الإسلام دين التسامح

عصام بن هاشم الجفري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ قصص عن العفو (يوسف ويعقوب عليهما السلام + محمد صلى الله عليه وسلم + أبو بكر الصديق رضي الله عنه + سيد عن جارته 2/ دعوة لتصفية القلوب من أمراضها 3/ خطر الهجر وفضل العفو والمسامحة
عنوان فرعي أول
صفاء القلب
عنوان فرعي ثاني
العفو والصفح
عنوان فرعي ثالث
سلامة الصدر

اقتباس

طفل صغير كان يعيش في كنف أبيه الذي كان يغدق عليه من حبه وحنانه، فاستثار ذلك الحب والحنان إخوته من أبيه عليه، فحقدوا عليه بلا ذنب ارتكبه، ولا تقصير في جانبهم فعله، فأخذوا يتفكرون فيها كيف يتخلصون منه، ثم استقر رأيهم على أن يلقوه في بئر، يلتقطه بعض قاطعي الطريق، واحتالوا على الأب، وأخذوا الطفل البريء، وجردوه من ثوبه، وألقوا به بلا رحمة أو شفقة، أو مراعاة لدم النسب الذي بينهم في غياهب ذلك البئر، أرادوا إبعاده عن أبيه وأراد ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الملك الديان، الرحيم الرحمان، خالق الإنس والجان، أحمده سبحانه وأشكره على نعمه المتوالية على مر الزمان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خص عباده المؤمنين المتقين بنعيم الجنان، وتوعد المعرضين عن طريق الهدى ضنك النيران.

 

وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى من بين الخليقة بالرسالة والقرآن، والمجتبى بالتفضيل على الثقلين الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه على طريق الهدى بإحسان.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإن التقوى هي سلم الرضوان، والطريق لبحبوحة الجنان، قال ذلكم ربكم في محكم آيات البيان: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم:63].

 

أيها الأحبة في الله: طفل صغير كان يعيش في كنف أبيه الذي كان يغدق عليه من حبه وحنانه، فاستثار ذلك الحب والحنان إخوته من أبيه عليه، فحقدوا عليه بلا ذنب ارتكبه، ولا تقصير في جانبهم فعله، فأخذوا يتفكرون فيها كيف يتخلصون منه، ثم استقر رأيهم على أن يلقوه في بئر، يلتقطه بعض قاطعي الطريق، واحتالوا على الأب، وأخذوا الطفل البريء، وجردوه من ثوبه، وألقوا به بلا رحمة أو شفقة، أو مراعاة لدم النسب الذي بينهم في غياهب ذلك البئر، أرادوا إبعاده عن أبيه وأراد الله شأنا آخر، فمكث في ذلك البئر ينتظر الفرج ممن بيده مفاتيح الفرج!.

 

وبينما هو في مجلسه ذاك إذا بحبل ودلو يتدلى فتمسك به وصعد، وإذا به بين يدي رجال قساة القلوب فرحوا به لا لأنه إنسان أنقذوه، ولكن لأنه يمكن بيعه في سوق العبيد، وأخذوه وباعوه، وبدأ في رحلة مرهقة متعبة، فمن كيد النساء إلى السجن، حتى مكن الله له بعد ذلك في الأرض، وإذا بأخوته الذين كادوا له أتوه فقراء محتاجين، فلما عرفوه قاموا يعتذرون، فهل انتقم منهم؟ هل عاقبهم على رحلة العناء والتعب التي كبدوه إياها على حرمانه من حنان الأب الذي حرموه إياه؟!

 

(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:89-92].

 

الله أكبر هذا يوسف تعالا على كل ما أصابه بسبب إخوته، ليحلق في سماء العفو والصفح والمسامحة.

 

نعم: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].

 

تلكم قاعدة ذهبية ضاعت في زحمة الحياة المادية التي بنيت أخوتها على الدرهم والدينار.

 

هذه الصورة نهديها ناصعة تضيء بنور هذا الخلق العظيم، خلق العفو والصفح والمسامحة، إلى إخوة من أمة الإسلام، حملهم رحم واحد، ورضعوا من ثدي واحد، وأكلوا من إناء واحد، وضمهم بيت واحد، ثم إذا بينهم قضايا ومحاكم وشرط، وهجر يصل بالأعوام والسنين، يلتقيان على سفرة واحدة في مناسبات مفرحة، أو محزنة، ويأكلان من إناء واحد، ولا يكلم بعضهم بعضاً، نسائلهم: أين أنتم من كتاب ربكم الذي بين أيديكم يقص عليكم قصة يوسف وإخوته؟

 

أتضنون أنه قصص للتسلية فقط؟

 

لا، بل القرآن منهج حياة وفي سياق القصة نفسها قصة ذلك الأب المكلوم يعقوب -عليه السلام- الذي فقد ولده الحبيب المقرب إلى نفسه، فنزل به من الهم والحزن ما الله به عليم، وأستبد به البكاء، حتى عميت عيناه، ومع ذلك صفح عن أولاده، وعفا عنهم، واستغفر لهم، واسمعوها طرية ندية من كتاب ربكم إذ يقول: (قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 98].

 

ما دعا عليهم، وما عنفهم، أو زجرهم، وما هجرهم، ولكن عاملهم بخلق العفو والصفح والمسامحة.

 

فأين آباء من أمة الإسلام هجروا أبناءهم من أجل أخطاء بسيطة تافهة، ودعوا عليهم، فكانوا -عياذاً بالله- سبب شقائهم؟ أين هم من موقف يعقوب -عليه السلام- مع أبنائه؟

 

وهذا نبينا وقدوتنا -صلى الله عليه وسلم- مكرت به قريش في جاهليتها؛ آذوه، عذبوا أصحابه، أخرجوه من بلده، خططوا لقتله حاربوه في دينه ومعتقده، قاتلوه وقتلوا أصحابه، وكانوا حريصين على قتله، ومع كل ذلك يوم أن مكنه الله من رقابهم يوم فتح مكة خاطبهم، وهو واقف على باب الكعبة، وهم وقوف تحت قدميه: ما تظنون أني فاعل بكم؟

 

فجاءه الرد من قلوب خائفة ذليلة وجلة: "أخ كريم وابن أخي كريم".

 

فماذا فعل فيهم -صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي وبالناس أجمعين؟

 

خاطبهم بذلك الخطاب الذي يمسك بأذن التاريخ والبشرية، ليصب فيها أروع صور العفو والمسامحة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"

 

مع كل ما فعلتموه: "أذهبوا فأنتم الطلقاء".

 

مع كل ما ارتكبتموه!.

 

الله أكبر!.

 

فأين قوماً من بني الإسلام أطالوا لحاهم، وقصروا ثيابهم، اقتداء بسنة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وحملوا أمانة الدعوة إلى الله في أعناقهم من مثل هذا الموقف؟!

 

تجد أحدهم يحمل على داعية مثله، فيهجره ويقاطعه ويذمه، ويتكلم في عرضه صباح مساء، لا لشيء إلا لأنه لا يعتنق فكره، أو لا ينتمي لحزبه!.

 

يصلي خلفه السنوات، ثم هو لا يمد إليه يده، ولا يكلمه لأوهام في رأسه، ومرض في نفسه، نقول لهم: هذا رسول الله، وهذا موقفه ممن حاربوه في الدين؛ فهل ينسجم فعلكم هذا مع دعاة مثلكم إلى الدين مع سنة خير المرسلين؟

 

هذا أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- يُتكلم في عرض ابنته الطاهرة العفيفة المبرأة من فوق سبع سموات، رجل كان أبوبكر يحسن إليه، وينفق عليه، فيتألم لذلك الصديق ويعتريه ما يعتري البشر، فيهم بأن يمنع عطاءه عن الرجل، فيعاتبه ربه من فوق سبع سموات، والذي لا يرضى لأفراد أمة الإسلام إلا الكمال بقوله: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور:22].

 

فيستجيب الصديق المرهف الحس لآيات كتاب ربه استجابة فورية: "بلى والله أحب أن يغفر الله لي".

 

ويعيد إحسانه إلى الرجل.

 

فإلى كل صاحب فضل وإحسان جاءته إساءة ممن يحسن إليه نقول له: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22].

 

هذه جارية تصب الماء على سيدها في الوضوء، فتسقط الجرة على السيد فتنكسر وتؤذيه، فيغضب فتخاطبه الجارية بآيات الكتاب؛ لأنها عرفت أن سيدها رجل مؤمن، والمؤمن وقاف عند آيات ربه، فقالت: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) قال: "كظمت غيظي" قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) قال: "عفوت عنك" قالت: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134] قال: "أذهبي فأنت حرة لوجه الله!".

 

الله أكبر تخطيء وتكسر الجرة وتؤذيه، ويكون ذلك سبباً في عتقها، وغيرها يشتري نفسه بالدرهم والدينار!.

 

لكنها قلوب صفت من الغل والحقد والحسد، ورقت لخالقها، وملئت عفواً وصفحاً قلوب تغلغل نور القرآن في جنباتها، فجعلت من أصحابها كواكب يقتدى بها.

 

فأين من يسيئون إلى عمالهم وخادماتهم لأتفه الأخطاء من العفو والصفح والمسامحة؟! أين الزوج الذي يترصد لزوجته الهفوات والزلات من مثل هذه النماذج في العفو الصفح والمسامحة؟! أين الزوجة التي تتربص من زوجها زلات اللسان والهفوات من مثل ذلك؟! أين موقعنا نحن جميعاً من مبدأ العفو الصفح والمساحة؟!

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [الشورى:40].

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن دينكم دين عفو وصفح ومسامحة، وليس دين حقد وتباغض ومقاطعة: كيف لا وربكم عفو كريم يحب العفو سبحانه؛ أخرج الإمام أحمد بسنده: أن أمنا -أم المؤمنين- عَائِشَةُ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (رواه الإمام أحمد في مسنده).

 

وأخرج الإمام البخاري عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ".

 

أرأيتم -أيها الأحبة في الله- فوق ثلاث ليال فما بالكم بثلاثة أسابيع وثلاثة أشهر وثلاث سنوات وهناك من يورثوا العداء والبغضاء وعدم الصفح إلى أولادهم كما يورثوا الدرهم والدينار، ويتواصوا على ذلك، حتى قد تمتد القطيعة إلى ثلاثة أجيال أو تزيد.

 

فاتقوا الله -عباد الله: ولنتواصى جميعاً من هذا المكان المبارك، وفي هذا الزمان المبارك على أن نربي أنفسنا وأزواجنا وأولادنا على العفو والصفح والمسامحة، بشكل لا يؤدي إلى ضياع حق من حقوق الله.

 

 

 

 

المرفقات

دين التسامح

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات