رجعيا، لست أنكر أن المؤمن يتبع الحكمة أنى وجدها، لكن الأحق بنسب الحكمة إليه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أوتي الكتاب والحكمة، وأصحابه الذين هم صفوة الخلق وخيرته، ثم التابعون وتابعوهم بإحسان، الذين شهد لهم النبي -عليه آله الصلاة والسلام- بخيرية القرون، ثم أذكر بعد ذلك من تجارب الأمم والسابقين ما أردت؟!

 

أليس في تجارب البخاري، ما يغني ألفية أديسون؟!

 

أليس في كد الإمام النووي ما يغني عن غيره من كلام الفلاسفة والمتأخرين؟!

 

بلى!.

 

إذاً، ناشئتنا يحتاجون إلى أن نجلي لهم صورا من حياة أولئك، صفحات مشرقة من صبرهم على الكد والتعلم، والتحصيل والرحلة!.

 

وما أعظم أن يكون في مكتبتك -أيها الأب-:

 

-       الرحلة في طلب الحديث.

 

-       صفحات مشرقة من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل.

 

-       صلاح الأمة في علو الهمة.

 

حتى يقرأ الناشئة ذلك، ويتمثلوا بهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام:90].

 

أسأل الله -عز وجل- أن يجعله عام نشاط وجد واجتهاد لأبنائنا وطلابنا.

 

أسأل الله -عز وجل- أن يفتح على أسماعهم وأبصارهم وعلى عقولهم، هو ولي ذلك، والقادر عليه.

 

 

 

 

المرفقات

العلم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات