حماة الأمة في زمن الفتن

ياسر بن محمد بابطين

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الاضطراب والحيرة في زمن الفتن 2/استشعار خطر الفتن 3/عصمة الأمة من الضلالة 4/دور العلماء في زمن الفتن 5/ندرة العلماء الربانيين 6/خطر تصدر الجهلة في الأمور العامة 7/الحذر من الشبهات 8/ضرورة الرجوع إلى العلماء

اقتباس

إن المؤمن لتعترضه الفتنة تلوَ الفتنة، الواحدة منها تكفي لتفتك به وتُذهب دينه، شعر أو لم يشعر، إلا أن يعصمه الله بمنه وفضله. تعصف الفتن بالأمة، ولو لم يكن إلا عصفها لكفى، كيف وفي الأمة منافقون ومخذّلون، ومن يحبون أن تشيع الفاحشة والفرقة والضلالة في الذين آمنوا؟! يخرجون أيام الفتن، ينفثون سمومهم، ويصطادون في الماء العكر، يتصدرون للناس إذا غاب أهل الصدارة، فيَضلّون ويُضلون. لقد حبا اللهُ هذه الأمة نجومًا تُزيّن سماءها، تهدي السالكين، وتهوي...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله-: واستمسكوا بنور ربكم، عضوا بالنواجذ على هدي كتابه، وسنة نبيه، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، والزموا الجماعة، وإياكم والفرقة، فمن فارق الجماعة قيد شبر هلك.

 

أيها المؤمنون: حين يُظلّ الناسَ زمان الفتن، فتحار العقول، وتضطرب الألباب، وتتلجلج القلوب، حتى يعمى الحق على أكثر الناس: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف: 103].

 

إذا نزلت بالأمة فتنٌ تموج كموج البحر الهادر، وتطيف بالقلوب كالنار تسري في الهشيم.

 

إذا كان كلّ هذا فما العاصم؟! وأين المخرج؟!

 

إننا لا بد -معاشر المؤمنين -: أن ندرك خطرَ الفتن، والتباسِ الحق فيها بالباطل، ورواجِ الشبهات بين يدَيها، حتى تُنزل منزل المسلَّمات؛ عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه قال: "ما الخمر صِرفًا بأذهب بعقول الرجال من الفتن؟"[رواه ابن أبي شيبة].

 

وعنه رضي الله عنه أنه قال: "تكون فتنةٌ تعوّج فيها عقول الرجال، حتى ما تكاد تَرى رجلاً عاقلاً"[رواه نعيم بن حماد في الفتن].

 

وروى ابن عبد البرِّ في الاستيعاب عن حذيفة -رضي الله عنه- أنه سئل: أي الفتن أشد؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تركب".

 

إن المؤمن لتعترضه الفتنة تلوَ الفتنة، الواحدة منها تكفي لتفتك به وتُذهب دينه، شعر أو لم يشعر، إلا أن يعصمه الله بمنه وفضله.

 

تعصف الفتن بالأمة، ولو لم يكن إلا عصفها لكفى، كيف وفي الأمة منافقون ومخذّلون، ومن يحبون أن تشيع الفاحشة والفرقة والضلالة في الذين آمنوا؟!

 

يخرجون أيام الفتن، ينفثون سمومهم، ويصطادون في الماء العكر، يتصدرون للناس إذا غاب أهل الصدارة، فيَضلّون ويُضلون.

 

أيها المؤمنون: لقد عصم الله هذه الأمة من أن تجتمع على ضلالة، وجعل النجاة فيها لمن استمسك بالكتاب والسنة، ولزم الجماعة.

 

لقد حبا اللهُ هذه الأمة نجومًا تُزيّن سماءها، تهدي السالكين، وتهوي على الشياطين، إنهم العلماءُ الربانيون، أنقى صفحات تاريخ هذه الأمة، بهم يهتدي الناس، إليهم يرجعون، وعنهم يصدرون، إنهم صمام الأمان أمام شبهات المرجفين، وزيغ الضالين.

 

فإذا ذهبوا ذهب العلم، وأقبل الجهل، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويُبث الجهل، وتشرب الخمر، ويظهر الزنا"[رواه البخاري ومسلم].

 

ولهما عن ابن مسعود وأبي موسى -رضي الله عنهما- قالا: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل".

 

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهّالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"[رواه الشيخان].

 

يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-: "لا يأتي عامٌ إلا وهو شرٌ من الذي قبله، أما إني لست أعني عامًا أخصب من عام، ولا أميرًا خيرًا من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيُهدم الإسلام ويُثلم".

 

أيها المؤمنون: إننا لنشهد اليوم كيف يتناقص العلماء، يذهب العالم فتُثلم ثُلمةٌ لا تُسدّ، ولا ينهض لمكانه مثله، لقد قلَّ العلماء الربانيون، وقلّت الحفاوة بمن بقي منهم وإنزالهم منازلهم، قلَّ الذين يرجعون إليهم في كلّ أمر ذي بال يعرض لهم.

 

إننا اليوم لنرى -وما أكثر ما نرى- ما حدَّث به الصادق المصدوق، من هوًى متبع وشحٍّ مطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، نرى الرؤوس الجهال يفتون بغير علم، فيضلون ويُضلون.

 

يظن أحدهم: أن العلم إنما يلزم من أفتى في مسائل الفقه وقضايا العبادات، فيترك ذلك لأهل العلم، وما أحسن ما صنع، لولا أنه يطلق للسانه وقلمه العنان في قضايا الأمة الخطيرة، في عقيدتها، فكرِها، سياستها، أصول دينها، يتورع عن الكلام في القضايا الفرعية والأحوال الشخصية، لكنه يسوِّغ لهواه ورأيه أن يجولا في أمور العامة ومشكلات الأمة المصيرية.

 

أولئك هم الرويبضات، يهرفون بما لا يعرفون، ويهذون ولا يدرون، تراهم على بعض أعمدة الصحف وبرامج الإذاعات والقنوات الفضائية، إن لم يكن أكثرها، كان الأولى أن يسكتوا إذ جهلوا، أو يسألوا فإنما شفاء العيِّ السؤال، أما وقد تكلموا فحريٌ أن لا يجدوا فينا قارئا ولا سامعًا، وصدق الله: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)[التوبة: 47].

 

عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمام الدجال سنين خداعة، يُكذّب فيها الصادق، ويُصدق الكاذب، ويُخوّن الأمين، ويؤتمن الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة" قيل: وما الرويبضة؟ قال: "الفويسق".

 

وفي رواية: "الرجل التافه".

 

وفي ثالثة: "السفيه يتكلم في أمر العامة".

 

اللهم أرنا الحق حقًا، وارزقنا اتباعه.

 

اللهم اعصمنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، أنت مولانا وحسبنا، نعم المولى ونعم النصير.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: عن زياد بن لبيد -رضي الله عنه- قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، فقال: "ذاك عند أوان ذهاب العلم" قلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟! قال: "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنتُ لأراك من فقهاء أهل المدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما؟!"[رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي].

 

لقد ضلّ اليهود والنصارى وعندهم التوراة والإنجيل فيها حكم الله، ثم ما لبث أن تمادى بهم غيهم حتى حرفوها، ولعبوا بهما، فويلٌ لهم، وويل لأقوامٍ منعهم حفظُ الله كتابَه من أن يحرفوه، فراحوا يحرّفون معانيه، ويتلاعبون بدلالاته، يُفسرونه كما يحلو لشهواتهم وشبهاتهم؛ إنهم كما قال ابن مسعود: "يقيسون الأمور بآرائهم".

 

فاحذروهم -عباد الله-: احذروا شبهاتهم التي يبثونها، وسمومهم التي يدسونها، فإن غُمَّ عليكم فقد جعل لكم عند أهل العلم جَلوةً وبيانًا، فالزموا غرسهم، والتفوا حولهم، ذُبُّوا عن أعراضهم، واحفظوا عيباتهم، وإن رأيتم منهم ما تكرهون، فاستبينوا أمرهم، وانصحوا لهم، فإنهم بشرٌ لهم وعليهم، ومن نال منهم فإنما ينال من حملة الدين، ويثلم في بنيانه، وينخر السفينة التي تحمل الأمة إلى برِّ الأمان.

 

إننا اليوم -أيها المؤمنون-: أحوجُ ما نكون إلى الرجوع إلى أهل العلم، والاستماع إليهم، وتوحيد الصفوف تحت راياتهم، وأن لا ندع لمغرضٍ علينا سبيلاً.

 

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ...

 

 

 

 

المرفقات

الأمة في زمن الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات