قوة الجبار

محمد بن سعيد بافيل

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/شرف العلم بالله 2/القوي اسم من الله 3/كل قوة في الكون مستمدة من قوة الله 4/مقتضيات الإيمان بقوة الله وقدرته 5/ثمرات الإيمان بقوة الله وقدرته

اقتباس

أيها المسلمون: إن الافتتان بالقوة والجبروت، والتقدم العلمي، والصناعي، والعسكري، غر كثيرا من الأفراد والدول، فتسلطوا على خلق الله شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وتمادوا في غيهم وجبروتهم وطغيانهم، ولو أدرك الخلق حقيقة قوة الخالق -جل وعلا- لتواضعوا لله -عز وجل-، وأقلعوا عن العدوان على الناس، وارتدعوا عن غيهم واستطالتهم على خلق الله. أيها الفضلاء: إذا...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

اللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله وإليك يرجع الأمر كله

لك الحمد والنعماء والملك ربنا *** فلا شيء أعلى منك مجدا وأمجدُ

مليك على عرش السماء مهيمن *** لعزته تعنو الوجوه وتسجدُ

فسبحان من لا يعرف الخلق قدره *** ومن هو فوق العرش فردا موحد

تسبحه الطير الجوانح في الخفا *** وإذ هي في جو السماء تصعد

وأنى يكون الخلق كالخالق الذي *** يدوم ويبقى والخليقة تنفد

هو الله باري الخلق والخلق كلهم *** إماء له طوعاً جميعاً وأعْبدُ

والصلاة والسلام على خير الله وخاتم رسل الله، أفضل رسول وأشرفه وأزكاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن العلم بالله -تعالى-، ومعرفة أسمائه وصفاته؛ أعظم العلوم، وأشرف المعارف، وأنفع المواعظ، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، وما يقع العبد في التقصير والتفريط في حق الله، وما يرتكس في وحل الخطايا والآثام، ولا يعتريه الهوان، والضعف أمام عدوه، ولا يقتله اليأس والقنوط من فرج الله ونصره؛ إلا بسبب جهله بربه وخالقه، وقلة علمه بمعاني أسمائه، ودلالات صفاته: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[الأعراف:180].

 

ما أعظم امتنانه! وما أعلى مكانه! وأجل شانه! وأقوى سلطانه!

 

وهو القوي له القوى جمعا *** تعالى رب ذي الأكوان والأزمان.

 

القوي من أسماء الله -تعالى- الحسنى، فله القوة الكاملة، والقدرة الشاملة، والمشيئة النافذة: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 58].

 

وهو القوي بقوة هي وصفه *** وعليك يقدر يا أخا السلطان

 

سبحانه جل جلاله لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، حفيظ لمن أطاعه واتقاه، شديد عقابه لمن كفر به أو عصاه: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)[الشورى: 19].

 

سبحانه وتعالى قهر جميع المخلوقات، ودانت لأمره كل الكائنات، وخضعت لحكمه سائر الموجودات: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 74].

 

أيها المؤمنون بالله: ما أتعس المرء! وما ضعفه! وما أشقاه! حين يغفل عن قوة الله، أو يشك في عزه وغلبته وسلطانه، والمؤمن يستمد قوته وحياته من قوة الله، ومعونته وتأييده.

 

الله -تعالى- هو القوي المتين غني بذاته عن العالمين، لا يبلغ العباد ضره فيضرونه، ولا نفعه فينفعونه، وجميع نواصي المخلوقات بيده، لا يتحرك منها متحرك، ولا يتصرف متصرف، إلا بحوله وطوله، وإذنه وقوته، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

وكل قوة في الكون، فهي من قوة الله -جل جلاله-، وكل قوة في الملائكة والروح، والإنس والجن والحيوان، وكل قوة في ملكوت السماء والأرض، والنجوم والكواكب، والجبال والحجار، والحديد والنار، وسواها من المخلوقات والكائنات كلها، لا تعدل ذرة أمام قوة الله -تعالى-.

 

ولو اجتمعت تلك القوى كلها في واحد منها جميعها ومثلها، فلا وزن لها، ولا قدر أمام قوة الملك الجبار العزيز القهار: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزمر: 67].

 

وقوته جل وعلا قوة أبدية سرمدية، لا تحول ولا تزول، فما قوة غيره من المخلوقات والكائنات: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[فصلت: 15].

 

أيها المباركون: إن إيماننا بقوة القوي العزيز، يعني أن نوقن بقوة الله المطلقة، ومشيئته النافذة في كل ما يقع تحت ملكه وسلطانه، فهو تعالى لا يعتريه ضعف أو قصور، على تتابع الأمم والدهور، قيوم لا يتأثر بوهن أو فطور، ينصر من نصره، ويخذل من خذله؛ كما قال سبحانه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)[الحج: 40].

 

ومن قوته تعالى: أنه أبدع خلقه، وأحسن صنعه، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهو أهون عليه، وكل شيء يقع في الكون فبعلمه وإرادته: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)[سبأ: 3].

 

والإيمان بقوة الجبار-تبارك وتعالى- تعني أن ندرك تمام الإدراك، وأن نوقن غاية اليقين أنه جل وعلا يحمي أنبياءه، ويؤيد أوليائه، وينصر حزبه وأتباعه؛ كما وعد سبحانه بقوله: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51].

 

مهما طال البلاء على الموحدين الصادقين، ومهما عظم التمحيص والاختبار للمسلمين المظلومين، فإن الغلبة والعاقبة للمؤمنين المتقين: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[المجادلة: 21].

 

ومهما أمهل الله المفسدين والمجرمين، ومهما مكنهم من البلاد والعباد، ومهما استفحل عدوانهم وتمادوا في بغيهم وبطشهم، فإن ربك لبالمرصاد، فهو سبحانه الذي أهلك عاد وثمود: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى)[النجم: 50-55].

 

كم من ظالم بغى واعتدى، وخافه العدو والصديق، وهابه الشديد والضعيف، ثم صار صريع المرض والضعف والعجز: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)[البقرة: 165].

 

إنها سنة القوي المتين، وعادة العزيز الحكيم؛ فيمن طغوا وبغوا واستكبروا: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[غافر: 22].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

فيا أيها المسلمون: إن الافتتان بالقوة والجبروت، والتقدم العلمي، والصناعي، والعسكري، غر كثيرا من الأفراد والدول، فتسلطوا على خلق الله شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وتمادوا في غيهم وجبروتهم وطغيانهم، ولو أدرك الخلق حقيقة قوة الخالق -جل وعلا- لتواضعوا لله -عز وجل-، وأقلعوا عن العدوان على الناس، وارتدعوا عن غيهم واستطالتهم على خلق الله.

 

أيها الفضلاء: إذا أدرك المسلم معنى قوة الله وقدرته: اعتز به وبقوته وسلطانه، فيستمد قوته من قوة الله، ويستعين به في كل أمور دينه ودنياه، يصدع بالحق لله، لا يبالي بمن خالفه وعاداه، ولا يخاف في الحق لومة لائم، ويستهين بقدرة كل قوي وجبار من خلق الله، ويعلم علم اليقين أن الخلق كلهم إنسهم وجنهم أولهم وآخرهم، لو اجتمعوا في صعيد واحد على أن ينفعوه بشيء، أو يضروه بشيء، لم يقدروا إلا على ما أراده الله وشاءه وقدره.

 

والإيمان بقوة الله يخضع العبد لربه خضوعا تاما، فيتواضع لمولاه، ولعباد الله، ويدرك ضعفه أمام قوة الله، ويشعر بعجزه في ملكوت الله، فيذل لله، وينكسر بين يديه، ويتواضع لقوته وجبروته، ولا يغتر بنفسه، أو جاهه، أو قوته، أو منصبه، أو سلطانه، وقد قيل في العظات: "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك".

 

فلكل مظلوم ومقهور، رب قادر عزيز قاهر، يمهل ولا يهمل، لا يظلم ولا يرضى لعباده الظلم، ولو كان المظلوم كافرا عصيا.

 

قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله -تعالى- ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته" ثم تلا قوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)[هود: 102].

 

وقوة الله -تعالى- تعزز في قلب المؤمن: حسن التوكل على ربه، والاستسلام لعظمته، وصدق الإنابة إليه، والتبرؤ من الحول والقوة إلا بالله، التي لا يعجزه شيء، ولا راد لقضائه، ولا مانع لأعطياته، ولا معطي لما منعه، فعلام يتعلق القلب بغيره جل جلاله، وعلام تعتمد النفوس على خلقه وعباده: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 26].

 

أيها المسلم: وحين نؤمن بقوة الله وعزته، فإننا نعتقد: أنه لا قوة لنا على طاعة الله، والقيام بأمره، إلا بتوفيقه وقوته وعونه، وأنه لا حول لنا ولا قدرة على اجتناب معاصيه، والوقاية من سخطه؛ إلا بمعونته ومعيته وقوته.

 

وفي الصحيحين: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمات هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله".

 

فال الإمام النووي -رحمه الله-: "سبب ذلك أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله -تعالى-، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راض لأمره، وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر، فلا حول في دفع الشر إلا بالله، ولا قوة في تحصيل الخير إلا بالله، ولا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته سبحانه وتعالى".

 

ورضي الله عن أبو السبطين علي إذ يقول:

 

إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى *** فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ

 

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام برحمتك نستغيث؛ أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.

 

 

 

 

المرفقات

الجبار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات