الهجرة النبوية الشريفة

أنس العمايرة

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أهمية حادثة الهجرة النبوية 2/أهمية التوكل على الله وتفويض الأمر إليه 3/مطاردة الظلمة للعلماء والدعاة والمصلحين 4/حفظ الله لأوليائه 5/التضحية في سبيل نصرة الإسلام 6/فوائد استلهام الدروس والعبر من حادثة الهجرة 7/ماذا أنجزنا في العام الهجري المنصرم؟ 8/أهمية محاسبة النفس

اقتباس

أيها الموحدون! يا حملة العقيدة! ويا حراس الملة: إن في هذا الحدث العظيم "حدث الهجرة النبوية الشريفة" من الآيات ِالبينات، والآثار ِالنيرات، والدروس ِوالعبر البالغات، ما لو استلهمته أمة الإسلام اليومَ، وعملت على ضوئه، وهي تعيش على مفترق الطرق؛ لَتَحققَ لها عزُها وقوتُها، ومكانتُها وهيبتُها. ولعلمتْ علم اليقين أنه لا حلَ لمشكلاتِها، ولا صلاح لأحوالها؛ إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فو الذي بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق بشيراً ونذيراً ما قامت الدنيا إلا ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

ثم أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرام: إن العالمَ الاسلامي في هذه الأيام يطوي عاما هجريا انتهى، ويستقبل عاما جديدا، يدخل هذا العام في عدادِ سنواتِ التاريخِ الإسلامي، الذي بدأ من ذلك الحدثِ الكبيرِ ألا وهو الهجرةُ النبوية، حيث خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابِه من مكة المكرمة التي هي موطنُه، ومهدُ ولادتِه إلى المدينة المنورة التي صارت معقلَ الإسلامِ، وديارَ المسلمين.

 

لقد كان لهذا الحدثِ أسبابٌ أدت إليه، ووقائعُ ذاتُ معنى ومغزى عميق، أسفرت عن دروس وعبر كثيرة استفاد منها المسلمون المخلصون على مدى التاريخ الإسلامي الطويل، وكان له نتائج هامة وعظيمة، ساهمت في تغيير مجرى التاريخ الإنساني كله، فكانت دروسُ الهجرةِ ومعانيْها نورا أضاءَ للأمةِ دربَ الكفاحِ والجهاد، وصفحاتٍ علَّمتْ المسلمين طرائقَ الدعوة والإرشاد.

 

وفي هذا اليوم المبارك لا أود سرد أحداث يوم الهجرة، إذ أن تلك الأحداث معلومة عند الكبار والصغار، ولكن نريدُ اليومَ أن نقفَ على أهم الدروس والعبر من هذه الحادثةِ.

 

وأول هذه الدروس: درسُ التوكل ِ على الله، وتفويض ِ الأمر له، وصِدق ِ اللجوء إليه: فلا كافيَ إلا الله؛ يقول الله على لسان أحد الصالحين: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)[غافر: 44-45].

 

ويقول الله مخاطبا لرسولِه -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)[الزمر: 36].

 

وكلُ شيء دونَ الله فهو تحتَه ودونَه وعبدٌ له، فلا قيمةَ له ولا وزنَ له ولا تأثيرَ له.

 

إن قصة الهجرة يتجلى فيها التوكلُ كأحسن ما يتجلى في أي صورة، وفي أي موقف، يدخل صلى الله عليه وسلم الغارَ ومعه أبو بكر، ويُحيط الغارَ جنودُ الكفر من قريش، فيقول أبو بكر كما في البخاري: "يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا، فيتبسم صلى الله عليه وسلم -والتبسم في وجه الموت أمر لا يجيده إلا العظماء- يتبسم صلوات الله عليه وسلامه عليه، ويقول بلهجة الواثق بربه المتوكل ِ على مولاه: طيا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!".

 

"لا إله إلا الله!" هل يُغلب هؤلاءِ الثلاثة؟ أم تكون الدائرة على أعدائهم؟ إذا كان الله ثالثَهما؟ فمن المغلوب؟ من هو الخاسر في الجولة؟ من هو المنهزم في آخر المعركة؟

 

يقول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر مواسيا له: "لا تحزن إن الله معنا"[أخرجه البخاري].

 

"لا إله إلا الله!" إذا كان الله معك فأي قوةِ تَخذلُك؟ إذا كان الله يُحبُك فأي قوة تَحول بينك وبين الله؟ إذا كان الله يكرمُك فأي قوة تُهينُك؟ إذا كان الله يُعزكُ فأي قوة تُذلك؟ إذا كان الله يغنيك فأي قوة تفقرك؟

 

إنه الله الذي لا إله إلا هو.

 

يطارِدُ سراقةُ محمدا -صلى الله عليه وسلم- فلا يلتفت، يقرأ القرآن صلى الله عليه وسلم، ولا يلتفت؛ لأنه موقن بأن الله معه، يدعو على سراقة، فتغور أقدام فرسه في التراب، حتى يصلَ بطنُه على الأرض؛ فيصبح سراقة مهددا بالموت، فيقول: يا محمد اكتب لي أمانا على حياتي أنتَ الآن محميٌّ وأنا مهدد؟ "فر من الموت وفي الموت وقع" فيتبسم صلى الله عليه وسلم ويقول: "يا سراقة كيف بك إذا سُوَّرتَ بسواري كسرى؟ ".

 

"لا إله إلا الله!" انظروا إلى هذا التفاؤل ِ الكبيرِ منه صلى الله عليه وسلم.

 

في يوم الهجرة في اليوم الذي طورد فيه؟ كيف قال ذلك؟ ولماذا قاله؟

 

لأنه يعلم أن الله لن يخذله، لذا قال قبلها كلمة ًدوّت في هضبات مكة وأوديتها بهمسة بسيطة في فيه أبي بكر: "لا تحزن إن الله معنا".

 

بعلمه سبحانه، وهي معيةُ الحفظِ والتأييدِ والتسديدِ لأوليائه.

 

المعيةُ التي صاحبت إبراهيمَ -عليه السلام- وهو في النار.

 

والمعيةُ التي صاحبت موسى أمام الطاغية فرعون.

 

والمعيةُ التي صاحبت يونس في بطن الحوت.

 

والمعيةُ التي صاحبت يوسف في السجن.

 

هذا درس عظيم -أيها الإخوة الكرام-: نحن والله بحاجة ماسة له اليوم.

 

فيجب علينا أن نحمل صدق التوكل على الله، ليس في أذهاننا فقط، بل في حياتنا وتصرفاتنا.

 

الدرس الثاني من دروس الهجرة: أن الصالحين والدعاةَ وأهلَ العلم ِوالدين ِمطاردون دائما من قِبل الظلمة: لأنهم يهدِّدِون مصالحهم التي بُنيت على الظلم، ويصادرون شهواتِهم، ولا يطاوعونهم في نزواتهم؛ لذلك طورد محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه من بعده، ومِن قبلُ نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى، وباقي الأنبياء -رضوان الله عليهم-.

 

إن أهل الباطل دوما يرون في حملة المبادئ وفي رواد الحق خصماءَ على طول الطريق؛ لأنهم يقولون لهم: لا.. في كل معصية وفي كل شهوة وفي كل نزوة.

 

الدرس الثالث من دروس الهجرة: أن الله يحفظ أولياءه: قال الله في الحديث القدسي الصحيح: "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".

 

نعم يُؤذَوْن ويضطهدون ويحبسون ويقدمون رؤوسهم رخيصة لله، ولكن ينتصرون -بإذن الله-؛ لأن العاقبة للمتقين: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[غافر: 51- 52].

 

والنتيجة الحتمية أنهم هم المنصورون في آخر المطاف، وأن الباطل مهما انتفش، ومهما علا، ومهما كبر، فإنه كما قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ)[الرعد: 1].

 

الباطل له صولة، والحق له جولة، والعاقبة للمتقين، وتكفل الله أن يحفظ دعائم هذا الدين، والمتمسكين بسنة أشرف النبيين، والمنطويين تحت لوائه إلى يوم الدين.

 

الدرس الرابع من دروس الهجرة: التضحية من أجل هذا الدين: وذلك واضح في حياته صلى الله عليه وسلم، ولكن ماذا فعلتُ أنا وماذا فعلتَ أنتَ لهذا الدين؟

 

كل إنسان منا الآن يسأل نفسه ماذا فعلتُ لهذا الدين؟ ماذا قدمنا؟

 

محمد صلى الله عليه وسلم شُغله الشاغل أنفاسه خواطره أفكاره أمواله أهله روحه لله؛ هاجر من مكة مطرودا، أغلقت مكةُ أبوابَها في وجهه، ترك أمواله وبيته وأهله، وكلَ ما يملك في مكة، ووقف في حمراءَ الأسد يخاطب مكة التي ولد فيها، وتربى فيها، وعاش فيها، وأكل منها، وشرب من مائها، واستنشق هواءها، ولعب في سهولها، وأعتلا جبالها، وترعرع في تلالها؛ خاطبها قائلا: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"[أخرجه ابن ماجة والدارمي والترمذي وقال: "حسن غريب صحيح" وصححه الألباني].

 

ثم تدمع عيناه ويذهب يوضع سلا الجزور على رأسه، وهو ساجد فيصبر، يحثى التراب عليه، يشج رأسه، ويدمى أصبعه، وتكسر رباعيته، يطارد ويخرج من بلده، فيصبر ويحتسب.

 

فإذاً التضحية هكذا: أن تقدم دمك ومالك ودموعك ووقتك وولدك وأسرتك للإسلام، وإلا الركعاتُ والتسبيحات التي يمتن بها كثير من الناس، ولكنهم لا يحترقون على الدين، ولا يغضبون لانتهاك محارم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5].

 

فإن أمرتَهم بترك الربا، قالوا: يا شيخ مضطرين! وإن أمرتَهم بإرخاء اللحى، قالوا: يا شيخ لا بد من مواكبة العصر! وإن طلبتَ منهم استخدام السواك، قالوا: يا شيخ الناس وصلت القمر! وإن طلبتَ منهم عدم إسبال الثوب، قالوا: يا شيخ الدين في القلب! وإن طلبت منهم ترك العمل الحرام، قالوا: يا شيخ الله غفور! وإن طلبتَ منهم ترك الغيبة، قالوا: هذه حقائق وليست غيبة! وإن تحدثتَ عن تقصيرنا اتجاه الدين رأيتَهم يمدحون أنفسهم ويقولون: الحمد لله نصلي الصلوات الخمس في المسجد، ونصوم ونزكي وحججنا كذا مرة، واعتمرنا كذا مرة!.

 

أوردها سعد وسعد مشتمل *** ما هكذا يا سعد تورد الإبل

 

أيها الموحدون يا حملة العقيدة ويا حراس الملة: إن في هذا الحدث العظيم "حدث الهجرة النبوية الشريفة" من الآيات ِالبينات، والآثار ِالنيرات، والدروس ِوالعبر البالغات، ما لو استلهمته أمة الإسلام اليومَ، وعملت على ضوئه، وهي تعيش على مفترق الطرق؛ لَتَحققَ لها عزُها وقوتُها، ومكانتُها وهيبتُها.

 

ولعلمتْ علم اليقين أنه لا حلَ لمشكلاتِها، ولا صلاح لأحوالها؛ إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فو الذي بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالحق بشيراً ونذيراً ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة َوالكرامة َوالنصرَ والتمكينَ إلا لمّا خضعوا لرب العالمين.

 

وهيهات أن يحلَ أمنٌ ورَخاءٌ وسلامٌ إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين.

 

إذا تحقق ذلك -أيها المسلمون-: وتذكرت الأمة ُهذه الحقائق الناصعة، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها، كانت هي السلاحَ الفاعل الذي تقاتل به، والدرعَ الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة، والصراع ِ العالمي العنيف، فالقوة لله جميعاً، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.

 

 

الخطبة الثانية:

 

بسم الله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبة.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الأفاضل: حري بنا في بداية هذا العام الهجري الجديد أن نسأل أنفسنا هذا السؤال:

ماذا قدمنا للعام الهجري المنصرم؟

 

ذهب من أعمارنا عام، مات فيه قوم، وعاش قوم، واغتنى قوم، وافتقر قوم، فماذا قدمنا للإسلام؟

 

إننا عند التأمل الدقيق بأحوالنا للعام المنصرم نلمس أننا لم نقدمْ شيئا يذكر للأمة الإسلامية بأسرها، لا على صعيد الأفراد، ولا على صعيد الجماعات.

 

فعلى مستوى العالم الإسلامي لم نلاحظ تطورا إنتاجيا، ولا اقتصاديا، ولا علميا، ولا اجتماعيا، فنحن لم نخدمْ مجتمعاتِنا، ولم نقدم لها شيئا.

 

أما على مستوى الأفراد، فماذا أودعنا في العام الماضي؟ وكيف نستقبل العام الجديد؟

 

اسأل نفسك -أيها المسلم-: حاسب نفسك، عد إلى نفسك، فليحاسب كلُ إنسان نفسه، هل أمضيناه بالأعمال الصالحة؟ هل ربينا أولادنا على طاعة الله؟ هل حفظناهم شيئا من القرآن.. من السنة .. من الفقه .. من السيرة؟ هل تدارسنا القرآن في بيوتنا ومع زوجاتنا وأبنائنا.؟ هل قرأنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- على مسامع أسرتنا؟ هل التزمنا نحن بسنته صلى الله عليه وسلم أم استهزأنا بها وبمن يتمسك بها بالخفاء؟

 

نرجو الله -جل جلاله-: أن نكون ممن تمسك بسنته، واقتفى أثره

 

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأصوبه.

 

اللهم صل على سيدنا محمد...

 

 

 

 

 

المرفقات

النبوية الشريفة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات