أعظم المصائب وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

منديل بن محمد آل قناعي الفقيه

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/الموت نهاية كل مخلوق 2/الإكثار من ذكر الموت 3/مصيبة الموت 4/شدة الموت وأهواله 5/إخبار الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقرب أجله 6/تخييره صلى الله عليه وسلم بين البقاء في الدنيا وبين لقاء ربه 7/أمر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم بزيارة شهداء البقيع 8/ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم واشتداده 9/استئذانه صلى الله عليه وسلم زوجاته بمرضه في بيت عائشة -رضي الله عنها- 10/أمره صلى الله عليه وسلم بالتصدق بمال كان في بيته 11/ترحيبه صلى الله عليه وسلم بفاطمة ومسارته لها 12/تفقده صلى الله عليه وسلم لأصحابه 13/تسوكه صلى الله عليه وسلم قبل موته 14/استئذان ملك الموت النبي -صلى الله عليه وسلم- في قبض روحه 15/بعض وصاياه صلى الله عليه وسلم قبل موته 16/موته صلى الله عليه وسلم شهيدا 17/اضطراب الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم 18/وفاته صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي ولد فيه 19/بدعة الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم 20/مفاسد الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم 21/برهان محبته اتباع سنته صلى الله عليه وسلم

اقتباس

أيها المسلمون: الموت كربه أكيد، ونزعه أليم شديد، فهو أشد من نزع الشوك من الصوف المبلول؛ قيل لموسى -عليه السلام-: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب". والموت لا يرحم صغيرا لصغره، ولا كبيرا لكبره، ولا شريفا لشرفه، ولا فقيرا لفقره، ولا غنيا لغناه، بل الكل عنده سواء، وأنى لأحد أن...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -أيها المسلمون-: وتأهبوا للرحيل من هذه الدار إلى دار الحياة والقرار، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنها دار ممر لا دار مقام ومستقر: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27].

 

(كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].

 

إن الموت نهاية كل مخلوق، وله ساعة لا يتقدم عنها ولا يتأخر: (قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ: 30].

 

والإنسان مهما طال به الأمل إلا إن الموت سيفجؤه، وسينزل بساحته، ولو أننا نعلم ما سنلاقي بعد الموت لضحكنا قليلا، ولبكينا كثيرا: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].

 

أيها المسلمون: لقد أمر نبينا –صلى الله عليه وسلم- بالإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له؛ فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" [أحمد والنسائي والترمذي].

 

ومر صلى الله عليه وسلم على قوم يضحكون، فقال: "أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ"[الترمذي].

 

وفي حديث أبي ذر قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟ قَالَ: "كَانَتْ عِبَرًا كُلُّهَا: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هُوَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالنَّارِ، ثُمَّ هُوَ يَضْحَكُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، عَجِبْتُ لِمَنْ رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا، ثُمَّ اطْمَأَنَّ إِلَيْهَا، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غَدًا ثُمَّ لاَ يَعْمَلُ"[ابن حبان].

 

قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "كفى بالموت واعظا، وكفى بالدهر مفرقا، اليوم في الدور، وغدا في القبور".

 

مصيبة الموت عظيمة، وغفلة الناس عنها أعظم؛ منها:

 

كلنا في غفلة والموت يغدو ويروح *** بين عيني كل حي علم الموت يلوح

لبنى الدنيا من المـوت غبوق وصبوح *** سيصير المرء يوما جسدا ما فيه روح

نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح *** لتموتن ولو عمرت ما عمر نوح

 

أيها المسلمون: الموت كربه أكيد، ونزعه أليم شديد، فهو أشد من نزع الشوك من الصوف المبلول؛ قيل لموسى -عليه السلام-: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: "وجدته كسفود أدخل في صوف فاجتذب".

 

ولما احتضر عمرو بن العاص قال له ابنه: "يا أبتاه إنك كنت تقول ليتني ألقى رجلا عاقلا عند نزول الموت، حتى يصف لي ما يجده، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت؟ قال: يا بني والله لكأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قدمي إلى هامتي".

 

والموت لا يرحم صغيرا لصغره، ولا كبيرا لكبره، ولا شريفا لشرفه، ولا فقيرا لفقره، ولا غنيا لغناه، بل الكل عنده سواء، وأنى لأحد أن يهرب: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].

 

حتى ولو اختبأ في البروج المشيدة: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء: 78].

 

ولو نجا منه أحد لنجا سيد الخلق خليل الرحمن، وخير من مشى على ظهر الأرض، بل قال له ربه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 30-32].

 

لقد أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بحضور أجله في طريق عودته من حجة الوداع، حيث نزل عليه قوله تعال: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1-3].

 

ولم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يعرض بقرب أجله، حتى قال في حجة الوداع: "لِعَلِّي لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا".

 

وصار يودع الناس، ولما بدأ به المرض خير بين البقاء في الدنيا ممتعا بزهرتها، وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه، ثم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا..."[البخاري ومسلم].

 

ثم أمر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم: أن يذهب إلى أهل البقيع، ويستغفر لهم، فقال لمولاه: "يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ فَانْطَلِقْ مَعِي، فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، قَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ، مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتِ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأُولَى، قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ، وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي -عز وجل- وَالْجَنَّةِ قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي، فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا، وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدِ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي، وَالْجَنَّةَ ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لأَهْلِ الْبَقِيعِ"[المسند وقال الحاكم على شرط مسلم].

 

ثم رجع إلى بيته، وابتدأ به المرض بصداع في أواخر شهر صفر؛ فعنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَجَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْبَقِيعِ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: وَارَأْسَاهُ! فَقَالَ: "بَلْ أَنَا يَا عَائِشَةُ وَارَأْسَاهُ!" ثُمَّ قَالَ: "مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ"[المسند وابن ماجة].

 

واشتد به المرض، وعانى من شدته، فكان يجد من شدة الحمى شيئا كثيرا، فقيل له: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلاَنِ مِنْكُمْ"[الصحيحين].

 

بل كان يغمى عليه مرارا من شدة المرض، وأخذ المرض يشتد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى قالت عائشة: "ما أَغْبِطُ أَحَدًا بِهَوْنِ مَوْتٍ بَعْدَ الَّذِى رَأَيْتُ مِنْ شِدَّةِ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، واشتد به المرض، حتى عجز عن الصلاة بالناس، وقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس".

 

ومع ذلك فما زال يقسم بين نسائه، وكانوا يحملونه كل يوم إلى بيت واحدة من نسائه، وكان يقول:
"أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟".

 

وكان يحب أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذنت له زوجاته أن يمرض في بيتها، تقول عَائِشَةُ: "أَمَرَنِي نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَتَصَدَّقَ بِذَهَبٍ كَانَتْ عِنْدَنَا فِي مَرَضِهِ، قَالَتْ: فَأَفَاقَ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتِ؟ قَالَتْ: لَقَدْ شَغَلَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْكَ، قَالَ: فَهَلُمِّيهَا: فَجَاءَتْ بِهَا إِلَيْهِ سَبْعَةَ، أَوْ تِسْعَةَ دَنَانِيرَ، فَقَالَ حِينَ جَاءَتْ بِهَا: مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ أَنْ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ -عز وجل- وَهَذِهِ عِنْدَهُ، وَمَا تُبْقِي هَذِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ -عز وجل- وَهَذِهِ عِنْدَهُ".

 

ثم أمر بالتصدق بها.

 

فكيف بحال من لقي الله وعنده أموال الناس ودماؤهم وأعراضهم؟!

 

فما أعظمها من مصيبة؟! وما أخسرها من صفقة لمن لقي الله وعنده حقوق الناس وأموالهم؟!

 

دخلت عليه ابنته فاطمة، فَقَالَ: "مَرْحَبًا بِابْنَتِى" فَأَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ فَاطِمَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّهَا فَضَحِكَتْ أَيْضًا، فَقُلْتُ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَقُلْتُ لَهَا حِينَ بَكَتْ أَخَصَّكِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِحَدِيثِهِ دُونَنَا ثُمَّ تَبْكِينَ؟ وَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لأُفْشِىَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، حَتَّى إِذَا قُبِضَ سَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ كَانَ حَدَّثَنِي: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُهُ بِالْقُرْآنِ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَهُ بِهِ فِي الْعَامِ مَرَّتَيْنِ، وَلاَ أُرَانِي إِلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِى، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ".

 

فَبَكَيْتُ لِذَلِكِ ثُمَّ إِنَّهُ سَارَّنِي، فَقَالَ: "أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ سَيِّدَةَ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ" فَضَحِكْتُ لِذَلِكِ"[مسلم].

 

ولما اشتد به الوجع جعل يدخل يده في الماء، ويمسح وجهه، ويقول: "اللهم أعني على سكرات الموت".

 

وكان يقول: "لا إله إلا الله إن للموت لسكرات".

 

ولما زاد مرضه، واشتد كربه، ووَجَدَ مِنْ كُرَبِ الْمَوْتِ مَا وَجَدَ، قَالَتْ فَاطِمَةُ: "وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ!".

 

واجتمع أصحابه في المسجد، وتركوا منازلهم، ومشاغلهم ينتظرون شفاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

 

وفي يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول أشرف على أصحابه، وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا، وَهْوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، وكادوا يفتتنون به، وتركوا صلاتهم، فرحا برؤيته صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى فراشه، وظن أصحابه أنه قد برء، فذهبوا إلى منازلهم ومشاغلهم.

 

وفي ضحى ذلك اليوم، دخل عليه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن أبي بكر، وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ، فجعل رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْت عائشة: أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُاللتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُه، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، وَقُالْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ: أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُه فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ، فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ، يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: "فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" حَتَّى قُبِضَ، وَمَالَتْ يَدُهُ.

 

في ساعة قبض روحه نزلت الملائكة للعروج بروحه، فتقدم جبريل، فاستأذن فسأل عنه؛ ثم قال جبريل: "هذا ملك الموت؛ يستأذن عليك، ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ائذن له".

 

فأذن له، فسلم عليه، ثم قال: "يا محمد! إن الله -عز وجل- أرسلني إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضته، وإن أمرتني أن أتركه تركته".

 

قال: "أو تفعل يا ملك الموت؟!" قال: "نعم بذلك أمرت، وأمرت أن أطيعك!" قال: فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل -عليه السلام-، فقال جبريل: "يا محمد! إن الله -عز وجل- اشتاق إلى لقائك".

 

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لملك الموت: امض لما أمرت به.

 

فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا آخِرُ وَطْأَتِي الأَرْضَ، إِنَّمَا كَانَتْ حَاجَتِي فِي الدُّنْيَا ثم رفع رسول الله رأسه إلى السماء، وكان في حضن عائشة، وقال: "اللهم الرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى".

 

وعندها قالت عائشة: "فعلمت أنه لا يختارنا، فقبض ملك الموت روحه، ثم مال رأسه، ومات عليه الصلاة والسلام".

 

فقالت فاطمة: قَالَتْ يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ! يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ! يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ!.

 

فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ -عليها السلام-: يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- التُّرَابَ!.

 

أيها المسلمون: يا لها من مصيبة تهون عندها كل مصيبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ".

 

فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].

 

اللهم آجرنا في مصيبتنا بفقد نبينا، واجبر كسرنا بفقد رسولنا، واجمعنا به في دار كرامتك يا أرحم الراحمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

لقد كان من آخر ما وصى به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في غمرات الموت: أن قال كما ورد عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: "كَانَ مِنْ آخِرِ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، حَتَّى جَعَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُلَجْلِجُهَا فِي صَدْرِهِ، وَمَا يَفِيصُ بِهَا لِسَانُهُ"[المسند].

 

قال هذا الكلام وهو لم ير الصلاة قد ضيعها الناس، وتهاونوا بها، بل تركها الكثير منهم.

 

وكان يقول في مرضه: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".

 

وكان يقول: "... أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"[مسلم].

 

قال ذلك وهو لم ير القبور قد عظمت، فكيف لو رأى ما أحدثه الغلاة الجهلة في قبور الأولياء والصالحين وغيرهم من الذبح لهم، وسؤالهم من دون الله، وطلب الغوث والمدد منهم، مما تقشعر له الجلود، ويتنافى مع شرع الله -تعالى-، وهدي رسوله الذي حذر من ذلك؟!.

 

وكان يقول في مرضه: "ما زالت أكلة خيبر تعادني، حتى هذا أوان قطعت أبهري".

 

وأراد بأكلة خيبر تلك الشاة التي سمتها اليهودية، ثم أهدتها له، ولهذا كان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "إن رسول الله مات شهيدا".

 

أيها المسلمون: لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسموما بيد اليهود قتلة الأنبياء، وأصحاب الغدر والخيانة، والذين لا يرون لنبي حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فجعل الله موته بأيديهم القذرة، لينال النبي شرف الشهادة، ولتبقى عداوتنا لهم مستمرة -فقبح الله كل من ظن أن اليهود أصحاب سلام وأهل مودة ووئام-.

 

أيها المسلمون: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اضطربت المدينة، ودهش أهلها، وهم لا يكادون يصدقون الخبر، فلم ير في المدينة أكثر باكيا من ذلك اليوم الذي مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمن الصحابة من أقعد ولم يستطع القيام، ومنهم من خولط عقله، ولم يدر ما يقول، ومنهم من اعتقل لسانه، ولم يستطع أن ينطق بكلمة، ومنهم من أنكر موته كعمر، فقد أخذ سيفه وأخذ يصول ويجول في المسجد، ويقول: "من زعم أن محمدا قد مات ضربته بسيفي، إنما هي غشية كغشية موسى وسيعود ليقتل المنافقين".

 

حتى جاء أبو بكر -رضي الله عنه- من العوالي بعد أن سمع الخبر، ورأى عمر يهدر في المسجد كالجمل، فدخل على رسول الله فكشف عن وجهه فقبله وبكى، وقال: واصفياه وانبياه واخليلاه! إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أطيبك حيا وميتا! والله لا يجمع الله عليك موتتين! أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها!.

 

ثم دخل المسجد والناس مجتمعون فيه، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: قول الله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].

 

فجثا عمر على ركبتيه، وقال: أهذه آية في كتاب الله يا أبا بكر؟! وأنه لم يسمعها من قبل من شدة الهول الموقف، وعرف عندها أن محمدا -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها المسلمون: لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وهو اليوم الذي ولد فيه، فإلى الذين يحتفلون بمولده: لقد مات رسول الله في اليوم الذي ولد فيه، ومصيبتنا بفقده أعظم عندنا من الفرح بولادته، فلماذا لا يتذكروا موته؟ ولماذا لا يتذكرونه إلا يوما في السنة؟ أهذا هو غاية حقه على أمته؟ وهل فعل الاحتفال بالمولد صحابته؟ وهل فعله الأئمة الأربعة؟

 

والجواب: كلا، والله، بل فعله العبيديون وهو بدعة ضلالة ورسولنا، يقول: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهْوَ رَدٌّ".

 

والاحتفال بالمولد فيه تشبه بالنصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح، وقد نهينا عن التشبه بهم.

 

أيها المسلمون: لئن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن سنته لم تمت، والكتاب الذي نزل عليه لم يغير ولم يبدل، فإن كنا صادقين في حبه، فلنعد إليهما، ولنتمسك بهما، حتى نسعد في الدنيا، ونحشر في زمرته، وتحت لوائه يوم القيامة.

 

صلوا وسلموا على رسول الله، فبذلك أمركم الله...

 

 

 

 

المرفقات

المصائب وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات