مهلا يا جامع الدنيا

الشيخ إبراهيم بن سلطان العريفان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/تهافت الناس على الدنيا 2/الحث على الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة 3/خطر التعلق بالدنيا 4/قصر الحياة الدنيا 5/زهد السلف في الدنيا 6/الدنيا مزرعة الآخرة 7/مظاهر تكالب الناس على الدنيا 8/التزود بالتقوى والاستعداد للموت 9/التفكر في الحشر والمعاد

اقتباس

أخي الحبيب: إن عمر الدنيا -والله- قصير، وأغنى غني فيها فقير، فكن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا. إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنِسُوا بأحبابِهم فاجعل أُنسُك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكِهم وكبرائِهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله!. لقد رأينا -والله- من يملك الدنيا رَحَل بكفن، ورأينا من لا يملك من الدنيا شيئاً رحل بكفن؛ تساوى الجميع عند هذه الحفرة، واختلفوا في داخلها، فإما...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إخوة الإيمان والعقيدة: إننا نرى في هذا الزمان أمرًا عجبًا، نرى تهافت كثير من الناس على الدنيا والفرح بها والجري وراء حطامِها، هل هذا منتهى الآمال! ومبتغى الآجال؟! كأنهم ما خُلقوا إلا للدنيا، ونسوا يومًا يرجعون فيه إلى الله، قال الله -تعالى- في وصف الدنيا: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)[غافر: 39].

 

وها هو الحبيب المصطفى يرتسم على لسانه نظرتَه إلى الدنيا، فقال: "مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا: كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها".

 

ولكثرة مشاغل الدنيا، وأعمال الحياة؛ حثَّ على الاستعداد ليوم الرحيل، والتزود للدار الآخرة، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

عباد الله: إن التعلق بالدنيا الزائفة، والجري خلفها: يصرف العبد عن الطاعة، عن العبادة، كلما ازداد حرصه على الدنيا، ازداد بُعدُه عن الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "اقتربت الساعة، ولا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصًا، ولا يزدادون من الله إلا بُعدًا".

 

الإنسان محب للمال، جامع للذهب والفضة، يجري من مولده حتى موته خلف الدرهم والدينار، ولكن ماذا يبلغ؟! وإلى أين ينتهي؟!

 

أيها الإخوة: الدنيا مُقبلة ومُدبرة، فمن غنىً إلى فقرٍ، ومن فرح إلى ترح، لا تبقى على حال، ولا تستمر على منوال، فهذه سنة الله في خلقه، والناس يَجْرون خلف سراب، سنوات معدودة، وأيام معلومة ثم تنقضي، فلا ينبغي للمؤمن أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا يطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه فيها على جناح سفر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

أيها الناس: إن سهام الموت صُوِّبت إليكم فانظروها، وحِبالةُ الأمل قد نُصِبت بين أيديكم فاحذروها، وفتن الدنيا قد أحاطت بكم من كل جانب فاتقوها، ولا تغتروا بما أنتم فيه من حسن الحال فإنه إلى زوال، ومقيمه إلى ارتحال، وممتده إلى تقلُّص واضمحلال.

 

تمـر بنـا الأيـامُ تتــــرى وإنما  *** نُساقُ إلى الآجال والعينُ تنظر

فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مضى *** ولا زائلٌ هذا المشـيبُ المكــدَّرُ

 

عجبًا لحالِنا: الدنيا مولية عنَّا، والآخرة مقبلة علينا، ونشتغل بالمدبرة، ونعرض عن المقبلة، والناس تتصارع وتتكالب على هذه الدنيا، يفقد البعض دينِه، وينسى الكثير أبناءه، انتشرت الأحقاد، وزُرعت الضغائن، وعمَّت البغضاء.

 

أخي الحبيب: إن عمر الدنيا -والله- قصير، وأغنى غني فيها فقير، فكن من أبناء الآخرة، ولا تكن من أبناء الدنيا.

 

إذا استغنى الناس بالدنيا، فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنِسُوا بأحبابِهم فاجعل أُنسُك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكِهم وكبرائِهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة، فتعرف أنت إلى الله!.

 

لقد رأينا -والله- من يملك الدنيا رَحَل بكفن، ورأينا من لا يملك من الدنيا شيئاً رحل بكفن؛ تساوى الجميع عند هذه الحفرة، واختلفوا في داخلها، فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.

 

عباد الله: انظروا إلى أحوال من سلف؛ يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "والذي نفسي بيده، لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه".

 

الله أكبر! هذا حال من سلف، فكيف حال الخلف؟!

 

عباد الله: يكفي من الدنيا أنها مزرعة الآخرة، وأنها موسم العبادات، وزمن الطاعات، فيها نتزود للآخرة، ونسير مرحلة إلى الآجلة؛ كان من السلف مَن إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه، أي كان لا ينام طول الليل، يصلي ويسبِّح ويستغفر، يستدرك ما مضى من عمره، ويستعدُّ لما أقبل من أيامه.

 

إن لله رجـــالاً فُطَنـَا *** طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتنـا

نظروا فيها فلَّـما عَلِمـوا *** أنَّها ليسـت لـحيٍّ وَطَـنا

جعلوها لُجَّـة واتَّخــذوا *** صالِحَ الأعمالِ فيهـا سُفُنا

 

عباد الله: من استعد للقاء الله، واستثمر أوقاتَه فيما يعود عليه نفعُها في الآخرة، فإنه سيفرح يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم تتطاير الصُحُف، وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) [الحـج: 2].

 

الدنيا دار صِدْق لمن صادقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها.

 

والعجب أن الكثير من الناس يذم الدنيا، وأنها سبب في الطغيان والبعد عن الله!.

 

وما علِموا أنها دار يُتزَوَّدُ منها *** بها الطريق إلى الجنَّة يُبنى

 

ولكن:

 

يعيبُ الناسُ كلُّهم الزَّمانَ *** وما لِزمـانِنا عيبٌ سوانا

نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا *** فلو نطقَ الزمـانُ به رِمَانا

 

الكثير من الناس ينسى سنوات عمره التي مضت، وأيامَه التي انقضت، ولا ينسى شيئًا من أمور الدنيا، كأن العبرة من خلقهم جمع الدنيا، والتفرغ لها.

 

لقد تكالب كثير من الناس على الدنيا، حتى تقطَّعت الأرحام، وتباعد الإخوان، وأصبح حديث الناس عن أموال فلان، وما جمع فلان، بل إن هناك مجالس عامرة بحديث الدنيا وأموالِها، لا يُذكر فيها اسم الله، ولا يتورع فيها عن الغيبة والنميمة، وأكل السحت والحرام، حتى أصبحت حديث المجالس حديث طويل، فهذا لم يرَ أخاه منذ عشر سنوات بسبب حفنةٍ من مال، وذاك لم يردعه دين أو خوف من الله عن أكل موال الأيتام، وآخر همُّه مصروف كيف يحصل على الأرض الفلانية ولو بالكذب والحلف بالزور، حتى تناسى الجميع حفرة ضيِّقة وأهوالاً مقبلة.

 

دعِ الحرصَ على الدنيا *** وفي العيش فلا تطمَع

فلا تجـمع من المـال *** فما تـدري لمَن تجمع

فإن الـرزق مقسـوم  *** وسوءَ الـظنِّ لا ينفع

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

معاشر المؤمنين: الدنيا دار أماني وغرور فاحذروها، فإن أمانيها كاذبة، وإن آمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمةٌ زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبةٌ موجعة، وإما ميتةٌ قاضية.

 

تزود من الدنيـا فإنـك لا تــدري *** إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجـر

فكـم من فتى أضحى وأمسى ضاحكًا *** وقد نُسِجت أكفانُه وهو لا يـدري

وكم من صغارٍ يُرتجى طولَ عمرهم *** وقد أُدخلت أجسـادُهم ظلمة القبر

وكـم من عروس زيَّنوها لزوجـها  *** وقد قُبِضت أرواحهم ليـلة العُرس

 

عجبًا –والله- لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح؟! وعجبًا لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك؟! وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها؟! وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب؟! ونحن في هذه الدنيا ساهون لاهون!.

 

واسمعوا إلى هذا الصوت ينادي، صوت بلال بن سعد وهو يقول: "يا أهل التقى إنكم لم تُخلقوا للفناء، وإنما تُنقلون من دار إلى دار، كما نُقِلتُم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في الجنَّة أو النار".

 

مراحل متتابعة، وأزمنة متتالية، قطعنا منها مراحل عدة، ونحن -والله- في غفلة، وإلا كيف تحلو الحياة بنا، ويطيب العيش لنا، ووراءنا القبور، ثم الوقوف بين يدي الجبار -جل جلاله-، ثم الخلود إلى لجنَّة أو النار، أهوال وأهوال.

 

إخواني: تفكروا ما في الحشر والمعاد، ودعوا طول النوم والرقاد، وتفقدوا أعمالَكم، فالمناقِش ذو انتقام، إن في القيامة لحسرات، وإن عند الميزان لزفرات، فريق في الجنَّة وفريق في السعير، ففريق يرتقون إلى الدرجات، وفريق يهبطون إلى الدركات، وما بينك وبين هذا الأمر إلا أن يُقال: فلان قد مات.

 

لا تأسفْ على الدنيا ومـا فيهــا *** فالموت لا شـك يُفنينا ويُفنيــها

واعمل لدار البقاء رضوانُ خازنُها  *** والجارُ أحمدُ والجبـــَّار بانيها

 

 

 

 

المرفقات

يا جامع الدنيا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات