عناصر الخطبة
1/ قصص القرآن أشرف القصص 2/ شعيب -عليه السلام- خطيب الأنبياء 3/ من صور انحراف أهل مدين 4/ دروس وعبر من قصة شعيب مع قومهاقتباس
وفي طَلِيعَةِ المَوكبِ المُبَارَكِ خَطِيبُ الأَنبِياءِ نَبِيُّ اللهِ شُعيبٌ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فَلِمَن أُرسِلَ؟! وماذا كانَ عَمَلُ قومِهُ؟! وكيفَ كانَ إهلاكُهم وما أَسبَابُ ذَلِكَ؟! (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله قصَّ علينا من نبأِ المُرسلِينَ ما فيه عبرةٌ لأولي الألبابِ، أرسَلَ الرُّسلَ مُبشرينَ ومُنذرينَ، وأَنزَلَ مَعهم الكتابَ لِيحكمَ بينَ النَّاس فيما اختلفوا فيه ولِيقومَ الناسُ بالقسطِ ويَخافُوا يومَ الحسابِ، نَشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليمُ الحكيمُ الوَهَّابُ، وَنشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه، بعثه ربُّه رحمةً للعالَمينَ بلا شَكٍّ ولا ارتيابٍ، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى جميع الآل والأصحابِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم المآبِ.
أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله -عبادَ اللهِ- حقَّ تقواه، وأعِدِّوا ليومِ المَعَادِ عُدَّتَهُ ودعواهُ.
أيُّها المُسلمونَ: لا ريبَ أنَّ قَصَصَ القرآنِ أشرفُ القصَصِ لِما لَها من نُبلِ الغايةِ وجَمِيلِ الآثارِ, على الدِّين والنَّفسِ والمُجتَمَعِ، خاصَّةً قصَص الأَنبِياءِ والمُرسلِينَ، فقد قالَ اللهُ عنها: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)، فهيَ أَحْسَنُ القَصَصِ وأصدَقُها وأبلَغُها وأنفعُها للعبادِ والبلادِ؛ أُنزلت تذكيرًا وعِبرًا, وتفصيلاً وتثبيتًا, وهدًى ورحمة.
وفي أَنبَاءِ المُرسَلينَ بِشَارَةٌ بالفَرَجِ وتَيسيرِ الأُمُورِ، فَهي حَقاً زادٌ لِلمُتَّقِينَ وسُرُورٌ للعَابِدِينَ وسُلوَانٌ لِلمَحزُونِينَ.
عبادَ اللهِ: وفي طَلِيعَةِ المَوكبِ المُبَارَكِ خَطِيبُ الأَنبِياءِ نَبِيُّ اللهِ شُعيبٌ -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فَلِمَن أُرسِلَ؟! وماذا كانَ عَمَلُ قومِهُ؟! وكيفَ كانَ إهلاكُهم وما أَسبَابُ ذَلِكَ؟! (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
شُعَيبٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْعَرَبِ من ذُرِّيةِ إبراهيمَ الخَليلَ -عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، كان رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا ذُكر شُعيبٌ قال: "ذاكَ خَطِيبُ الأَنبِياءِ"، لفصاحتِه وبلاغتِه، وقوَّةِ حُجَّتِه وحُسنِ دَعوتِه لِقومِه ومُراجَعَتِهِ المُستَمِرَّةِ لهم.
أَرسَلَهُ اللهُ تَعالى إلى قَومِ مَدْينَ كمَا قَال: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
وَمَدينُ قَريةٌ في أطرافِ الشَّامِ، وهم أصحَابُ الأَيكَةِ، فَأرْضُهم زِرَاعِيَّةٌ مُلتَفَّةٌ بالأشْجَارِ، وكانُوا أَهلَ رَفَاهِيَّةٍ ومُلكٍ ونَعِيمٍ، وأهلَ كَسْبٍ وتِجَارةٍ، لأنَّهم على طَرِيقِ القَوافِلِ التِّجَارِيَّةِ.
وكان أصحابُ مدينَ على دينِ إبراهيمَ الخليلَ -عليه السلام-، حتى هجروا عبادةَ اللهِ تعالى وبدَّلوا نعمةَ اللهِ كُفرًا, فَكفروا بِاللهِ وعَبَدوا الأشجارَ وانحرفوا عن الصِّراطِ وَفَشَتْ فيهم مُنكَرَاتٌ ومُوبِقَاتٌ, فَصَاروا يُفسِدُونَ في الأَرضِ ولا يُصلِحُونَ! وَجَمَعُوا إلى الشِّركِ بالله تعالى نَقصَ المَكَاييلِ والمَوَازِيينِ وَبَخْسَ النَّاسِ أشياءَهم في ألوانٍ منَ الغشِّ في المُعَامَلاتِ, وقطعَ الطَّريق, والاعتداءَ على المارَّةِ وسَلْبَ أموالِهم, وكانوا أهلَ كفرٍ وتكذيبٍ بآياتِ الله ورُسلِه، قال تعالى: (وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
ومن صور انحرافِ القَومِ أنَّهم كانوا يَستَهزِئُونَ بِعبادَةِ وصَلاةِ ودِينِ شُعيبٍ -عليه السَّلامُ-، قال الله تعالى عنهم: (قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).
قالوا ذالِكَ استهزاءً, وقصدُهم أنَّه مَوصوفٌ بالسَّفَهِ والغِوِايَةِ، نعم لقد بَعَثَ اللهُ فيهم رَجُلاً منهم، فَدَعَاهم إلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ، وأمرَهم بالعدلِ، ونَهاهم عن الظُّلم، وذكَّرهم بنعمةِ الله عليهم، إذْ كثَّرهم من قِلَّةٍ، وأغناهم من فقرٍ، فآمن به قليلٌ منهم وكذَّبهُ واستهزأَ به الأكثرونَ.
فَأنذرهم شُعيبٌ -عليه السَّلامُ- عاقبةَ كُفرِهم ومَعاصِيهم، وأنَّه لا يقصِدُ غيرَ إصلاحِ أحوالِهم الدينيِّةِ والدُّنيويِّةِ؛ ثم حذَّرهم من التَّمادِي في الكُفرِ والتَّكذيبِ، أنْ يَنتَهيَ بهم الأمرُ إلى ما حَلَّ بِمَن قَبلَهم من الأممِ الهَالِكَةِ.
ثُمَّ عرَضَ عليهم التَّوبةَ إلى اللهِ والبعدَ عمَّا هم فيه من إثمٍ، ورغَّبهم في الاستغفار مبيِّنًا لهم أنَّ الله يقبلُ التوبةَ عن عباده إذا صَدَقُوا؛ لكنَّهم أصرُّوا على ما هم عليه من كفرٍ وَفَسادٍ في الأَرضِ وإعراضٍ عن البَيِّنَاتِ والهُدى؛ مُستخفِّينَ به مُستَضعِفِينَ لَه مُستظهرينَ عليه بِعَدَدِهم وعُدَّتِهم، حتى هدَّدَهُ أكابرُ القوم فقالوا: (لَنُخْرِجَنَّكَ يـاشُعَيْبُ وَلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا).
فلمَّا يئِسَ من إيمانِهم به واستجابَتِهم لِما يَدعُوهُم إليه، جاءَهم الهَلاكُ جزاءَ عصيانِهم وكُفرِهم، أتدرونَ -عبادَ اللهِ- كيفَ أهلَكهمُ اللهُ؟! أهلكَهم بما نَطقوا بهِ وطَلبوه واستهزؤوا به واستَخَفُّوه حينَ قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ * فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)، يَوْمُ الظُّلَّةِ يومٌ سلَّطَ اللهُ عليهم حرًّا شديدًا أخَذ بَأَنْفَاسِهم وغَلَتْ مياهُهُم, فَدَخَلُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَجْوَافَ الْبُيُوتِ فَأَخَذَ بِأَنْفَاسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْبُيُوتِ هِرَابًا إِلَى الْبَرِيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَظَلَّتْهُمْ مِنَ الشَّمْسِ، فَوَجَدُوا لَهَا بَرْدًا وَلَذَّةً، فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى إِذَا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا وَتَزَلْزَلَت بِهمُ الأرضُ وأخذتْهمُ الصَّيحَةُ، فَأصبَحوا في دِيَارِهم جَاثِمِينَ خَامِدِينَ مَذمُومين لا تَسمَعُ لهم صَوتَاً، ولا تَرى مِنهم حَرَكَةً.
وسبحانَ اللهِ!! (كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)، كَأَنَّهم ما أَقَامُوا فِي دِيَارِهم ولا عَمَروها، ولا تَنَعَّمُوا فِيها ولا زَرَعُوها، فصاروا أثراً بعد عينٍ! أَلا بُعْدًا لهم إذْ أَهلَكَهم اللهُ وأخزاهم كَمَا هَلَكت ثَمُودُ؛ فقد اشتركت هاتانِ القَبِيلتَانِ في السَّحْقِ والبُعدِ والهَلاكِ، وفي ثلاثَةِ مواضِعَ من القرآنِ الكريمِ بيَّنَ هلاكَهُم؛ فقد أهلَكَهُم بالصَّيْحَةِ التي أَسكَتَتهُم وأَخمَدَتُهم، وبالرَّجفَةِ على الأرضِ التي ظَلَمُوا بِها، وأَرادُوا إخَراجَ نَبِيِّهم مِنها، وبعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ بَدلَ نِعَمِ الأشجار التي كانوا يستَظِلُّونَ بها! فَهُم أُمَّةٌ واحدةُ، وَجَمَعَ اللهُ عليهم يومَ عَذَابِهم هذهِ النِّقَمَ كُلَّها. وهذا من الأَسرَارِ الغَرِيبَةِ الدَّقِيقَةِ، وأمَّا شُعيبٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فقد نَجَّاهمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ منه وَفَضْلٍ: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ).
نفعَني الله وإيِّاكُم بهديِ كتابه، وبسنَّة نبيِّه، أقول ما سمعتم وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ، فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله برحمته اهتدى المُهتدونَ، وبعدلِهِ وحكمَتِهِ ضلَّ الضَالونَ، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسألونَ، ونشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسولُه، ترَكنا على مَحجَّةٍ بَيضَاءَ لا يزيغُ عنها إلاَّ أهُلُ الأهواء ِوالظُّنونِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله وأصحابِه وأتباعِه بإحسانٍ إلى يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ إلاَّ مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ.
أمَّا بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ -يا مؤمنونَ- حقَّ التَّقوى، واستَمسِكُوا من الإسلامِ بالعُروة ِالوُثقى، وتَدبَّروا كتابَ اللهِ ففيه فوائدُ وعِبَرٌ, ودُروسٌ ودُرَرٌ, لا تُعدُّ ولا تُحصى.
حقًّا (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ)، ففي أنباءِ المرسَلينَ تَقريرُ الإيمانِ باللهِ وتوحيدُه وإخلاصُ العملِ للهِ، وقُبحُ الشِّركِ باللهِ والمَعاصِي، وأنَّها سببُ خَسَارةِ الدُّنيا وبوارِ الآخرة، وفي أنباءِ المرسَلينَ عبرةٌ للاقتداءِ بِهم في الدَّعوةِ والصبرِ والثَّبَاتِ واحتِساب الثَّوابِ من الله تعالى، لا يَطلبون من أَحَدٍ أَجرًا ولا جَزَاءً ولا شُكُورًا, فتعالوا بنا -يا كرامُ- نستلهِمُ من قِصَّةِ قومِ مَدينَ دُرُوساً وعبراً.
فمنها: أنَّ دَعوةَ الأنبياءِ واحدةٌ؛ قالَ اللهُ تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ). ورسُولُنا -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ".
فهكذا هم ومَن بعدَهم من العُلماء والدُّعاةِ والمُصلِحينَ, وظِيفَتُهم وسُنَّتُهم إِرَادَةُ الإصلاحِ بِحَسبِ القُدرَةِ والإمْكَانِ، فَيَأتُونَ بِتَحصيلِ المَصالِحِ وتَكمِيلِها، وَبِدَفعِ المَفَاسِدِ وتَقْلِيلِها، ويُراعُونَ المَصالِحَ العَامَّةَ على المَصَالِحِ الخَاصَّةِ التي بها تَستَقِيمُ أُمورهم الدِّينِيَّة والدُّنيَوِيَّة.
لذا كانَ شعيبٌ -عليهِ السَّلامُ- كثيراً ما يُردَّدُ: (إنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
قالَ الشيخُ السَّعديُّ -رحمهُ اللهُ-: "ومن الدُّروسِ: أنْ نعرِفَ أنَّ الكُفَّارَ، كمَا يُعَاقَبُونَ، ويُخَاطَبُونَ بِأصلِ الإسلامِ، فَكذلِكَ بِشَرائِعهِ وفُرُوعِهِ؛ لأنَّ شُعيباً دَعا قَومَهُ إلى التَّوحيدِ، وإلى إيفَاءِ المِكيالِ والمِيزَانِ، وَجَعَلَ الوَعِيدَ مُرَتَّبًا على ذَلكَ".
ومنها: أنَّ الصلاةَ سبَبٌ لِفعلِ كلِّ خَيرٍ وتركِ كلِّ مُنكرٍ وشَرٍّ, فقد لاحَظَ قَومُ شُعيبٍ ذَلكَ فحاولوا صدَّه عن الصلاةِ التي أدَّت به إلى عبادةِ اللهِ وحدهُ، وتَرْكِ الغِشِّ في المَكَاييلِ والأَوزَانِ، فالصَّلاةُ الحَقَّةُ -يا مؤمنونَ- تجعَلُ الضَّمِيرَ حيًّا نقيًّا، وتحرِّكُ في القلبِ مَشَاعِرَ التَّقوى والمُرَاقَبَةِ، والله يقولُ: (إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَلْمُنْكَرِ).
فما أحوجَنا إلى صلاةٍ تَعصِمُنا من الخَطايا، وَتنهانا عن الفَحشَاءِ والمُنكرِ، وتَنْقُلُنا إلى رحابِ الله ورضوانِهَ!! فاللهَ اللهَ في الصَّلاةِ وما مَلَكَت أيمَانُكم.
عباد اللهِ: ومن الدُّروسِ: أنَّ العبدَ مَحكُومٌ في جَمِيعِ مُعَامَلاتِهِ المَالِيَّةِ بِسُلطَانِ الشَّرِيعَةِ الغَرِّاء، فَلَيسَ لَه أنْ يَقولَ: أنَا حُرٌّ في مَالِي أَفْعَلُ فِيه ما أَشَاءُ، وإلاَّ كانَ مُشَابِهًا لِقَومِ مَدينَ الذينَ طَفَّفوا وبَخَسوا وغشُّوا وخَدَعوا، فإنَّ مِن أَعظَمِ الجَرائِمِ وأقبَحِ المُنكَرَاتِ غِشُّ النَّاسِ والتَّدليسُ والتَّلبيسُ عليهم، فاستمعوا -يا أصحابَ المُعاملاتِ والمُدَاينَاتِ، ويا أربابَ البُنوكِ ويا أهلَ فَتَاوى التَّسويقِ- فالله تعالى يقولُ: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ). ورسُولُنا قالَ: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا".
وقد توعَّدَ الله أهلَ مَدينَ بِالويلِ والخَسَارَةِ بسببِ غِشِّهم واحتيالِهم.
ومن الفوائدِ والدُّروسِ: أنَّ النَّاصحَ والدَّاعيَ لابدَّ أنْ يَكونَ أوَّلَ الْمُمتَثِلِينَ لِمَا يَأمُرُ بِه، وأوَّلَ المُنتَهِينَ عمَّا يَنهى عنهُ، فَشُعيبٌ -عليهِ السلامُ- كانَ يقولُ لِقومِهِ: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)، وإلاَّ كان ممن َيقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)، وهذا دَرسٌ عَظِيمٌ لِلمُصلِحينَ والآباءِ، والدُّعاةِ والمُعَلِّمينَ، أنْ يُراعيَ كلٌّ منَّا سُلُوكَهُ، فكلُّ كَلِمَةٍ وتَصَرُّفٍ مُراقبٌ عليكَ ومَحسوبٌ.
لا تَنْهَ عن خُلقٍ وتأتيَ مثلَه *** عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
من دروسِ قولِ المُستكبِرِينَ لِشُعيبٍ -عليه السَّلامُ-: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا): تَثبيتٌ لِلعلَمَاءِ والمُصلِحينَ، فَعجِيبٌ أنْ يَهزأَ الجَاهلُ مِن العَالِمِ, وعجِيبٌ أنْ يُصبحَ السَّفِيهُ هو صَاحِب الحُجةِ والسُّلطانِ والنُّفُوذِ! ومُحالٌ عندَ العُقلاء والفُضَلاءِ أنَّ مَنْ يَدعو إلى الفَضِيلَةِ والطُّهرِ والعَفَافِ أنْ يكونَ مَحَلَّ طردٍ وبُعدٍ واستهزاءٍ! ولكنَّه مَنطِقُ البَغيِّ والظُّلمِ والكِبرِ والعُدوانِ الذي أرداهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ.
لقد قالها شُعيبٌ -عليه السلامُ-: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
فاللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا، وأصلح شأننا كلَّه، وأعذنا من مضلات الفتن.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين يا ربَّ العالمين.
اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين, اللهم إنَّا نسألك أمنًا وعافية, وصحة وسلامة, وسعة رزقٍ وكرامة...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم