خطبة عن الأم

حسام بن عبد العزيز الجبرين

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/ تضحيات الأم وبذلها لأولادها 2/ قصة مؤثرة 3/ وصية الله ببر الوالدين 4/ النهي عن كل فعل أو قول قبيح لهما 5/ وصية زائدة بالأم 6/ بر الوالدين بعد مماتهما

اقتباس

حديثُنا اليومَ عن البطلَة الصامدة، المخلصة المجاهدة، حديثنا عن نبع الحنان والشفقة، ووعاء الرحمة والرأفة، حديثنا اليوم عن أوفى صديق، وأنصح رفيق، حديثنا عمَّن قامتْ لك بدور الممرض والطبيب، والمربِّي والمعلِّم، جنديّةٌ حيث لا جندَ ولا قتال، حارسةٌ ساهرةٌ حيث لا ثغور، مخلِصة في عملها ولا يخلص في البشر مثلها أحد، تجهد بدنها وقلبها ليلاً ونهارًا، وليس لها راتب يصرف آخر الشهر. حديثنا عن التي اهتم الشرع الحنيف بها، وحثَّنا على حسن معاملتها والإخلاص في برِّها، حديثنا عن الأم.

 

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة: 35].

 

عبادَ الله: حديثُنا اليومَ عن البطلَة الصامدة، المخلصة المجاهدة، حديثنا عن نبع الحنان والشفقة، ووعاء الرحمة والرأفة، حديثنا اليوم عن أوفى صديق، وأنصح رفيق، حديثنا عمَّن قامتْ لك بدور الممرض والطبيب، والمربِّي والمعلِّم، جنديّةٌ حيث لا جندَ ولا قتال، حارسةٌ ساهرةٌ حيث لا ثغور، مخلِصة في عملها ولا يخلص في البشر مثلها أحد، تجهد بدنها وقلبها ليلاً ونهارًا، وليس لها راتب يصرف آخر الشهر. حديثنا عن التي اهتم الشرع الحنيف بها، وحثَّنا على حسن معاملتها والإخلاص في برِّها، حديثنا عن الأم.

 

اسمعوا إلى هذا الخبر العجيب الذي حدَث لرجل صالح عابد انقطع للصلاة والتعبُّد، في صحيح مسلم يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابدًا، فاتَّخذ صومعة، فكان فيها، فأتتْه أمُّه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فانصرفتْ، فلما كان من الغد أتتْه وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب: أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: أيْ رب: أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تُمتْه حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكَرَ بنو إسرائيل جريجًا وعبادته، وكانت امرأة بغيٌّ يتمثل بحُسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننَّه لكم، قال: فتعرضتْ له فلم يلتفت إليها، فأتتْ راعيًا كان يأوي إلى صومعته فأمكنتْه من نفسها، فوقع عليها، فحملتْ، فلما ولدتْ، قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدتْ منك، فقال: أين الصبي؟! فجاؤوا به، فقال: دَعوني حتى أصلِّي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلامُ: من أبوك؟! قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جريج يقبِّلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا...". الحديث. لقد أجاب الله دعوة أمِّه، وكان الأولى إجابته أمَّه؛ لأنها من أوجب الواجبات.

 

وقال الإمام النووي: "صلاة النفل والاستمرار فيها تطوعٌ لا واجب، وإجابة الأم وبرُّها واجب، وعقوقها حرام". اهـ.

 

بل وصَّى الله بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا مشركينِ: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) [لقمان: 15]، فما بالك بحقهما عليك وهما مؤمنان؟!

 

وتعالَ -أخي- لنتأمل سريعًا هذه الآيةَ العظيمة التي طالما سمعناها: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23]، فانظر كيف قرن حقهما مع حقه سبحانه، ولم يقرن مع حقه أحدًا سواهما.

 

وأمر بالإحسان إليهما، بكل ما تحمله الكلمة من معاني الإحسان قولاً وفعلاً، ثم خص بعد العموم، فقال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23]، وهذا نهي عن أدنى أذى لفظي، (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) نهي عن أي مضايقة حركية، قال عطاء بن أبي رباح: "لا تنفض يدك عليهما". اهـ.

 

ولما نهى عن القول القبيح والفعل القبيح، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن، فقال: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)، قال ابن كثير: "أي: لينًا طيّبًا حسنًا، بتأدب وتوقير وتعظيم". انتهى كلامه.

 

وأمر الله -سبحانه- بالتواضُع لهما فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء: 24]، وختم الأوامر في الآية بالدعاء لهما: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).

 

أخي المبارك: إن كان باستطاعتك أن ترى أمَّك وتجلس معها كلَّ يوم، فافعل، فإن كنتَ عنها بعيدًا فبالاتصال؛ فإن ذلك من برِّها وإدخال السرور عليها، اعرض عليها قبل أن تطلب منك، اسألها عن حاجاتها وتفقَّدها، ادعُ الله لها، أظهِرِ السرور بطلبها وبقضاء أمرها، أعطِها هدية بين حين وآخر، وأجزل إن كنت موسرًا، علِّمها أمر دينها وما يرفعها عند ربها، قبِّل رأسها عند السلام عليها، اصطحب أولادك لزيارتها، اقضِ حاجة بناتها وأبنائها؛ فإن ذلك يسرُّها، لا تبث همومك عندها، ففيها ما يكفيها، استشرها وأطلعها على بعض شأنك، أظهِر اهتمامك بإخوانك وأخواتك؛ فإن رؤيتها لترابطكم يثلج صدرَها، تحدَّث معها في المواضيع التي تحبها هي، يقول أحد الدعاة: كانت إحدى الأمهات يظهر منها ارتياح أكثر لأحد أبنائها، مع العلم بأنهم كلهم طيبون، فسأله عن سبب ذلك، فقال: لأمي مفتاح لم يستخدمْه بقيةُ إخوتي، فقال: ما هو؟! قال: بسيط جدًّا، أتحدث معها فيما يهمها، فلان تزوج، وفلان رُزق ولدًا، ومرض فلان فزُرتُه، وهكذا، أما بقية إخوتي، فغالبًا يتحدثون عندها في البناء، وفي الأسهم، ونحو ذلك.

 

أخي المبارك: أبواب البِر كثيرة، فاحرص على أن تلجها كلَّها، وافعل ذلك أيضًا مع والدك، واغتنم حياتهما.

 

اللهم وفقنا لبر أمهاتنا وآبائنا، واعف عن تقصيرنا وتفريطنا، نفعنا الله بما علَّمنا، ورزقنا علمًا ينفعنا، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله وسلم على خاتم رسله تسليمًا وفيرًا.

 

أما بعد:

 

فليسَ هناكَ أبلغُ من كتابِ اللهِ -تعالى- وهو يَصِفُ لنا جزءًا من معاناةِ أمهاتِنا حالَ حملِهنَّ بنا وإرضاعِهن لنا، يقولُ -تعالى- في كتابِه الكريمِ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) [الأحقاف: 15]، وفي الآية الأخرى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14]، قال قتادة في معنى (وهنًا على وهن): أي: جهدًا على جهد.

 

ويا من وارى الثرى قرةَ عينيه: ما زال أمامك خيرٌ كثير، فكم من الناس مَن برُّه بوالديه الميتيْن أعظمُ بكثير من بر بعضهم بالأحياء، والله المستعان، أصلحْ حالك وأكثرْ من الدعاء لهما؛ ففي صحيح مسلم مرفوعًا: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولد صالح يدْعو له".

 

تصدَّق عنهما، صِلْ رحمهما وصديقهما، أنفذ عهدهما؛ فعند أحمد وأبي داود أن رجلاً قال: يا رسول الله: هل بقي من بر أبويَّ شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟! قال: "نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما".

 

أخي الفاضل: إنَّ برَّك بوالديك عبادةٌ عظيمة تقرِّبك إلى مولاك، إنها سبب للبركة والتوفيق، إنها سبب لتيسير الأمور، إنها سبب لحفظك وسلامتك، إنها من أعظم أسباب بر ذريتك لك، وعمومًا فهي توفيق في الدنيا والآخرة.

 

ثم صلوا -رحمكم الله- على الهادي البشير.

 

اللهم يا ذا الأسماءِ الحسنى والصفاتِ العلى، اغفرْ لآبائِنا وأمهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيئاتِ عفوًا منكَ وغُفرانًا، اللهم يا حيُّ يا قيومُ، ارزقنا برَّ والدينا أحياءً وأمواتًا، واجعلنا لهم قرةَ أعين، وتوفنا وإياهُم وأنتَ راضٍ عنا غير غضبان، اللهم باركْ لنا في أعمارِنا وأولادِنا وأموالِنا.

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات