الرطب الجنية في فضل اللغة العربية

عمر القزابري

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: الفكر والثقافة
عناصر الخطبة
1/ دعوات مشبوهة لاستعمال اللغة الدارجة في التدريس 2/ دعوة ليست جديدة 3/ الجذور الاستشراقية لاستخدام العامية 4/ الدفاع عن العربية دفاع عن كيان الأمة 5/ من فضائل اللغة العربية 6/ ارتباطها بالقرآن الكريم والسنة المطهرة 7/ ثمار الاعتزاز باللغة العربية

اقتباس

وهذه الدعوة -أيها الأحباب- الدعوة إلى التعليم بالدارجة بدلاً من العربية؛ ليست جديدة، بل هي قديمة، فقد ذكر ذلك الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- في كتابه القيم "أباطيل وأسمار"؛ يقول -رحمه الله-: "وبدأ الغزو المسلح، وسار الاستشراق تحت رايته، وزادت الخبرة بهذه الأمم، فمن كان منها له لسان غير اللسان العربي، أعدتْ له سياسة جديدة؛ لإغراقه في لسان الغازي الأوروبي؛ حتى يسيطر عليه، ومن كان لسانه عربيًّا أعدتْ له سياسة أخرى؛ لإغراقه في تخلف مميت".

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، هدًى وذكرى لأولي الألباب، وزانه بالأحرف السبعة وكمال الشرعة وفصل الخطاب، وصانه من شين اللحن وطروء المحو وعن كل ما يستراب، وجعله آيته الباقية على امتداد الأحقاب، ووعد بكشف ما يشهد لحقيته في كل باب مصداقًا لقوله المجيد: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].

 

وصلاة ربي وسلامه على من تلقّى الوحي من ربه قرآنًا، وتنزل إليه في مدى عمره نجومًا فرقانًا، وسُطر بإذنه كتابًا وديوانًا، وأقام صرحه بين يديه فجاء سامقًا بنيانه حتى استوى على سوقه، وسعِدت الدنيا بأنوار شروقه، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وشرِّف وعظِّم.

 

معاشر الصالحين: من علامات الهدى والرشاد لزوم غرز سيد العباد، فثمَّ عينُ الانبجاس، وغير ذلك تيه ووسواس، وعلامة الخذلان والتباب رؤية النفس ومسامرة الإعجاب، والتقاط الفتات، فمن علم أن الحق معه لزمه وعانقه، وترك ما يضاده وفارقه، ومن رأى نفسه إلى غير المسلمين متوجهة، وبكل ما يأتي من الغرب متولهة، فليتدارك من أمره ما يصلح به أمره، قبل أن يغرق في الذم، ولات حين مندم.

 

كنا فيما مضى من خطب نستظل تحت اسم الله الكبير، وهل يحلو العيش إلا معه!! وهل يطيب الظل إلا تحت ستره وكنفه!! نحاول جاهدين أن نستخرج بعض الأسرار وبعض ما يقتضيه هذا الاسم "الكبير" من معاني الاستخلاف، للسائر على هديه وأنواره.

 

وسنتحدث اليوم -إن شاء الله- عن موضوع أثير مؤخرًا، وهو -وإن كان يبدو بعيدًا عن السياق سياق الحديث عن اسم الله الكبير- فإنه مع قليل من التأمل يظهر أنه في غاية الانسجام معه، وذلك لأن من مقتضيات الاستخلاف تحت ظلال هذا الاسم أن تكبر ما أكبر الله، وتعظم ما عظم.

 

ظهر مؤخرًا من ينادي باستعمال الدارجة في التدريس بدلاً من اللغة العربية، وحقيقة هذه الدعوة لا تستحق الرد؛ لأنها تافهة لا معنى لها، فارغة لا قيمة لها، وإذا كانت هذه الدعوة لا تستحق الرد -وهي كذلك- فإن اللغة العربية تستحق الدفاع عنها، والإشادة بها والذود عن حياضها ورياضها.

 

عباد الله: اختلط الإفصاح باللكنة، والبيان بالعجمة، والتبست الغباوة بالفطنة، كثرت في الأمة النوازل حتى شمتت بها الأعداء في كل المنازل، كثرت الفظاعات وارتفعت الأخبار بهذه الشناعات، كثر النعق، وعم الصعق، فهل من أمارة من حلم يكف طلائع البأساء؟! وهل من أثارة من علم يزف عرائس السراء؟! واليقين الراسخ الذي لا يريم أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

وهذه الدعوة -أيها الأحباب- الدعوة إلى التعليم بالدارجة بدلاً من العربية؛ ليست جديدة، بل هي قديمة، فقد ذكر ذلك الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله- في كتابه القيم "أباطيل وأسمار"؛ يقول -رحمه الله-: "وبدأ الغزو المسلح، وسار الاستشراق تحت رايته، وزادت الخبرة بهذه الأمم، فمن كان منها له لسان غير اللسان العربي، أعدتْ له سياسة جديدة؛ لإغراقه في لسان الغازي الأوروبي؛ حتى يسيطر عليه، ومن كان لسانه عربيًّا أعدتْ له سياسة أخرى؛ لإغراقه في تخلف مميت".

 

ويمضي الأستاذ محمود شاكر في كلامه إلى أن يقول: "ولكن هل هدأ الأمر وانتهى؟! كلاَّ؛ فقد كان أيضًا في مصر أحد الألمان وهو خادم الإنجليز وأحد المنصرين الإنجليز، وبدأ كلٌّ منهما حركة منفصلة، ولكنها متصلة المعاني، فألَّف الأول كتابًا في "اللهجة العامية الحديثة في مصر سنة 1890م، ووصف فيها العربية الفصحى بالجمود والصعوبة.

 

أما الثاني فألقى محاضرة ونشرها في مجلة الأزهر، التي آلت إليه سنة 1893م، وزعم فيها أن الذي عاق المصريين عن الاختراع هو كتابتُهم بالفصحى، ودعا إلى التأليف بالعامية، وقال للناس: "وما أوقفني هذا الموقف إلا حبِّي لخدمة الإنسانية، ورغبتي في انتشار المعارف، وما أجده في نفسي من الميل إليكم، الدال على ميلكم إليَّ".

 

يقول محمود شاكر معلقًا على هذا الكلام: "وهذا كلام ثقيل الدم جدًّا كوعظ المنصرين -وهو منهم-".

 

ثم يقول الأستاذ: "على أن أعداء العربية -وهم أعداء القرآن والإسلام- ما تركوا من سبيل إلا سلكوها، ولا من طريق إلا طرقوها لحرب العربية والقضاء عليها". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

إن هذه الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة التعليم مرتبطة دائمًا بالصحوة الإسلامية، وبإقبال الناس على القرآن وعلومه، فكلما صحت الأمة وبدأت تحيي الوصل بالقرآن وعلومه بدأت هذه الدعاوى؛ ما يدل على أن الأمر مسير من جهات تعادي الإسلام وتكره القرآن، ولا تريد لهذه الأمة أن تنهض؛ لأن أعداء هذه الأمة يعلمون أن ضعف ارتباط المسلمين بالقرآن مرتبط بضعف ارتباطهم باللغة العربية.

 

يقول الرافعي -وهو علم من أعلام اللغة-: "وما فرط المسلمون في آداب هذا القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كَلِمَه، ولا يدركون حِكَمَه، ولا ينتزعون أخلاقه وشيمه؛ وصاروا إلى ما هم عليه من عربية كانت شرًّا من العجمة الخالصة واللكنة الممزوجة، فلا يقرؤون من هذا الكتاب إلا أحرفًا، ولا ينطقون إلا أصواتًا، وتراهم يرعونه آذانهم، ولا يحضرونه أذهانهم، وهم بعدُ لا يتناولون معاني كلام الله إلا من كلام الناس".

 

أيها الكرام: إن الدفاع عن العربية دفاع عن كيان أمة برمتها، ولا يكون ذلك إلا بهتك الأستار المسدلة التي يعمل من ورائها أشخاص -بل هيئات- اختارتهم الثقافة الغربية الوثنية ليحققوا لهذه الثقافة الوافدة الغلبة على عقولنا وعلى مجتمعنا وعلى حياتنا وعلى تراثنا، وبهذا يتم انهيار الكيان العظيم الذي بناه آباؤنا في قرون متطاولة.

 

قال الرافعي -رحمه الله-: "أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها وجودًا متميزًا قائمًا بخصائصه".

 

يقول أبو منصور الثعالبي -رحمه الله- في كتابه العظيم "فقه اللغة": "من أحبَّ الله تعالى أحب رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ومن أحبّ الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عُنِيَ بها وثابر عليها وصرف همته إليها". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

وكيف لا يكون الأمر كذلك والعربية هي الآخرة بالنبوة، بها نزل الوحي المعصوم العصي على التحريف والتصحيف، المعصوم من التغيير والتبديل، المحفوظ من الزيادة والنقصان.

 

قال الإمام الشافعي في الرسالة: "فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا له". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "واللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون".

 

أيها الأحباب: كيف لا تكون اللغة العربية عظيمة وبها نزل القرآن العظيم!! وقد بيّن الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه أن هذا الكتاب عربي، وأنه نزل بلسان العرب الذي كانوا به ينطقون، وليس أعجميًا بل هو قرآن عربي مبين، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ).

 

قال السعدي -رحمه الله- في تفسير الآية: "بلسان عربي، وهو أفضل الألسنة"، ثم قال: "وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل بضعة فيه -وهي قلبه-، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها وأوسعها، وهو: اللسان العربي المبين".

 

أيها الأحباب: إنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها في مواطن افتخارها ورسائلها وأراجيزها وأسجاعها، فعلم منها تلوين الخطاب ومعدوله، وفنون البلاغة، ودروب الفصاحة، وأجناس التجنيس، وبدائع البديع، ومحاسن الحكم والأمثال.

 

فإذا علم ذلك ونظر في هذا الكتاب العزيز، ورأى ما أودعه الله -سبحانه وتعالى- فيه من البلاغة والفصاحة وفنون البيان فقد أوتي العجب العجاب، والقول الفصل اللباب، والبلاغة الناصعة التي تحير الألباب، وتغلق دونها الأبواب، فكيف يأتي بعد هذا كله من يدعو للقطيعة مع هذه اللغة التي هي حاليًا تعاني ما تعانيه، ثم يريد أن يزيد الطين بلة بقطع خيط الوصل بصفة نهائية بعد أن قُطع أو كاد.

 

إنها مؤامرة محكمة يقصد من ورائها قطع الصلة مع القرآن؛ ليبقى القرآن فقط حبيس الرفوف أو محصورًا في الولائم والجنائز، بدلاً من أن يكون منهج حياة كما أراده منزله القائل: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا).

 

جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرًا وجهرًا، آمين، آمين، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي شرّف لغة العرب، وحفظ لغتها بكتاب حوى العجب، وضمنه البلاغة والفصاحة والإعجاز والأعاجيب ودروب الأدب، والصلاة والسلام على سيد العباد، أفصح من نطق بالضاد، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وتُبَّعِهِم بإحسان إلى يوم التناد.

 

معاشر الأحباب: لقد كان السابقون من الأمة يعرفون لهذه اللغة مكانتها، ويعتزون بها ويدافعون عنها، بل لقد بلغ من وعيهم بأهمية اللغة العربية واعتزازهم بها أن قال محمد بن أحمد الخوارزمي: "والله لأن أُهجى بالعربية أحب إليّ من أن أُمدح بالفارسية".

 

ونقل السيوطي -رحمه الله- في كتابه صون المنطق عن الإمام الشافعي -رحمه الله- قوله: "ما جهل الناس وما اختلفوا إلا لتركهم لغة العرب". وقال السيوطي: "وقد وجدت السلف قبل الشافعي أشاروا إلى ما أشار إليه من أن سبب الابتداع الجهل بلسان العرب".

 

قال الشاطبي في الموافقات: "إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسنة الأعجمية"، وبلغ من اهتمامهم بهذه اللغة أن كانوا يعدون اللحن في اللغة -يعني الخطأ في اللغة- هُجنة في اللسان، تمسخ المعنى وتفسد المبنى، حتى قال عبد الملك بن مروان كلمته المشهورة: "اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه".

 

حتى الصبية قديمًا كان لهم اعتناء فائق بالعربية ودقائقها وأسرارها، جاء في كتاب لباب الآداب عن الأصمعي قال: "اجتَزتُ بِبَعضِ أحياءِ العربِ، فرأيتُ صَبِيَّةً مَعَها قِربةٌ فيها ماءٌ وقد انحَلَّ وِكاءُ فَمِها -غطاء فم القربة- فقالت: يا عَمّ، أدرِكْ فاها، قَد غَلبَني فوها، لا طاقَةَ لي بِفيها. فأعنتُها، وقُلت: يا جارية، ما أفصحكَ! فقالت: يا عمّ: وهل تَركَ القرآنُ لأحدٍ فصاحةً؟! وفيه آيةٌ فيها خَبران وأمران ونَهيان وبِشارَتان! قلت: وما هي؟! قالت: قوله -تبارك وتعالى-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 7]،  قال: فَرَجَعتُ بِفائدةٍ، وكأنّ تلك الآية ما مرّت بِمسامِعي مِن قبل".

 

واليوم يراد من أطفالنا ومن شبابنا أن ينقطعوا عن لغة الوحي كي ينشؤوا منبتِّين لا علاقة لهم بلغة ولا قرآن ولا تراث، وهذا -إن شاء الله- لن يكون أبدًا؛ لأن القرآن عربي، والله تكفل بحفظه، وبالتالي فاللغة العربية محفوظة معه، فليرح أنفسهم أولئك الذين يتمنون أن تنقطع صلة المسلمين باللغة العربية، فذلك لن يكون أبداً: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

 

بل كان يجب أن يطالب بإحياء الصلة بهذه اللغة المجيدة، وذلك بأن توضع مناهج تهتم باللغة العربية وتجعلها في قمة الأوليات، وأن يعلَّم الأطفال متون النحو الصرف والبلاغة وغيرها من متون اللغة حتى تتقوى صلتهم بالقرآن.

 

قال الله -جل جلاله-: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)، فكما أن كتابنا مهيمن وحاكم على الكتب من قبله كذلك ينبغي أن تكون لغتنا مهيمنة وحاكمة على اللغات.

 

أيها الكرام الأماجد: لابد أن يخرج عقل هذا الجيل من السرداب الضيق العفن الذي وضعه فيه من سخر لخدمة غيرهم، حين أقنعوه بأن تطوره وتقدمه ونهوضه وتنويره موقوف على أخذه من الغرب، وأقنعوه بأن العلوم بالعربية علوم قديمة ومفرغة وليس فيها عطاء، وأن اللغة العربية جامدة عقيمة.

 

ولله در حافظ إبراهيم يوم يتكلم بلسان اللغة العربية وهي تنعي حظها بين أهلها:

 

رَجَعْتُ لنفْسِي فَاتَّهَمْتُ حَصَـاتِي *** وَنَادَيْتُ قَوْمِي فَاحْتَسَبْتُ حَياتِي

رَمَوْنِي بِعُقْمٍ فِي الشَّبَـابِ وَلَيْتَنِي *** عَقِمْـتُ فَلَمْ أَجْزَعْ لِقَوْلِ عُدَاتِي

وَلَـدْتُ وَلَمَّا لَـمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي *** رِجَـالاً وَأَكْفَـاءً وَأَدْتُ بَنَـاتِي

وَسِعْـتُ كِتـابَ اللهِ لَفظًا وَغَايَةً *** وَمَا ضِـقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ

فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلةٍ *** وَتَنْسِيـقِ أَسْـمَاءٍ لِمُخْترَعَـاتِ

أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ *** فَهَلْ سَأَلُـوا الْغَـوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي

 

إلى أن قال:

 

أيهجـرني قومـي عفا الله عنهم *** إلى لغـة لم تتصـل بـرواة؟!

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى *** لُعَابُ الأفاعي في مسيل فرات

فجاءت كثوبٍ ضـم سبعين رقعة *** مُشَكَّـلَةَ الألـوان مخـتلفات

 

نعم -أيها الكرام- ما تعطل العقل العربي وتوقف، وما جلس ينتظر ما يجول به الغرب من الأفكار إلا لما حصلت القطيعة بينه وبين تراثه المجيد وعلى رأسه اللغة العربية.

 

والغريب أن هذا الغرب الذي يريد منا اليوم الارتماء في أحضانه؛ هذا الغرب متعلق بتراثه وجذوره بشدة، ولا يتخلى عنها أبداً، فلماذا يطلب منا نحن أن نتخلى عن تراثنا مقابل التعلق بتراث غيرنا!! إنه الفكر الانهزامي والانبطاح العقلي والإحساس بالدون.

 

إن الأمة العزيزة الظاهرة المنصورة هي التي تعتز بلغتها، وتحرص على استقلالها اللغوي كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي سواء، وتحترم قوانينها اللغوية وتتمسك بها، والأمة الذليلة تفرط في لغتها حتى تصبح أجنبية عنها وهي منسوبة إليها، وينتهك عرضها اللغوي برضا منها أو بسعي، وإلى مثل هذا أشار الرافعي في كتابه الماتع "تحت راية القرآن" قال: "هل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة واحدة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى، ويوجب إسقاطها من اللغة جملة".

 

تأملوا -رعاكم الله-!! مجمع كامل ينعقد ليقرر إبطال كلمة إنجليزية تسربت إلى اللغة الفرنسية، ثم يواصل كلامه فيقول: "وما ذلّت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضًا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع".

 

ثم يقول: "فإن تركت الأمة لغة كتاب ربها إلى لغة أعدائها الذين يُبيِّتون ويظهرون عداءها، تعتد بلغتهم وتحفل، فاعلم أنها أصبحت أمة لا شخصية لها، وعُدَّ شخصيتها في الموتى وكبِّر عليها أربعًا". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

وتأمل معي -رعاك الله- هذا الكلام النفيس الذي يكتب بماء العين لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم؛ يقول -مبينًا عظمة اللغة العربية-: "واعلم أن اعتياد اللغة -أي العربية- يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قويًّا بيّناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق".

 

ثم يقول: "واعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل مع صاحبه، ولأهل السوق أو للأمراء، أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه، فإنه من التشبه بالأعاجم". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

وهذه الظاهرة منتشرة في حياتنا، وهي حشو الكلام -الخلط ما بين العربية ولغة أخرى كالإنجليزية أو الفرنسية- منتشرة في حياتنا وفي إداراتنا خصوصًا، يأتي الرجل -ربما كان كبير السن- لقضاء حاجة ما، فيخاطب بكلمات إنجليزية أو فرنسية، أو تجد الرجل يتكلم مع أبنائه بغير العربية فيما بينهم، ويشعرون بالفخر في ذلك، وأقسم بالله العظيم ليس في ذلك فخر أبدًا، ليس عيبًا أن تتعلم اللغات وتدرس، فهذا مما ينتفع به قطعًا، ولكن العيب أن يكون ذلك على حساب العربية، وأن تهجر اللغة العربية، وأن ينظر إليها نظرة ازدراء وسخرية كما يحصل في كثير من الميادين التي تسمى كذبًا فنًا وإبداعًا من سخرية بالعربية.

 

أيها المؤمن: دافع عن لغتك، وقبل ذلك تعرّف عليها وتشرّف بها وتشبّه بهمزة الاستفهام، متقدمًا في الخير مع المتقدمين، ولا تشبه في تأخرك حرف التأنيث والتنوين، ضارِعْ الأبرار بعمل التواب الأواب، فالفعل لمضارعته الاسم فاز بالإعراب، وأخفِ عملك إخفاء الضمير المستتر؛ فإن الخفاء يجمع يديك على النجاة والاستعصام، كما استعصمت الواو من القلب بالإدغام.

 

ولا يكونن ضميرك عن الدين ساليًا كما لا يكون "أَفْعَلُ" من الضمير خاليًا، وقف لربك بالإخلاص والتجريد، كما تقف بنو تميم على التشديد، ولا تكن في يقينك بين مذهبين؛ كالهمزة الواقعة بين بين، وليحجبك فهمك عن الركون إلى الأفكار الواردة المستولية، كما تحجب عن الإمالة الحروف المستعلية.

 

اللهم أصلح أحوالنا...

 

 

 

المرفقات

الجنية في فضل اللغة العربية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات