شهيد كربلاء ‘الحسين‘

توفيق الصائغ

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/اسمه ونسبه 2/حكم من أبغض آل البيت 3/إخوانه وقراباته 4/بعض فضائله 5/منزلته ومكانته عند النبي 6/جماله ووسامته 7/شجاعته 8/منزلته ومكانته عند الصحابة 9/طلبه للشهادة ومشاركاته في المعارك 10/مبايعته وخلافته 11/قصة خروجه لكربلاء واعتراض الصحابة عليه 12/دفاع أهله وقرابته عنه 13/قصة استشهاده 14/جريمة قتله 15/الذين شاركوا في قتله 16/النهاية المأساوية لقتله

اقتباس

ربما ضاق بنا هذا الكساء زمانا ومكانا، لكن كساء المحبة الذي ألبسنا الله إياه لقرابة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- منذ عرفنا شمائلنا من إيماننا، كساء متسع يسع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كساء المحبة الذي ندين فيه لله -عز وجل- في قرابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، كساء واسع يتسع للخمسة وزيادة. محطتنا اليوم أبو عبد الله الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- خامس أهل الكساء، وابن سيدة النساء، المولود بـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين.

اللهم صل وسلم عليه كلما هبت النسائم، وصل يا رب وسلم عليه عدد قطر السماء، وعدد أيام الدنيا، وعدد ترب الأرض، يا رب سلم وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

إخواني: ربما ضاق بنا الكساء الذي جمع فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-، خاصة قرابته، ربما ضاق بنا هذا الكساء زمانا ومكانا، لكن كساء المحبة الذي ألبسنا الله إياه لقرابة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- منذ عرفنا شمائلنا من إيماننا، كساء متسع يسع أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، كساء المحبة الذي ندين فيه لله -عز وجل- في قرابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، كساء واسع يتسع للخمسة وزيادة.

 

محطتنا اليوم أبو عبد الله الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- خامس أهل الكساء، وابن سيدة النساء، المولود بالمدينة المنورة -على ساكنها الصلاة والسلام- في الخامس من شعبان 4 من الهجرة.

 

الحسين بن علي بن أبي طالب، بن علي، حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بل علي الذي يحبه الله -عز وجل- ويحبه النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

يا أبا السبطين أحسنت فزد *** فعلكم يا شيخنا فعل الأسد

رمد تفعل هذا بالعدى كيف *** لو عوفيت من ذاك الرمد

 

أبوه رضي الله عنه ابن عم النبي وفدائيه، وأول من آمن به -صلى الله عليه وسلم- من أهل بيته، وجدته خديجة -رضي الله عنها وأرضاها-، وأمه بضعة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- فاطمة.

 

المجد يشرق من ثلاث مطالع *** في مــهد فاطمة فما أعلاها

هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ *** من ذا يداني في الفخار أباها

هي ومضة من نور عين المصطفى *** هادي الشعوب اذا تروم هداها

 

فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها- حب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقطعة منه.

 

أكرم بفاطمة البتول وبعلها *** وبمن هما لمحمد سبطان

غصنان أصلهما بروضة أحمد *** لله در الأصل والغصنان

 

أمه فاطمة، أبوه علي، جده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، هل بعد سدرة المنتهى من منتهى؟

 

ماذا أقول فيمن اختاره الله واصطفاه، وطهره على العالمين صلى الله وسلم على ذلك الإمام؟ جدته لأمه خديجة، عمه ذو الجناحين، أخوه الحسن.

 

نسب كأن عليه من شمس الضحى *** نوراً ومن فلق الصباح عمودا

لو كان يقعد قوما فوق الشمس من كرم *** قومٌ بآبائهم أو مجدهم قعدوا

 

ما ظنكم برجل جده النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تلقاه، وعق عنه، وسماه!.

 

هو الذي كان يحمله ويشمه صلى الله عليه وسلم قائلا: "‏هما ريحانتاي من الدنيا".

 

يا حبذا ريح الولد *** ريح الخزامى في البلد

أهكذا كل ولد *** أم لم يلد قبلي أحد

 

ما ظنكم بحفيد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو ينشأ في هذا النسب الطاهر، هنا وقفة المحبة بآل بيت النبوة الذين طهرهم الله من فوق سبع سنوات؟.

 

يا أهل بيت رسول الله حبكم *** فرض من الله في القرآن أنزله

 

كفاكم -أيها الإخوة- حين نقف عند هذه المحبة، فإننا نقف على عتبة من الديانة عظيمة، وباب من أبواب الجنة كبير.

 

إننا نقف عند نسب تقف عنده كل الأنساب، يقف عنده كل الفخر، ولذلك لما جاء قبيصة إلى معاوية -رضي الله عنه- قال: "يا أمير المؤمنين أسألك عن قريش؟ قال له معاوية: على الخبير سقطت، أما أكرم نفسا، وأبا وأما وجدة وعمة وعما، فالحسين بن علي -رضي الله عنه- الحسين وعن أبيه".

 

أيها الإخوة: سأعود كرة أخرى، ومرة بعد مرة، لأعبر عن ذلك التحنان والشوق والمحبة لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أسائلكم بالله لو لم تنصرف هذه العاطفة لآل بيت النبوة المطهر؟ لو لم تنصرف لآل النبوة -عليه الصلاة والسلام- وقطع النبي المتناثرة في الأرض لمن تنصرف؟

 

يقول ابن تيمية: "من أبغض آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا".

 

اللهم إنا نلوذ بك، ونعلن بين يديك، أننا نحب محمدا وصحابته وقرابته، لا نفرق بين أحد منهم.

 

أبو عبد الله: إخوته الأشقاء: الحسن ومحسن، وزينب الكبرى، وأم كلثوم.

 

غير الأشقاء: أبوبكر وعمر وعثمان، أبوبكر من ليلى بنت مسعود وأبو بكر من أم البنين وعبد الله ويحيى وعون والعباس ومحمد بن الحنفية ومحمد الأوسط ومحمد الأصغر وأم هانئ وأم سلمة وأم الكرام وأمامة وجمانة وخديجة وفاطمة وزينب الصغرى ورقية.

 

هل يعرف أبنائنا هذه الأسماء؟ هل يعرف أبناءنا سير الصالحين من قرابة النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ هل تتردد هذه الأسماء في بيوتنا أم أننا أعرضنا عنها ذكرا؟

 

الحسين كان صلى الله عليه وسلم يحمله ويدنيه ويقربه من صدره.

 

ولله حكمة بالغة أن يذهب أبناء النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلا يبقى له عقب.

 

ثم لما أنجبت فاطمة بنيها، صار هؤلاء الأبناء أبناءه صلى الله عليه وسلم، وصارت عاطفته مصبوبة لهؤلاء، يضع فاه صلى الله عليه وسلم في في الحسين، ويقول: "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من حب حسينا، حسين سبط من الأسباط".

 

في البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا".

 

وأخرج الترمذي بسند حسن عن يوسف بن إبراهيم: أنه سمع أنس بن مالك يقول: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أي أهل بيتك أحب إليك؟" قال: "الحسن والحسين".

 

وكان يقول لفاطمة: أدي لي ابني، فيضمهما ويشمهما صلى الله عليه وسلم.

 

عند أحمد في المسند من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني: الحسن والحسين".

 

من شدة خوفه عليهم من شدة حبه عليهما صلى الله عليه وسلم يمسح عليهما، ويدعو لهما، ويعوذهما، ويقول كما في البخاري من حديث ابن عباس: "كان النبي –صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكم كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة".

 

نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في حضرة من الجلالة والمهابة يخطب في أصحابه، وهو متربع على منبره صلى الله عليه وسلم، يتلو الآيات والحكم، بينما هو كذلك عليه وآله الصلاة والسلام إذ به ينزل من منبره، أي خطب عظيم أنزلك من المنبر يا رسول الله؟ رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدهما أو كلاهما يعثران على قميص لهما أحمر، فنزل فأخذهما، ثم صعد بهما إلى المنبر، وقال: "صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هاذين فلم أصبر".

 

ثم أخذ في الخطبة صلى الله عليه وسلم.

 

إن الذي حملهما على المنبر من جلالة ومهابة واحترام كان يحملهم على الشهباء صلى الله عليه وسلم يقدم أحدهما، ويؤخر الآخر، يقبلهما، وربما بال أحدهم على صدره صلى الله عليه وسلم فيسيري البول على جسده الشريف، فيفرع أصحابه، فيقول: لا تفزعاهما حتى يقضيان ما هما فيه.

 

كان الحسين شبيها بالنبي -عليه الصلاة والسلام-، ولما جيء برأس الحسين للشقي يقلبه بعود، يقول: "لله دره ما كان أحسنه من وجه" فقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كان أشبهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-" [الحديث في البخاري].

 

الحسين لم يكن مترفعا بنسبه، ولا بقرابته من النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل كان على غرز أبيه وأخيه، متخففا من الدنيا، زاهدا عنها، يلبس الخز من الثياب، يتختم رضي الله عنه وأرضاه، يخضب بالوسمة، كان ذا مكانة سامية في أعين الصحابة والقرابة، حتى في أعين من يتصلون معه في الأبوة.

 

جرى بين الحسين وبين أخيه محمد بن الحنفية كلاما فانصرفا مغضبين، فلما وصل محمد بن الحنفية إلى بيته أخذ رقعة، وكتب فيها: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه الحسين بن علي بن أبي طالب، أما بعد: فإن لك شرفا لا أبلغه وفضلا لا أدركه".

 

محمد بن حنفية كان يعرف هذه الحقيقة؛ لأنه صرح بها ذات مرة، وقال: "لو كان ملئ الأرض مثل أمي ما بلغ مثل أمه رضي الله عنه وأرضاه".

 

"بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه الحسين بن علي بن أبي طالب أما بعد: فإن لك شرفا لا أبلغه، وفضلا لا أدركه، فإذا قرأت رقعتي هذه، فالبس رداءك ونعليك، وسر إلي فترضني، وإياك أن أكون سابقك إلى الفضل الذي أنت أولى به مني، والسلام".

 

فلما قرأ الحسين الرقعة جمع إليه ثيابه، ولبس نعليه، وذهب إلى محمد بن الحنفية فترضاه.

 

الله الله ما أعظم خلق الأولين حين ينسبون الفضل إلى أهله، كان رضي الله عنه وأرضاه شجاعا.

 

فتى الفتيان عند قعقعة السنان، ومعارك الفرسان، قاد مسيرة الجيش يوم الجمل، يقول له أخوه الحسن: "وددت أن لي بعض شدة قلبك".

 

كان شجاعا، خاض المعارك، كان من طلاب الشهادة، ستأتي المواضع التي طلب فيها الشهادة الحسين، ولكن قبل ذلك أقف وقفة لابد منها.

 

إذا كان الحسين بن علي بن أبي طالب كبيرا في عين محمد بن الحنفية أخيه، كيف كان في أعين الصحابة جميعا؟

 

أما في عين أبي بكر -رضي الله عنه- فكان حبيبا قريبا، عليا ذا شرف، يعرف أبوبكر مكانه، ويعرف مكانته.

 

أبو بكر كان يرعى الذمام في ذرية النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "ارقبوا محمدا في أهل بيته".

 

وكان يقول رضي الله عنه وأرضاه: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أصل إلى قرابتي".

 

أما عمر: كسى الصحابة جميعهم -رضي الله عنهم أجمعين-، ولم يكس الحسن والحسين، ما الخطب يا ابن الخطاب؟ لماذا تعافيت عن كسوة الإمامين الحسن والحسين؟

 

قال عمر -رضي الله عنه-: "هذه الثياب ليست بمنزلتهما، وليست لهما بحق".

 

بعث إلى اليمن فجيء إليه بكساء، طابت له نفس عمر، فأرسله طيبة بها نفسه للحسن والحسين.

 

عمر -رضي الله عنه وأرضاه- كان يفرض للحسن والحسين خمسة آلاف فريضة أهل بدر عاتبه في ذلك ابنه عبد الله بن عمر، فقال له عمر: "ائتني بأب كأبيهما، وأم كأمهما، وجد كجدهما، لأفرض لك مثل فريضتهما".

 

أبو هريرة كان يسير ذات يوم في جنازة، وفي ركبه الحسين بن علي، تعب الحسين، فقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- ينفض التراب عن قدميه، بطرف ثوبه، فقال الحسين: "يا أبا هريرة وأنت تفعل هذا؟" قال: "دعني، فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم".

 

عمرو بن العاص، بينما هو في ظل الكعبة إذ رأى الحسين بن علي مقبلا، فقال: "هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء" [أخرجه بن أبي شيبة].

 

ابن عباس، يعرف للقوم قدرهم، ويعرف حقهم ومستحقهم، يقول مدرك بن عمارة: رأيت بن عباس أخذا بركاب الحسن والحسين، قيل له: أتأخذ بركابهما وأنت أسن منهما؟ قال: "إن هذين ابنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوليس من سعادتي أن أخذ بركابهما؟".

 

كان ابن عباس: إذا دخل عليه الحسين بن علي يقول: "مرحبا بالحبيب بن الحبيب".

 

هذه هي المكانة التي ينبغي أن تكون لأبناء علي، ولنسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فاطمة.

 

أقول هذه الجزئية، ولا بد أن أقولها؛ لأن الباحث اليوم في أدبيات أهل السنة، لا يجد ما يستحق القوم من التحنان والعاطفة، والحب والولاء، ونحن أولى بالحسن والحسين من غيرنا؟.

 

كان الحسين زاهدا متعففا عن الدنيا، من شعره المحفوظ عنه أنه كان يقول:

 

لئن كانت الدنيا تعد نفيسة *** فدار ثواب الله أغلى وأنبل

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت *** فقتل سبيل الله بالسيف أفضل

وإن كانت الأرزاق شيئا مقدرا *** فقله سعي المرء في الرزق أجمل

وإن كانت الأموال للترك جمعها *** فما بال متروك به المرء يبخل

 

الحسين كما أسلفت كان متطلبا للشهادة، لعله سمع جده صلى الله عليه وسلم يقول: "وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا".

 

كان متطلبا للشهادة، شارك في جيش سعيد بن العاص الأموي إلى جرجان، وشارك في جيش عبد الله بن أبي السرح إلى أفريقيا.

 

وشارك الحسن وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير في غزوة طبرستان، تحت إمرة سعيد بن العاص.

 

شارك في جيش يزيد بن معاوية الذي غزى القسطنطينية في عهد معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-.

 

كان متطلبا للشهادة، يسعى إليها سعيها، لكن له مع الشهادة قدرا لن يخلفه، وموعدا لن يتأخر عنه، هو ما سأرجئه للخطبة الثانية.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، يا طوبى للمستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد، وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 

أما بعد:

 

شاء الله -عز وجل- أن يحقن الله بالحسن بن علي بين طائفتين، مصداق نبوة جده صلى الله عليه وسلم: "إن ابني هذا سيد، وإن الله يصلح به بين فئتين".

 

بويع له رضي الله عنه وأرضاه، ومكث في الخلافة الراشدة التي أخبر عنها جده صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، تتمة العدد الذي أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نزل عن الخلافة راضية بها نفسه لمعاوية، حقنا لدماء المسلمين.

 

الحق -أيها المستمع- أبا عبد الله الحسين لم يكن موافقا للحسن في ذي الشأن، وقد راجع أخاه غير ما مرة، ولكن الحسن كان ماضيا في هذا الأمر، وشدد على الحسين، حتى ما كان من الحسين إلا أن أطاع وأناخ، وبايع كما بايع أخاه الحسن.

 

بقي معاوية خليفة للمسلمين، ثم عهد بذلك لابنه يزيد، الأمر الذي لم يرض الحسين.

 

اعتاد الناس أن يكون الأمر شورى، فلم يكن الأمر شورى، رأى معاوية بأن يعهد بالأمر إلى يزيد، فبويع ليزيد بعد وفاة معاوية، ولكن الحسين لم يبايع والي المدينة ليزيد هو ابن الزبير وجماعة، ثم رجع جماعة من الذين لم يبايعوا، فبقي الحسين وابن الزبير لأمر ما شاءه الله -عز وجل-.

 

خرج الحسين وابن الزبير من المدينة إلى مكة، وأخذ أهل الكوفة يكاتبون الحسين، وينادونه باللحاق بهم، وأنهم سينصرونه.

 

جاءت هذه الكتب حتى ملئت جرابين عند الحسين، لكن الحسين حين كان في مكة أرسل مسلم بن عقيل، نزل مسلم على هانئ بن عروة، كتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بعد أن رأى إقبال الناس عليه، قال: "أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل علي إذا أتاك كتابي".

 

أراد الحسين أن يخرج من مكة باتجاه العراق، تسامع الناس بهذا الخبر، اعتبطه محمد بن الحنفية فنهاه، لكن الحسين كان ماضيا في عزمه.

 

اعترضه عبد الله بن عباس ونهاه عن الخروج، ولكن الحسين كان عازما على الخروج، قال له ابن عباس: "إن كنت لابد فاعلا فعليك باليمن، فإن فيها شعابا وحصونا، ولئن لأبيك بها شيعا".

 

أيها الإخوة: كلام ابن عباس هذا يخط بمداد الذهب، وهو وثيقة مهمة جدا، لأولئك الذين تخونهم العبارات أحيانا، فيخطئون الحسين بن علي في خروجه، حتى وإن نهاه صحابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، فالحسين إمام راسخ في الإمامة، والعلم والفقه، وله نظر واجتهاد، وإنما خرج عن نظر واجتهاد.

 

وفي مقالة ابن عباس ما يدل ويوحي أنه لم يكن ينهاه عن فكرة الخروج، ولكنه كان ينهاه عن التوجه إلى الكوفة.

 

أراد منه ابن عباس أن يكف عن الخروج، فأبى إلا أن يخرج.

 

نهاه عن الخروج أبو سعيد الخدري حتى قال: "غلبني حسين على الخروج".

 

نهاه جابر بن عبد الله، نهاه جماعة من أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكنه استخار ثم عزم على الخروج.

 

في يوم التروية الثامن من ذي الحجة سنة 60 من الهجرة، خرج رضي الله عنه وأرضاه، وعلى بُعد ثلاث مراحل أدركه ابن عمر -رضي الله عنهما- وقال له: "يا حسين أحدثك بحديث لم أحدث به أحدا قبل، إن جبرائيل أتى جدك عليه الصلاة والسلام، فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، يا حسين إنها ليست لكم ولن تكون لتكون لكم".

 

ولكن الحسين أبى فالتزمه، وقال له: "استودعتك الله من قتيل، استودعتك الله من قتيل".

 

سار الحسين، لقي في بعض الطريق الفرزدق المعروف بمحبته لقرابة النبي -عليه الصلاة والسلام-، قال له: "أين تريد يا حسين؟" قال: "أريد الكوفة" قال: "يخذلونك لا تذهب، فإنك تأتي قوما قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أمية".

 

مضى الحسين في وجهه، حتى وصل إلى أرض العراق، وفي هذه الأثناء كان مسلم قد قتل، وأوصى قبل أن يقتل أن يرسل إلى الحسين بالكف عن الخروج؛ لأن أهل الكوفة قد كذبوه، وأنهم سيكذبون الحسين.

 

خرج الحسين، حبس ابن زياد هانئ بن عروة، خرج مسلم بن عقيل بأربعة ألاف، تخاذل الناس عنه وبقي معه ثلاثون رجالا، ثم ذهب رأس مسلم بن عقيل، حوصر واستسلم بعد أن أخذ الأمان، أوصى للحسين بعدم الخروج، مضى الحسين ولم يصله الكتاب إلا متأخراً، فلما بلغه مقتل مسلم بن عقيل أراد أن يرجع رضي الله عنه وأرضاه، ولكن أبناء عقيل قالوا: لا خير في العيش بعد هؤلاء، وأرادوا أن يأخذوا بثأر مسلم.

 

أرسل عبيد الله بن زياد الحر بن يزيد التميمي في ألف فارس، يقابلون سبعون رجلا.

 

مضى هذا الجيش، التقى بالحسين، تهيبوا للمرة الأولى أن يقاتلوا الحسين، ثم اضطروه إلى طريق آخر، سار إلى كربلاء.

 

وهنا جاء جيش عمر بن سعد بن أبي وقاص في أربعة ألاف مقاتل، كانوا يريدون الديلم، لكنهم تحولوا للحسين، أراد الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- أن يحقن دماء المسلمين، فعرض عليهم ثلاث خيارات: إما الرجوع من حيث أتى، وإما أن يذهب إلى ثغر من ثغور المسلمين، وإما أن يخلى بينهم وبين يزيد في الشام، لكنهم أبوا عليه، وأبى الشقي إلا أن يضرب عنق الحسين.

 

عمر بن سعد أراد أن ينزل الحسين على حكم عبيد الله بن زياد، وأبى الحسين أن ينزل على حكمه، انضم إلى الحسين -رضي الله عنه وأرضاه- الحر بن يزيد التميمي، وحق له أن ينضم، يقول الحر: "ويحكم والله إني أخير نفسي بين الجنة والنار، والله ما أختار على الجنة ولو قطعت أو حرقت".

 

حق الحق، وجد الجد، ولم يبق إلا النزال والقتال.

 

بات الحسين -رضي الله عنه- أهنأ ما يكون في تلك الليلة التي بات فيها يناجي ربه -جل وعلا-، بين دعاء وإخبات، وابتهال واستغفار.

 

وكان مما حفظت الأمة من دعائه: "يا الله أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك، عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة".

 

بقي الحسين ليلته يصلي ويدعو إلى أن نودي بالفجر، فصلى بهم الحسين -رضي الله عنه وأرضاه-، ثم تقلد سيفه بعد أن احتبى به، وأغفى إغفاءة يسيرة: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ)[الأنفال: 11].

 

أغفى إغفاءة يسيرة، يذكر بعض أهل التاريخ والسير: أنه رأى النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول له: "تقدم علينا، تقدم علينا " ثم توشح سيفه، وقال:

 

يا دهر أُفٍ لَكَ من خليلِ *** كَمْ لَكَ بالأشْراقِ والأصيلِ

من صَاحبٍ وطَالبٍ قَتيلِ *** والدَّهرُ لا يقْنعُ بالبدَيــلِ

وإنمّا الأمرُ إلى الجليــلِ *** وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلـي

 

قاتل الحسين، وقاتل من معه، تساقطت قرابته أمام عينه، والحسين لا يقول إلا: الله أكبر، ويقاتل، طعن بين يديه قرابته، وهم ينادون بلسان واحد: نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك، حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك.

 

يستعذبون مناياهم كأنهما *** لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا

 

تقدم أبناء الحسن: أبو بكر وعمر وطلحة، فقتلوا بين يديه.

 

تقدم أولاد الحسين: علي الأكبر وعبد الله وعمر، فقتلوا وهو ينظر.

 

يا لله جمع الله له القتلتين، فلذة بعد فلذة، تموت بين يديه.

 

تقدم أبناء عقيل.

 

تقدم أولاد عبد الله بن جعفر، كلهم ينادي بلسان الحال والمقال:

 

إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم

 

تساقط الآل والقرابة بين يديه، لم يثنيه ذلك أخذ سيفه، يقاتل ويجز في الرقاب، حتى جاء سهم فأضعفت قوته، ثم قتله الشقي.

 

ذبيح بلا جرم كأن قميصه***صبيغ بماء الارجوان خضيب

فللسيف إعوال وللرمح رنة *** وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدنيا لآل محمد *** وكادت لهم صم الجبال تذوب

وغارت نجوم واقشعرت كواكب *** وهتك استار وشق جيوب

يصلى على المبعوث من آل هاشم *** ويغزى بنوه إن ذا لعجيب

 

أتساءل هنا: كيف طاب للمقاتلين أن يسددوا سيوفهم في نحر ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!

 

ألم يتذكروا أولئك الذين سنوا السيوف، والذين أخرجوا الرماح: أن رأس الحسين هو الرأس القريب من صدر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وأن ريق الحسين كان مختلطا بريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟

 

ألم يخطر ببال القوم للحظة أو الوهلة: أن الدم الذي يسري في عروقه امتداد لدم محمد -صلى الله عليه وسلم-، أطهر دم، وأزكى نفس: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب: 33]؟.

 

قتل الحسين، سقط الرأس الزكي على الأرض، احتزه الشقي، وهو يظن أنه قد فاز، سكنت الدنيا كل الدنيا، وبقيت كربلاء كئيبة، حزينة، باكية.

 

صرير الأقلام التي تكتب التاريخ لا أدري بأي مداد كتبت هذه الواقعة! توقف كل شيء، وبقيت الحادثة المدلهمة التي ستبقى غصة في جبين التاريخ: أن ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبضعته وقطعته، قتلت هناك.

 

أخذ رأس الحسين، فرفع على أسنة الرماح، وبقيت أرض كربلاء فيها جثث القتلى، من قرابة الحسين، من أبناءه، من أبناء أخيه.

 

انسدل الستار عن هذه المسرحية المؤلمة، ثم سارت القافلة إلى الكوفة، فيها جرائم آل بيت النبوة، قافلة ثكلى، لا ترى فيها إلا باكيا، لا ترى فيها إلا حزينا.

 

بودهم أن يشقوا الجيوب، وأن يلطموا الوجوه، لكنهم تذكروا وصية الحسين: "لا تشقوا جيبا، ولا تلطموا خدا، ولا تقولوا هجرا".

 

كان في هذه القافلة، زينب بن علي، وسكينة بنت الحسين، وفاطمة بنت الحسين، والحسن بن الحسن، وعلي زين العابدين.

 

أما رأس الحسين، فقد حمل على أسنة الرماح، يقول حامله:

 

أوقر ركابي فضة وذهبا *** أنا قتلت الملك المحجبا

قتلت خير الناس أما وأبا *** وخيرهم إذ ينسبون نسبا

 

حتى أم عبيد الله بن زياد، لما أتاه الخبر، قالت: "ويحك ماذا صنعت؟ ويحك ماذا فعلت؟ يا خبيث قتلت ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ لا ترى الجنة أبدا؟ لا ترى الجنة أبدا؟.

 

حمل رأس الحسين، ووضع في طست بين يدي ابن زياد، وابن زياد بيده عود ينكت في رأس الحسين.

 

يا الله ما أشد الوقع، وما أعظم الخطب، ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مضرج بدمائه، تعبث به يد الشقي، ينكته بعود، ويقول: "ما كان أحسنه من وجه".

 

سمعه أنس فأنكر، فقال: "لقد كان أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

هل تظنون أن الله لا يغضب لقرابة النبي، وأن الله لا يثأر لهم، حاشاه؟!

 

عاقبة القوم، كما قال الزهري: "لم يبق أحد ممن قتل الحسين إلا عوقب في الدنيا: إما بقتل، أو عمى، أو سواد الوجه، أو زوال الملك، في مدة يسيرة".

 

يزيد بن معاوية، ماقته الناس بعد الحادثة، وثار عليه أهل المدينة، فارتكب جريمة أخرى حين أرسل جيشا في موقعة الحرة، ثم زال ملكه بعد أقل من أربع سنوات.

 

شمر بن ذي الجوشن، قاتله رجال المختار الثقفي، وألقوا بجثته للكلاب.

 

خولي بن يزيد الأصبحي، قتل، وأمر به، فأحرقت جثته.

 

عمر بن سعد، قتل.

 

عبيد الله بن زياد قتله إبراهيم بن الأشتر يوم عاشوراء، الله الله يوم عاشوراء سنة 67، وأمر بقطع رأسه، وبعث المختار رأسه إلى عبدالله بن الزبير، وبعث عبد الله بن الزبير رأسه إلى علي بن الحسين، ثم نصب في المسجد، فرأي حية تدخل من منخره، وتخرج من أذنه، تكرر ذلك ثلاث مرات، جزاءا وفاقا.

 

مات الحسين، وما ماتت مناقبه، مات الحسين وما مات مآثره، مات الحسين ولم يمت نسبه، فكم في الدنيا من قرابته؟.

 

اللهم صل على النبي، وعلى الصحابة والقرابة.

 

اللهم إنا نشهدك في عليائك، ونشهد ملائكتك، ونشهد حملة عرشك، ونشهد الجن والإنس، أننا نحب عليا وفاطمة، ونحب الحسن والحسين، ونحب قرابة النبي -عليه الصلاة والسلام-.

 

 

 

المرفقات

كربلاء الحسين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات