عناصر الخطبة
1/ العلم هو سلاح هذا الزمن 2/ مجادلة ابن عباس -رضي الله عنه- للخوارج 3/ من مناقب ابن عباس 4/ طلبه للعلم 5/ قدوة عظيمة للشباب 6/ دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له 7/ امتيازات حازها ابن عباساقتباس
كان هذا الشاب الصغير بدعاً من البدع، يأخذ ما يشاءُ من العجيباتِ ويدع، من يكون هذا الشاب الألمعي!! من يكون هذا اللوذعي الذي أصابته دعوة رسول الله، فكان عالم الأمة كلِّها وقدوتَها، من يكون هذا الشاب الصغير؟! واستمر الحوار بينه وبين والخوارج على هذا النسق الباهر، وما كاد ينتهي مجلسه حتى نهض منهم عشرون ألف مقاتل، كلهم يعلنون قناعتهم، وبراءتهم من فكرة الخارجية، ومن خُصومة علي -رضي الله تعالى عنه-.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، كل حمد فإليه، نهتدي منه إليه، كل خير نرتجيه أبد الدهر لديه.
يا أكرم المعطين جودك أجزل *** يا منزل الفـرقان ذكرك أكمل
تالله لو أن السمـاء صحيفةٌ *** والدوحَ أقـلامٌ تسِـح وتهـمُل
ومدادهـا تلك المحيطات التي *** هي من جلالك يا إلهي توجـل
لتخطَّ فيك الحمد ما بلغت به *** عشر العشير فمدح ذاتك أطول
نرجـوك بالاسم العظيم وإننا *** عبـادُك الفقـرا ببابك نسأل
أفرغ علينا الصبر وارحم حالنا *** واغفر خطايانا وأنـت مؤمل
وأزل بفضلك يا كريمُ همومنا *** أنت الذي حقاً تقول وتفـعل
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله، قد تمم الله به مكارم الأخلاق، حتى غدا بنوره الإظلامُ في إشراق، وفي هداه أصبح الشتاتُ في تلاق، صلى الله وسلم عليه وصلى الله على آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
لكل زمن سلاح، وسلاح هذا الزمن العلمُ النافع، قديمًا كانت الحروب العسكرية وجهًا لوجه، ثم ينتصر فيها أثبتُهم في اللقاء، وأصبرُهم في البقاء، أما في هذا الزمن، فلغة الحرب معقدة، والأسلحة ما عادت حربة تقذف، أو سيفًا سمهريًا، أو رمحًا ردينيًا. ولم يكن الشجاعُ عنترة الفوارس إن مشى تهتز من صولاته الشجعان
كل الأسلحة تغيرت، إلا سلاحَ العلم، فالأقوى حجة هو المنتصر في ميادينه، قديمًا وحديثًا.
إن حد العلم أقطع في الضرب *** من السيف حين يفري الرؤوسَ
أوفر الأمم علمًا، أبقاها على الأرض، وحضارة تستهين بالعلم لا تستحق البقاء!
والعلم أبقى من الأسياف مضربُه *** السيف مصطنع والعلم صناع
قدوتنا في هذا المقام، لم يشتهر بكبير صولة، ولا كر أو جولة، ولكنه اشتهر بجحافل علمه، إذا سيرها لعصيِّ الأفكار، أقام فيها فتوحاتِه، ويا لها من فتوحات، فقد كشف الله به غُممًا ما كان لها أن تنكشف إلا بالعلم، فهو حلاَّل كلِّ صعيبة.
والمعضلات إذا أتته يحلُّها *** بقواطع كقواطع القرضاب
روي أن صاحبنا هذا أرسله علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذات يوم إلى طائفة من الخوارج، فدار بينه وبينهم حوار طويل، ساق فيه الحجة بسياق يأخذ بالألباب، فقد سألهم -رضي الله عنه-: "ماذا تنقمون من علي بن أبي طالب؟!". فقالت الخوارج: "نَنْقِم منه ثلاثًا: أولاهُن أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ)، قال لهم: والثانية؟! قالوا: ننقم من علي أنه قاتل طائفة من المسلمين فيهم عائشة -رضي الله تعالى عنها-، ثم لم يأخذ من مقاتليه سَبْيًا ولا غنائم، فإن كانوا كفارًا فقد حلّت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد حُرِّمَت عليه دماؤهم. قال لهم: والثالثة؟! قالوا: أن عليًا رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين استجابةً لأعدائه، فإن لم يكن أميرًا المؤمنين فهو أمير الكافرين إذًا".
فأخذ قدوتنا -رضي الله تعالى عنه- يُفَنّد أهواءهم، فقال: "أمّا قولكم: إنه حَكّم الرجال في دين الله، فأي بأس في هذا! إن الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم)، فَنَبِّئوني بالله: أتحكيم الرجال في حَقْن دماء المسلمين أحق وأوْلى؟! أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم؟!
وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسْبِ ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمَّ المؤمنين سَبْيًا له ويأخذ أسلابَها غنائم!
وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله -صلى الله صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية؛ إذ ظل رسول الله يُملي كتاب الصلح بينه وبين قريش، فقال -عليه الصلاة والسلام- للكاتب: اكتب: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صَدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "والله إني لرسول الله وإن كَذَّبْتُم". ثم قال لكاتب الصحيفة: "اكتب ما يشاؤون، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله".
واستمر الحوار بينه وبين والخوارج على هذا النسق الباهر، وما كاد ينتهي مجلسه حتى نهض منهم عشرون ألف مقاتل، كلهم يعلنون قناعتهم، وبراءتهم من فكرة الخارجية، ومن خُصومة علي -رضي الله تعالى عنه-.
لو سار ألف مدجج في حاجة *** لم يقضها إلا فطين عالم
من يكون هذا الشاب الكريم ابن الكريم!!
هو عين المسوَّد الجحجاحِ *** صاحب العلم وهو خدن السماح
كل العلماء عالةٌ على قدوتنا في هذا المقام، يأتون في ميزان وحدهم، ويركب الميزان وحده، فتعلوا بهم كفته!!
كان أمةً وحده، كان خزانة علم وحده، كان معرِضَ كتاب وحده!! كان علمُه أصدق إنباءً من القُضُب، في حده الحد بين الجد واللعب، حقٌ على أمة محمد بن عبد الله أن يُصدَّر لها ذاك العالِم الخِضْرِم الفياحُ، فرات ابن الفرات.
من إذا قال أسمع الناس درًا *** تحتسيه أسماعُهم والعيونُ
هذا الشاب الألمعي خطف الأنظار باكرًا،لم يدع للناس أن تلويَ أعناقَها لغيره، كان عيبُ هذا الرجل الوحيد أنه استوى على عرش العلم وحده، ولم يُفسح لغيره أن يكون ثاني اثنين معه!!
من يكون هذا الشاب الصغير الذي توفي رسول الله ولما يزل في الثالثة عشرة من عمره، ثم اكتسب الأمجاد من أقطارها وديارها!!
من يكون هذا الشاب الصغير الذي توفي رسول الله وهو يحمل معه هذا العمر القليل، لكنه ظل يسمع الأجيال كلَّها أخبار نبيه -عليه الصلاة والسلام-!!
ومن يكون هذا الشاب الصغير الذي روى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرابة ألفيْ حديث!! وهو الذي توفي رسول الله ولما يبلغ هذا الشاب الحلم! رواها وهو يقول للناس:
ليس بالجسم ساد كل عظيم *** بل بقلب كأنه الطود ينهدَّ
كان هذا الشاب الصغير بدعاً من البدع، يأخذ ما يشاءُ من العجيباتِ ويدع، من يكون هذا الشاب الألمعي!! من يكون هذا اللوذعي الذي أصابته دعوة رسول الله، فكان عالم الأمة كلِّها وقدوتَها، من يكون هذا الشاب الصغير؟!
هو حْبر بحْر ورحْب وربح *** كيف قلبتُها إليه تؤول
مجلس واحد من مجالس هذا الشاب هي خير من غثائيات كل زمن أتى بعده!!
حدّث أحد التابعين عنه فقال: "يجلس هذا الشاب في مجلس واحد، لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها بها الفخر".
شهدت له كل الثغورِ نواطقًا *** حتى ثغورِ الحاسدين شهودُ
نحن في مجلس واحد من مجالسه، مرحبًا بابن عباس، مرحبًا بالغلام السني، مرحبًا بالرجل العبقري، مرحبًا بابن عباس ملهم الشباب في الرعيل الأول، وفي كل الحقب.
كل الرجال أحاديثٌ بلا سند *** إلا حديثك عنا يا ابن عباس
حديثنا عن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى *** نورًا ومن فلق الصباح عمودًا
سيكون كلُّ حديثنا بين يدي هذا المقام عن السر الذي جعل ابنَ عباس يتحفز للصدارة العلمية والعملية وهو في هذا السن المبكر!!
وأيم الله لو أنا أقنعنا شبابنا الصغار أنهم رجال بعقولهم وأفهامهم، لأخرجنا ألف ابن عباس وابن عباس! كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أولَ أمر فعله أن أقنع نفسه أنه ليس صغيرًا على طلب العلم، فالمعالي لا تعترف بالأعمار.
طلبَ العلم بين يدي رسول الله، ولمّا يبلغ الحلم، لكنه قد بلغ الرشد، كان حريصًا على الطلب، كان ينتظر أية فرصة للاقتراب من رسول الله والأخذ عنه.
كان -رضي الله تعالى عنه- يحب أن يكون رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ليقول له رسول الله: "يا غلام"، فيقول: لبيك يا رسول الله، فيقول له رسول الله: "إني أعملك كلمات". فيحفظها ابن عباس ما يخرم منها حرفًا واحدًا.
كان في الحادية عشرة من عمره وهو يتلقف هذه الكلماتِ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيحفظها حفظ النابغين.
ترى الرجل الصغير فتزدريه *** وفي أثوابه رجل عظيم
كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يحب أن يقعِّد للناس قاعدة جليلة نافعة في هذا الباب، كان يريد أن يقول لكل الشباب: لا وقت للمراهقة، لا وقت لتفريغ الصِّبا باللعب واللهو.
كان ابن عباس يرسل رسائله العظيمة للشباب قائلاً لهم:
إن الكبير هو الكبير بعقله *** ليس الكبير بعمره وعظامه
أستغفر الله لي ولكم ولابن عباس ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اثنان منهومان: طالب علم وطالب مال، أما العلم فهو أغلى من الأموال منزلة، لأنه حافظ والمال محفوظ.
كان ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يتدثر بنسب جليل، وحسب عظيم، كانت كل الفرص التجارية وعمليات ضخ الأموال بين يديه لو أرادها، كان قادرًا أن يجعل من نسبه وقربه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبلاً يجمع به أشتات المناصب والرئاسات، لكنه اختار رئاسة الأبقى على الأفنى، كان -رضي الله تعالى عنه- لم يعرف لجشع الدنيا سبيلاً؛ لأنه رضي لنفسه أن يكون جَشِعاً في سبيل العلم.
جشِعٌ بجمع العلم من ينبوعه *** إن كانت الشبان تجْشع باللُّها
كان ابن عباس عالمَ الأمة ومفتيها، وحبرَها، وبحَرها؛ قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان ابن عباس -رضي الله عنه- قد فات الناس بخصال: "بعلمِ ما سبقه، وفقهٍ فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت أحدًا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، ولا بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه، وما رأيت أحدًا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربيةٍ ولا بتفسير قرآن منه، ولا بحساب ولا بفريضة منه، وما رأيت رجلاً أثقب رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان يجلس يومًا ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا لا يذكر فيه إلا التأويل، ويومًا لا يذكر ففيه إلا المغازي، ويومًا للشعر، ويومًا لأيام العرب، ولا رأيت عالمًا قَطُّ جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علمًا".
حاز المكارم من يد حصادة *** لم يقتطعها كابرًا عن كابر
ابن عباس: نبراس المحاريب اللامعة:
من تلظي لموعه كاد يعمى *** كاد من شهرة اسمه لا يسمى
جاء من نفسه إليها وحيدًا *** راميًا أصـله غبـارًا ورسمًا
حـاملاً عمره بكفيه رمحًا *** ناقشًا نهجه على القلب وسمًا
خالعًا ذاتـه لريح الفيافي *** مُلحقًا بالردى وبالعجز وصمًا
عبد الله بن عباس، حبر الأمة كلِّها، حبر الجنة والناس، حبر اليراعة والقرطاس.
عبد الله بن عباس، كان أعظم شرف ناله، هو دعاء رسول الهدى -عليه الصلاة والسلام- له، كانت دعوات رسول الله ملهمة لهذا الفتى المغامر، فقد غامر في كل شرف مروم، كانت دعوات رسول الله تقول له: أبشر بأيام خيرٍ لك من طليعة شمس النهار.
أيها الفتى الذي تعبت منه *** الأماجد يوم السبق والقصب
طار ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- بدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دعا له قائلاً: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
فأمسك بيديه زمامهما، وحاله:
وأنت الذي قدمتني لنزالهم *** فأغمدت سيفي في غماد المفاصل
كان عبدُ الله بن عباس مجمع البحرين في العلم، وملتقى أشتات الأدب والعقل والفهم جميعها، عبد الله بن عباس، كان من صغره وهو يلبس إهابَ الرجال وجلودَهم.
لا جرم؛ فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- لا يجل أحدًا من الصحابة كبيرِهم وصغيرهم في مشورته كابنِ عباس، كان يرى في عبد الله بن عباس النبوغَ الإعجازي، إلى حدٍّ جعل عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يدخل ابن عباس في مجالسه السياسية والفكرية والاجتماعية والأممية، ويستنير برأيه ولما يبلغ ابنُ عباس السادسة عشرة من عمره.
صغير ولكن كبير الفعال *** وكم من كبير خبا في الصغر
عابوه فقالوا: صغير صغير، وكأن ابن عباس يرد عليهم:
إذا محاسني اللاتي أدل بها *** كانت ذنوبًا فقل لي كيف أعتذر
لم يصبر بقية أكابر المستشارين على هذا الموقف من وجود ابن عباس في مجالسهم، فقالوا لعمر بن الخطاب: "يا ابن الخطاب: لم تدخل معنا هذا الغلام؟! إن في أبنائنا من في مثله سنًا وعمرًا".
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداء له وخصوم
لا ضير يا ابن عباس:
إن العرانين تلقاها محسدة *** ولا ترى للئام الناس حسادًا
فكان هذا الجوابُ من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- وسام شرف تطوقه ابن عباس أبد الآبدين، قال عمر لكل المعارضين: "ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول وقلب عقول". إنه نور ابن عباس.
ما هذا النور الذي نراه في ابن عباس وفي سيرته!! فلم نستطع غض أبصارنا عنه، بأي شيءٍ نال ذلك ابن عباس!!
وما نال ما نال إلا بعلم *** سما فيه فوق السماء العلية
كان ابن عباس لا يعرف المستحيل على أنه مستحيل، بل على أنه ضرب من الإلهام الحبيب، واللهو المحمود.
كان ابن عباس لا يرى غضاضة -وهو ابن عم رسول الله ومن نِجَار أطيب بيت في بني هاشم- أن يجلس على عتبات الصحابة، يأخذُ منهم رواية الحديث عن رسول الله؛ إذ لا ينال العلم مستكبر، ولا يرى غضاضة أن تلفحه حرُّ الظهيرة ورمضاءُ الهواجر في سبيل العلم.
عبد الله بن عباس، لو لم نأخذ إلا هذا الموقف من سيرته لكفانا وقوفًا على هذه العظات والعبر في سيرته الزكية الذكية.
روي بسند قوي أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- قال: "لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكنت إذ ذاك صغيرًا، فقُلْتُ لِصاحب لي مِنَ الْأَنْصَارِ: قم بنا فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونأخذ منهم العلم، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فَقَالَ الأنصاري لي: وَاعَجَبًا لَكَ -يَا ابْنَ عَبَّاسٍ- أَتَرَى النَّاسَ يفتقرون إِلَيْكَ وَفي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ فَيهِمْ!! قَالَ: فَتَرَكْتُ الأنصاريَّ وكلامه لي، فَأَقْبَلْتُ أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ عَنِ حديث رسول الله، فَوالله إنه لَيَبْلُغُنِي عَنِ الرَّجُلِ فَآتيه وَهُوَ قَائِلٌ -أي نائم وقت القيلولة-، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي علي الرِّيحُ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا جَاءَ بِكَ هاهنا؟! هلاَّ أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ؟! فَأَقُولُ: بل أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيكَ فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ، ثم قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-: فَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي يَسْأَلُونِني، فَقَالَ الأنصاري: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي".
حدّث عنه أحد أصحابه ومعاصريه فقال: "لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا، لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر.. رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب، فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءًا، فتوضأ وجلس وقال: اخرج إليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله، فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزاد. ثم قال لهم: إخوانكم. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم. ثم قال لي: اخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام. فخرجت فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم.. ثم قال: إخوانكم. فخرجوا. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم. ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن العربية، والشعر. فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤوا البيت، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم".
حاز المكارم من يد حصَّادة *** لم يقتطعها كابرًا عن كابر
يمتاز هذا الجبل الأطم، بكل امتياز بديع، إليكم بعضَ قطوفِ امتيازاته:
إن صغر ابن عباس -رضي الله عنه- لم يمنعه من التفقه والتعلم في وقت باكر، ولا شد العزيمة وقت الصغر، فهو يوقن -رضي الله عنه- أن قيمة كل امرئ ما يحسنه، لا بما يجمع من أعمار.
الامتياز الثاني: يمتاز ابن عباس أنه لا يعرف لاحتقار النفس طريقًا، فهو واثق من نفسه وقدراتِه وامتيازاته حتى ولو كان صغيرًا، فسخّرها في سبيل الله، كان يستطيع الاعتذار لنفسه والتحجج بعمره وصغر سنه، ولن يلومَه أحد على ذلك، لكنه كان يقول لنفسه:
تريدين لقيان المعالي رخيصةً *** ولا بد دون الشهد من إبر النحل
إن الهمة العلية ليس لها حد، وقد رسم ابن عباسٍ هذه النظرية من حياة رسول الله إلى مماته، وكأنه يقول لنفسه:
ولم أر في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام
الامتياز الثالث: يمتاز هذا المغامر الصغير، أن أذنه لا تتلقى التثبيط والتيئيس والإرجاف من أي أحد، ولو كان امرؤ سوى ابنِ عباس لوجدت هذه الموهبة قد ماتت في مهدها، ولوجدت ذلك الأنصاري، قد حفر من عزم ابن عباس حفرًا وأخاديد عميقة.
وكأن ابن عباس يقول لذاك الأنصاري:
قد قلتَ حقاً ولكن لستُ أسمعه
يرسل ابنُ عباس رسالة لطيفة إلى كل الأجيال: أن تعرفوا على مواهبكم، ثم سارعوا لتغذيتها، وإنمائها، ولا تجعلوا أحدًا يحول بينكم وبين أمنياتكم بالسخرية الزائفة، والهزء القاتل، فكم من موهبة تكسرت على أعتاب تثبيط!!
الامتياز الرابع: كان ابن عباس يسابق كل لحظة في سبيل العلم وتحصيل النافع منه، لم يكن مشغولاً بتسريحة شعره، أو بتدليك أعضائه، أو بالنظر في معاطفه، ولم يكن مشغولاً -رضي الله عنه- بغسيل أرجل دابته، وتلميع ظهرها، ومفاخرة الأقران بنسبها وأصالتها.
كان -رضي الله عنه- يعلم أن حد الوقت أمضى من حد السيف، وأن الترهات هي جزء من الفواحش الظاهرة في حياة الإنسان.
الامتياز الخامس: سئل ابن عباس يومًا: أنّى أصبت هذا العلم؟! فأجاب: "بلسان سؤول، وقلب عقول".
ذرب اللسان، حديدُ العين، سآَّلُ
بهذه الثلاثة نال ابن عباس الإطلاق اللقبي الكبير: حبرَ الأمة. بلسان متسائل، وعقل فاحص، وتواضع عظيم، صار الفتى ابنُ عباس: حبر الأمة.
يقول ابن عباس عن نفسه: "إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
ألمعيٌّ لهُ بديهة سؤلٍ *** تطلب الأمر منْ وراء الغمام
يصف سعدُ بن أبي وقاص ابنَ عباس -رضي الله تعالى عنه- فيقول: "ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا أكبر لبًّا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله".
"وكان عمر إذا أعضلت عليه قضية دعا ابن عباس وقال له: أنت لها ولأمثالها، ثم يأخذ بقوله ولا يدعو لذلك أحدًا سواه".
وقف الكون يحييه على تلعة الأفلاك
يهديه سلامًا
يستذيب الشوق عطرًا زاكيًا
وجمالاً من سنا الدهر تهامى
وفي لسان ابن عباس السؤول رسالة جلى إلى أولياء الأمور، أن النابغة من أبنائكم وطلابكم إنما يمتاز بكثرة السؤال، فلا تكسروا أسئلته، بل وجهوها لما ينفعه ويصلحه، فربما كانت كثرةُ السؤال طريقًا إلى نيل المنال.
وآخر هذه ومضة من نبراس ابن عباس حيث يقول: "إني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعًا علموا مثل الذي أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له، وما لي عنده قضيّة، وإني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين، فأفرح به، وما لي بتلك الأرض سائمة".
عاش ابن عباس يملأ الدنيا علمًا وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه.
وفي عامه الحادي والسبعين، دُعي إلى لقاء ربه العظيم، ونحن نقول له: إلى لقاء عند الواحد الأحد.
اللهم اجمعنا بصحابة نبيك أجمعين، وارزقنا مرافقتهم مع نبيك في جنات النعيم، وارض اللهم عن ابن عباس، وارض اللهم عن ابن عباس، وصلّ اللهم على ابن عمه، محمد بن عبد الله.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم