إلى متى الغفلة (1)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/خطر الغفلة وبعض صورها 2/درجات الغفلة 3/المقصود بالغفلة 4/التحذير من الغفلة والابتعاد عنها 5/الغفلة عن الآخرة والنشاط للدنيا 6/مفاسد الغفلة 7/أسباب الاستمرار في الغفلة 8/نماذج رائعة في تذكر السلف للآخرة وعدم غفلتهم عنها

اقتباس

الغفلة -أيها الإخوة-: درجات، فغفلة الكافر غفلة كاملة -نسأل الله العفو والعافية- أما المسلم فغفلته أخف؛ صح عند الترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله صلى الله عليه وسلم: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن". قال العلماء: "من اتبع الصيد" أي لازم اتباع الصيد، والاشتغال به غفل عن الطاعة والعبادة، و...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

يقول الله -تعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)[الأنبياء: 1-3].

 

لقد اقترب وقت الحساب، قرب الوقت الذي يحاسب فيه الناس على أعمالهم، هذه الآيات نزلت منذ أكثر 1400 سنة، فكيف بقرب الحساب اليوم؟

 

لكن الخطورة ليس في قرب الحساب فحسب، الخطورة في حال الناس وهم يستقبلون الحساب.

 

والآيات هنا تقرع عصا الإنذار؛ لأنه ليس من اللائق ولا المقبول استقبال مثل هذا الأمر العظيم بقلوب لاهية.

 

قد يغفل الإنسان عن حلاله، قد يغفل عن عياله، لكن أن يغفل عن مصيره، عن عاقبته، عن مستقر أمره، هذا هو الخسران المبين.

 

والخطورة الثانية: أن الغفلة في الآية جاءت بصيغة الدوام، فهؤلاء الناس مستمرون في غفلتهم لا يبرحون عنها، ولا ينصرفون عنها، ولا يعالجونها، ولا يستيقظون منها، توجهوا إلى المتع المادية الدنيوية، وانغمسوا في اللهو واللعب والتجارة والكسب، وأعرضوا بقلوبهم عن الحساب، وعن ذكر الآخرة لدرجة أنهم أثناء تلاوة الآيات عليهم، وسماع الوعظ يستمعون إليه وهم مستمرون في اللعب: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء: 2].

 

الغفلة -أيها الإخوة-: درجات، فغفلة الكافر غفلة كاملة -نسأل الله العفو والعافية- أما المسلم فغفلته أخف؛ صح عند الترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قوله صلى الله عليه وسلم: "من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن".

 

قال العلماء: "من اتبع الصيد" أي لازم اتباع الصيد، والاشتغال به غفل عن الطاعة والعبادة، ولزوم الجماعة والجمعة.

 

قديما كان الصيد مشغلة وغفلة، أما اليوم من اتبع الانترنت الساعات الطوال غفل، ومن أدمن على الفضائيات غفل، ومن خالط وعاشر أهل الغفلة غفل.

 

غفل في اللغة: يغفل عنه تركه وسها عنه، والمغفل: الذي لا فطنة له، والمغفول من الإبل البلهاء التي لا تمتنع عن فصيل يرضعها، ولا تبالي من حلبها.

 

ولعل هذا الوصف يتجه إلى الغافل الذي ترك الشياطين تجره من خلال شهواته كما تشاء، يمينا وشمالا، بلا إدراك منه، ولا فطنة، ولا مبالاة كتلك الناقة البلهاء.

 

فالمسلم إذاً ينبغي أن يتنزه عن الغفلة، وبالذات الغفلة عن واقعنا الإيماني، عن مستوى إقباله عن الطاعات، الغفلة عن مدى انغماسه في المعاصي، صغيرها وكبيرها، الغفلة عن مدى بعده عن كتاب الله -تعالى-، وهجره إياه، الغفلة عن الموت، الموت الذي هو أقرب لأحدنا من شراك نعله.

 

المسلم ينبغي أن يتنزه عن هذه الغفلة في زمن نعيشه اليوم أصبحت فيه الغفلة شعاراً بارزا في المجتمع.

 

وأذكر لكم آيات تنطق بهذه المشكلة: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 6-7].

 

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 8].

 

أخرج أبو حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: "بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره، فيخبرك بوزنه، وما يحسن يصلي".

 

(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الروم: 7].

 

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعلمون منافعها ومضارها، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون، وكيف يجمعون، وكيف يبنون ونحو ذلك مما ليس له منه أثرا في الآخرة".

 

والغريب اليوم أن ثناء الناس ينصب على علوم الدنيا، وتقديرهم يرتكز على من برع في البناء، أو برع في البيع والشراء، أو برع في علم الفلك أو الفيزياء، أو الطب، ولو كان هؤلاء البارعون أشد الناس بعداً عن الدين، ولو كانوا عصاة فاسقين، ولو كانوا علمانيين تجد لهم عند الناس شأن عظيم، ووجاهة وتقدير؛ لماذا؟

 

لأنهم مبرزون في علوم الدنيا، طيب والآخرة؟!

 

ولا أقصد بذلك علم الشريعة فحسب، كلا، وإنما القصد ما أثر علمهم على دينهم؟ ما أثر ذلك العلم ما الذي اكتسبوه على عبادتهم على قربهم من الله -تعالى-؟

 

أما يزال الواحد منهم بالرغم من ثقفته العالية، ووجاهته؛ كما يذكر الحسن البصري: "لا يحسن يصلي".

 

(يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7] الحياة الدنيا القصيرة الفانية، متاع الغرور، الحياة الدنيا التي تعد إلى جانب الحياة الآخرة كالقطرة إلى جانب البحر المتلاطم، يعني لا شيء؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع" [رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح].

 

لاحظوا قوله تعالى: (ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني أنهم ما أدركوا حقيقة الحياة الدنيا، حتى الحياة الدنيا ما أدركوا حقيقتها، ولا جوهرها، ولا الغاية منها، وإنما تركز جهدهم من وقت ومال وتفكير وحركة وإنفاق في معرفة ظواهرها في التعلق بقشورها، وغفلوا عن سر الحياة.

 

والمقصود: "غفلت قلوبهم" عن الالتفات إلى الغاية من الحياة، وإلا فالمعرفة السطحية بأن الدنيا قصيرة، وأنها فانية، وأن هناك جنة، وأن هناك نارا، وأننا خلقنا لعبادة الله، إلى آخره من هذه المفاهيم.

 

هذه يسمعها أي واحد من الناس، موجودة معرفة سطحية، تسأله: أين نحن في آخر الدنيا؟ قال: نحن في الآخرة. ماذا سيكون بعد هذه الدنيا؟ سيكون الموت. هناك نار؟ قال: نعم هناك نار.

 

لكن عند النظر في حال وواقع المسلم لا تكاد تلمس أثرا لهذه المعرفة.

 

ومن البلية أن ترى لك صاحبا *** في صورة الرجل السميع المبصر

فطن بكل مصيبة في ماله *** وإذا يصاب بدينه لم يشعر

 

هناك غفلة مخيفة، تجد حياة المسلم بعيدة عما تقتضيه مثل تلك المفاهيم، تجده يركض وراء الدنيا، متيقظ لمتاعها وأموالها، وزخارفها، وفي الجهة الأخرى خاملا غافلا عن الآخرة، لا يحسب لها على عظم قدرها حسابا.

 

وما أسهل أن يتنازل عن الآخرة من أجل حطام الدنيا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "يبيع دينه من أجل عرض من أعراض الدنيا".

 

نوم عن الصلاة، تعامل بالربا، استماع للمحرمات من موسيقى وغناء، غش ورشاوى، إهمال للحجاب وموالاه للكفار، وسوء ظن بالله -تعالى- وقصد الكهان، واستخدام السحر، وشيء طويل مرعب ينم عن غفلة، وبعد عن الله -تعالى-.

 

وهنا يبين الله -تبارك وتعالى- لنا وسيلة تهدي إلى الانتباه من الغفلة، إذ يقول: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) موعد مسمى (وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 8].

 

التفكر بينك وبين نفسك، قف قليلا وتفكر؛ كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) [سبأ: 46].

 

اخلُ بنفسك قليلا، وتأمل في خلق السماوات والأرض وما بينهما: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ).

 

نقل الشنقيطي قول الزمخشري في تفسير الآية: "أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم، أي في قلوبهم الفارغة من الفكر".

 

أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى) [الأحقاف: 3] كقوله تعالى عندما وصف أولي الألباب: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) قال: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بعد هذا التفكر: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

 

هذا هو حال المؤمنين الذين يدركون قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115].

 

كم من إنسان قيل له: تعال وشارك في عمل صالح؟ فيقول: مشغول.

 

تعال احضر جلسة طيبة؟ فيقول: مشغول.

 

تعال استمع إلى محاضرة نافعة، خذ هذا الشريط استمع إليه، يقول: مشغول، سبحان الله!.

 

استرح قليلا يا أخي، استرح من هذا الشغل، صف قلبك من كدر الدنيا، اعط فرصة للآخرة.

 

ألا تفتقد الخشوع في الصلاة؟

 

هناك فراغ حتى في الصلاة في قلب المؤمن.

 

ألا تفتقد تلاوتك لكتاب الله -تعالى-؟

 

لقد أحسن ابن القيم حين نقل كلام أحد الصالحين إذ يقول: "مساكين أهل الدنيا خرجوا منه وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟" أطيب ما فيها المال والطعام واللهو واللعب والسفر للخارج والتنزه! قال: "أطيب ما فيها محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه".

 

لكن من يتذوق هذه الطيبات؟! أيتذوقها من يعيش عقوبة الغفلة؟! كيف يتذوقها وقد أطبقت عليه غفلته؟!.

 

وكما قال ابن الجوزي: "ربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله، فظن ألا عقوبة وغفلته عما عوقب به عقوبة" -الغفلة هي عقوبة- قال: "وكما قال أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعطيك ولا تعاقبني؟ فيقل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري -يعني غافل- أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي" هذه عقوبة.

 

وقد سئل وهب بن الورد: "أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من هم".

 

فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، وأطلق لسانه فحرم صفاء قلبه، وأثر شبهة في مطعمه فحرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة.

 

أسأل الله -تعالى- أن لا يجعلنا وإياكم من المحرمين.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد إمام المتقين، وسيد المرسلين، وعلى آله وصحبته أجمعين، وعلى من سار على نهجه، واقتدى بهداه إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فيقول تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179].

 

سبحان الله! كيف تعطل الغفلة أجهزة الإحساس في الإنسان؟ قلب لا يفقه، عين لا تبصر، وأذن لا تسمع؟ حتى يصبح الإنسان المكرم بسبب غفلته كالبهيمة، بل أضل من البهيمة، لماذا؟ لأنه ضل عن حقائق الأمور، اجتهد في ظواهرها، نعم كد وكدح، لكنه غفل عن حقيقتها.

 

لقد أخبرنا الله -تعالى- بعد هذه الآية بآيتين بأمر خطير، هو سبب من أسباب استمرار الغفلة، إذ يقول: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[الأعراف: 182-183].

 

الاستدراج هو استفعال من درجة بمعنى صعد ثم ارتفع فيه، قال أحد المفسرين: "واستدراجه تعالى إياهم بإدرار النعم عليهم مع انهماكهم في الغي".

 

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة في المسند، وعند الطبراني والبيهقي قوله: "إذا رأيت الله -تعالى- يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج".

 

ولذلك قال تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)[الأعراف: 182] يعني أنهم يحسبون أمورهم طيبة، وكل شيء على ما يرام؛ كما قال الأندلسي: "يحسبون أنه أثرة من الله" فالمال في ازدياد، والصفقة ناجحة، والجاه في أوجه، والناس تخدم، والخير واجد، ولا أحسن منها أوضاع، ولا يدري المغفل أن الله -تعالى- لا يقيم للدنيا عنده وزنا، ولا ثقلا، وأنها عنده تبارك وتعالى أحقر من جناح بعوضة، وأنه أعطاها لأرذل خلق الله، أعطاها للنمرود ولفرعون ولهمان ولقارون ولأبي جهل، ولغيرهم من عتاولة الكفر والمعصية، ولذلك قال تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران: 178].

 

وقال تعالى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 131].

 

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[الأعراف: 182-183] أمهلهم فهو متاع قليل في زمن محدود، ولذلك عز من قائل: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم: 84].

 

فإن ما يزيد في غفلة الإنسان تتابع الخير، وطول الأيام والشهور، بل والسنين بلا عقوبة واضحة المعالم، وإن كان هو واقعا في العقوبة من حيث الغفلة، لكن المقصود أنه لا يشعر، ولا يدرك ذلك.

 

ومما يحمل على الاستمرار في الغفلة: الغرور بالصحة، أو الغرور بالشباب، والأمن الوهمي من عقوبة الله، ولذلك قال بعض السلف: "إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه، وأنت مقيم على معاصيه، فاحذره، فإنما هو استدراج يستدرجك به".

 

ولنتذكر قوله تعالى: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر: 15- 16].

 

قال تعالى: (كَلَّا)[[الفجر: 17].

 

قال ابن القيم: "(كَلَّا) أي ليس كل من أنعمته أو نعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته، ولا كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته، بل أبتلي هذا بالنعم، وأكرم هذا بالابتلاء".

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا لمن يحب" [أخرجه ابن أبي شيبة].

 

قال بعض السلف: "ربما مستدرج بنعم الله وهو لا يعلم، وربما مغرور بستر الله وهو لا يعلم، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم".

 

ولقد كان أكثر الناس خوفا من عقوبة الله صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم-، نعم، أعظم رجالات الأمة إيمانا، والأخبار في ذلك كثيرة.

 

أذكر منه على سبيل المثال لا الحصر: قول أبي الدرداء إذ يقول: "إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة: أن يقال لي: يا أبا الدرداء قد علمت فكيف عملت فيما علمت" هذا أخوف ما يخافه.

 

وكان عثمان بن عفان يقف عند القبر فيبكي، حتى تتبتل لحيته.

 

وأبو ذر كان يقول لما عرضت عليه النفقة: "عندنا عنز نحلبها، وأحمرة ننقل عليها، ومحرر يخدمنا، وفضل عباءة، وإني أخاف الحساب فيها".

 

سبحان الله العظيم! عنز يحلبها، وأحمرة ينقل عليها، ومحرر يخدمه، وفضل عباءة، قال: أخاف أن أسأل عنها أمام الله يوم القيامة، كيف بمن عنده الملايين؟!

 

قرأ سليم الداري ليلة سورة الجاثية، فلما أتى على هذه الآية: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21] جعل يرددها ويبكي حتى أصبح، يقوم الليل يقرأ هذه الآية يرددها ويبكي حتى أصبح.

 

هذه -أيها الناس- أمثلة لرجال لم يسقطوا في غياهب الغفلة، والركود ونسيان الموت القريب واليوم الموعود، بل كلما زاد إيمانهم زادت يقظتهم.

 

أسأل الله أن يحيي قلوبنا.

 

عباد الله: لنحمد الله على النعمة، لنحمد الله على نعمه، ولنشكره عليها بطاعته، وترك معصيته، وتعظيم حدوده، والبعد عن حرماته، ولنقبل على كتاب الله، تدبراً لآياته، وتأملا في معانيها.

 

إن نصيبنا في هذه الأرض ما هو إلا قدر زهيد من نصيبنا الضخم في الوجود، وحياتنا على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة في الكون؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا، وما للدنيا ومالي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف ساعة من النهار ثم راح وتركها" [أخرجه أحمد].

 

هذه هي الدنيا في مسيرنا الطويل، كأنها ساعة من الاستظلال تحت شجرة، ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها مع آخر يعيش لهذه الدنيا، ومن أجل هذه الدنيا وحدها، ولا ينتظر ما وراءها فلكل منهم ميزان، ولكل منهم ضوء، يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال، ذاك يرى ظاهرا من الحياة الدنيا، وهذا يدرك ما وراء الظاهر بقلبه قبل عقله، يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن وغيب وشهادة، ودنيا وآخرة، وموت وحياة، وماض وحاضر ومستقبل، إنه يقظ، إنه لا يعيش غفلة الآخرين؛ قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف: 205].

 

لا تكن من الغافلين.

 

اللهم أنعم علينا بقلوب حية يقظة...

 

 

 

المرفقات

متى الغفلة (1)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات