خطر الشحناء والقطيعة

عبدالله بن عياش هاشم

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أهمية الاجتماع والاتحاد 2/إثارة الشيطان للشحناء والبغضاء بين المسلمين 3/مفاسد الشحناء والقطيعة في الدنيا والآخرة 4/فضل العفو والمسامحة

اقتباس

إن الخصومة والفرقة والهجران سببٌ لإيغار الصدور، وطريقٌ للحِقد والغِلِّ في القلوب، وبريد البغضاء والشحناء في النفوس. ويحرَم -المسكين وهو لا يشعر- من أجور أعماله الصالحة، فلا تعرض على الله ما دام هاجر لخصمه المسلم مقاطعا له، ولا تغفر ذنوبه إن كان مستحقاً للمغفرة، فقد...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

فأوصيكم ونفسي الخطَّاءَة بتقوى الله -عز وجل-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].

 

فإن الله -تعالى- يدعوكم للاجتماع والاتحاد، ويستحِثُّكم على التآخي والتآلف، ويأمرُكُم بصفاء القلوب ونقاء السرائر، ويحثكم على بذر المحبة في القلوب، واجتثاث أسباب الضغينة والغِّل والبغضاء من القلوب.

 

لذلك امتنَّ الله على نبيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- بأن جمع أهله ووحَّدهم به صلى الله عليه وسلم بعد فرقة واختلاف وقتال بينهم دامَ سنين، فقال: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 63].

 

أيها المسلمون: إن العدو يعلم أنَّ قوة المسلمين باتحادهم، وتجمعهم على طاعة ربهم، ولذا يسعى للتفريق بين المسلمين بكل السبل، ومن أهمها: إثارة أسباب الضغينة والبغضاء والفرقة بينهم؛ أخرج مسلم في صحيحه من حديث عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" أي: بالخصومات والشحناء والقطيعة والحروب والفتن.

 

فإذا دبَّ الخلاف بين المسلمين، ودبَّ التنازع بين الأهل والأحبَّة، ولم يَتَداركوا الأمر بالعفو والتسامح، والإصلاح والتوافق، تفاقم الأمر إلى خصومة وفرقة، وعندها يستغل العدو هذه الخصومات، وينمي هذا الافتراق: "فَإنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنَ الغَنَمِ القَاصِيَة"[من حديث رواه أبوداود، صحيح أبوداود:556، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم"].

 

وينفرد العدو بكل فئة، فيبذر أسباب العداوة بينهم، ويحسن لهم القطيعة والهجران.

 

ويغفل العبد المسكين أن للهجر والخصومات آثاراً وخيمة في الحياة وبعد الممات؛ في الصحيحين من حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لاَ يَحِل لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هذَا، وَيُعْرِضُ هذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ".

 

وإذا كان المتهاجران من ذوي الرَّحم كالإخوة والأقارب، فإن الإثم يتضاعف؛ لأنه يجمع بين إثم القطيعة والهجران لأخيه المسلم، وإثم قطيعة الرَّحم، وفي الصحيحين عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الجَنَةَ قَاطِعٌ".

 

يعني الهاجر المقاطع لذوي رحمه -نسأل الله السلامة والعافية-.

 

فانظر -يا عبدالله-: كيف يزيِّن الشيطان في نفوس المتخاصمين: أنه هو على الحق، وأن الآخر هو المخطئ، وأنه من الضَّعف والصَّغار أن يتنازَل عن حقِّه، وأنَّ في العَفوِ والتسامحِ ذِلَّةً وخذلان، يجرِّئ عليه من دونه؛ حتي يقع -المسكين وهو لا يدري- في إثم التنازع، وإثم الخصومة، وإثم اغتياب الخصم، وإثم بغض أخيه المسلم، وإثم القطيعة.

 

إن الخصومة والفرقة والهجران سببٌ لإيغار الصدور، وطريقٌ للحِقد والغِلِّ في القلوب، وبريد البغضاء والشحناء في النفوس.

 

ويحرَم -المسكين وهو لا يشعر- من أجور أعماله الصالحة، فلا تعرض على الله ما دام هاجر لخصمه المسلم مقاطعا له، ولا تغفر ذنوبه إن كان مستحقاً للمغفرة، فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا".

 

وفي رواية له قال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

 

فيا عبدالله: لا تحرم نفسك الخير، ولا تفوِّت على نفسك الأجر، وأسرع وبادر ولا تتردد، فإن المغفرة والجنة لا يعادله شيء من حطام الدنيا.

 

سامِحْ أخاك إذا خلَطْ *** منه الإصابةَ بالغلَطْ

وتجافَ عن تعنيفِهِ *** إن جار يوما أو قسط

واعلم بأنك إن طَلَبْ *** تَ مُهذَّباً رُمْتَ الشَّطَطَ

من ذا الذي ما ساء قطّْ؟ *** ومن له الحسنى فقط؟

 

في الصحيحين من حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنه- قَالَتْ: "سَمِعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- صوت صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟" فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ".

 

 

فانظر –أخي-: كيف سارع الرجل -رضي الله عنه- فعَدَل عن يمينه، واستجاب لتذكير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، طاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، واستجابة لداعي الحق.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمد من شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد البشر، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين لهم بإحسان ما طلعت الشمس واختفى القمر.

 

أما بعد:

 

عباد الله: يقول ربنا الرحمن: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء: 53].

 

فعلى كل مسلم: أن يكون هيناً ليناً سمحاً، يرجو من الله الأجر والثواب، يقابل بالعفو والصفح، وإن تعدى الخصم حدود الله فيه؛ فهو يعلم أنَّ الشيطان ينْزَغ بين المؤمنين، فيأبى أن يكون عوناً للشيطان على أخيه؛ لأن الله -تعالى- يدعوه فيقول: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 13].

 

(الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].

 

فأحسِنْ -يا عبد الله- يحببك الله؛ بل ويغفر لك بعفوك، فلن تكون أكرم من الله، وهو القائل: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النــور: 22].

 

وإياك إياك أن يغرك الشيطان! فطهر قلبك من الآن، ونقِّ صدرك في هذا المكان، وكُنْ من أفضل الناس فقد جاء في سنن ابن ماجة وغيره عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو –رضي الله عنهما- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ" قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ".

 

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].

 

 

اللهم نقِ قلوبنا من كل غِلًّ، وحِقْدٍ، وحسَد لإخواننا، وصفِّها يا ربنا من كل بغضاء، وشحناء.

 

 

 

المرفقات

الشحناء والقطيعة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات