عناصر الخطبة
1/ وقوع الناس في الاقتراض بسبب الظروف الاقتصادية السيئة 2/ أزمة الديون في بلادنا 3/ معظم الديون بسبب الكماليات 4/ التعامل الصحيح مع الديون 5/ الدين هَمّ بالليل وذل بالنهار 6/ آثار الديون على الفرد والمجتمع 7/ الاستدانة بقصد السداد 8/ فضل تفريج كربة المحتاج 9/ وجوب عدم تأخير الأجور عن أصحابهااقتباس
هناك حاجات عظيمة وفقر يضيق به بعض الناس فيقعون في الديون والقروض بلا وعي، ثم تركبهم الهموم، لكن هذا الهم العظيم للدين يبدو أنه ضعف هذه الأيام وأصبح نادرًا مثله مثل الوفاء، ولذلك رأينا إقبال الناس على الديون والاستكثار منها لحاجة أو لغير حاجة، ورأينا الإعلانات والدعايات المغرية له والأوراق الملصقة عنه، ليس في المجتمعات الفقيرة فقط بل حتى في المجتمعات الغنية أيضًا أصبحت تعيش على الدين حتى أثقلت الديون كواهل الناس والدول والشركات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله؛ أعزنا بالإسلام وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، وختم بنبينا الكريم موكب الرسل والأنبياء العظام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: خلق الله البشر مختلفين بالرزق والحرمان والغنى والفقر لحكم عظيمة: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].
دخل -صلى الله عليه وسلم- المسجد ذات يوم فرأى أبا أمامة -رضي الله عنه- جالسًا مهمومًا فقال: "يا أبا أمامة: ما الذي أجلسك في المسجد في غير وقت الصلاة؟!"، قال: يا رسول الله: هموم لزمتني وديون غلبتني، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "ألا أدلك على كلمات إذا قلتهن أذهب الله عنك همك وقضى عنك دينك؟!"، قال: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أمسيت وإذا أصبحت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".
هناك حاجات عظيمة وفقر يضيق به بعض الناس فيقعون في الديون والقروض بلا وعي، ثم تركبهم الهموم، لكن هذا الهم العظيم للدين يبدو أنه ضعف هذه الأيام وأصبح نادرًا مثله مثل الوفاء، ولذلك رأينا إقبال الناس على الديون والاستكثار منها لحاجة أو لغير حاجة، ورأينا الإعلانات والدعايات المغرية له والأوراق الملصقة عنه، ليس في المجتمعات الفقيرة فقط بل حتى في المجتمعات الغنية أيضًا أصبحت تعيش على الدين حتى أثقلت الديون كواهل الناس والدول والشركات، وهناك من أشهر إفلاسه بسبب تعاظم الديون، وقد يشتمل بعضها على كبيرة تمارَس كالربا -عياذًا بالله- الذي أصبحت له آثار مضرة ومدمرة على الفرد والمجتمع واقتصاديات الدول.
أما إغراءات البنوك وشركات الديون ومحلات التقسيط فحدث ولا حرج، يغرون بها الناس ليقحموهم في الديون بسهولة ثم يستولون على رواتبهم، حتى طالت معظم الناس، وانظروا -أيها الأحبة- للإحصائيات في مجتمعنا.
فقد نشر أحد الباحثين أن أزمة الديون في بلادنا تطال 80% من الناس، وأن القروض والديون كانت عام 1427هـ نحو 178 مليار ريال بعام واحد فقط ثم ارتفعت تلك المبالغ لتصل بعدها بخمس سنوات فقط عام 1432هـ إلى 286 مليار ريال بزيادة أكثر من مائة مليار خلال خمس سنوات، أكثرها تمويلات شخصية، وزادها عدم توعية للمدينين وعدم ضبط لشركات التقسيط والبنوك وأنظمتها وحقوق المستدينين وعدم إشاعة ثقافة الادخار والاستهلاك مع ضعف رواتب أصحابها وغلاء الأسعار وعدم اهتمامهم بتنظيم الميزانيات، إضافة للدعايات المضللة للقروض وفوائدها المنخفضة بزعمهم، وكل هذا يهدد بأزمة ديون قادمة.
المصيبة -أيها الأحبة- أن أكثر هذه الديون لطرف زائل أو لتجارة أو لاستثمار أو لشراء كماليات، نعم قد يكون الدين لحاجة مؤقتة ماسة يحتاجها الإنسان فيستدين لأجلها من ألجأته الحاجة، إما لمرض -شفانا الله وإياكم-، أو لزواج أو لأمر آخر، وما أكثر ظروف الناس المحرجة.
فالدَّين جائز في الإسلام والإقراض للمحتاج مستحب وفيه أجر عظيم وفيه تفريج كربة للمستدين وللمقترض، ولذلك فقد شرع الإسلام الدَّين ووضع له الضوابط ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات ودرعه مرهونة على قبضات من شعير، لكن أن تصبح الديون منهج حياة بهذه النسب العالية والأرقام وبلا حاجة واضحة فإنها تبين مشكلة كبرى تحتاج من الجميع للانتباه ولوقفة تحذير لمن يماطل أصحاب الدين لعدم سداده.
عباد الله: خذوا بأسباب الرزق وسددوا ولو بالقليل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله". أي من أخذ الدَّين وفي نيته أن يسدد أعانه الله وفتح له أبواب الرزق، ومن أخذ وهو يريد أن يضيع أموال الناس وأن يتلفها أتلفه الله.
سددوا ولو بالقليل؛ فإن الله يجعل القليل بالبركة كثيرًا، إياكم والإسراف والتباهي أو البخل أو كذلك الطمع، حينما تعطي شركات استثمارات الأموال، حينما تأتي تلك الشركات المعلنة التي تريد استثمار الأموال، حينما تعطي تلك النسبة الزائفة فيبادر الناس طمعًا للمساهمة بها، بل قد يستدينون لأجلها، ثم تنهار تلك الشركات فلابد من ثقافة للاستهلاك وحسن الادخار في بيتك ومنزلك ومن خلال راتبك: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
وأنتم -يا معاشر الأغنياء والأثرياء- ارحموا الفقراء والضعفاء وتفقدوا المحتاجين والبؤساء، رجل يريد الدين فأعينوه وأعطوه، رجل يريد القرض الحسن وهو ثقة للسداد فأعينوه وأعطوه، وإياكم وسوء الظن بالناس وإن ذهبت أموالكم بالدنيا فلن تذهب عند ذي العزة والجلال، في الحديث: "من أقرض مرتين كان كصدقته مرة". أي كأنه تصدق به مرة واحدة. رواه ابن ماجه والبيهقي وحسنه الألباني.
وأدان أحد اليهود النبي -صلى الله عليه وسلم- يريد اختبار حلمه وقبل حلول الأجل أتاه وطلب منه الوفاء بغلظة؛ ما أغضب بعض الصحابة فأرادوا النيل منه، فما زاد -صلى الله عليه وسلم- أن قال: "كنت أنا وهو أحوج إلى أن تأمروني بالسداد وتأمروه بالإنذار". ثم أوفى دينه وكافأه فأسلم هذا اليهودي.
هذا التعامل الصحيح مع الدين، فيا معاشر الأغنياء: يسروا ولا تعسروا ولا تضيقوا عليهم بسرعة السداد لمن لا يستطيع وهو جاد في السداد، فالله يأمر بالإنذار: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) والأجر في ذلك عظيم.
كذلك فإن عليكم -أيها الأغنياء- وأصحاب التقسيط وعلى البنوك مسؤولية عظمى، وعليه رقابة وينبغي أن يأخذ على أيديهم من تلك الإغراءات التي يضعونها للناس ثم يورطون بها الشباب والنساء وغيره.
عباد الله: الدين هَمّ بالليل وذل بالنهار؛ فهو يزعج القلوب ويشتت الأفكار، له آثار عظيمة حين يشغل بال المدين ويجعله منعزلاً عن المجتمع هاربًا ومضطرًا للكذب ويسأل الناس كما نشاهده في حال كثيرين، نسأل الله العافية والسداد.
روى الشيخان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول؟! فقال: "إن الرجل إذا غرم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف".
ثم اسأل عن آثار الديون على أسرته وقرابته كيف تهمل حاجات الأسرة الرئيسة من زوجة وأولاد وكذلك القطيعة بين الأقارب، أما آثاره على المجتمع فحدث ولا حرج من انتشار لثقافة الإسراف والتباهي والتشبع بما لم يعط كثير من الناس بسبب الديون ثم لعدم استيعاب أموال الزكاة، نعم لا تستطيع الزكاة أن تستوعب تلك الديون للغارمين والمقترضين، لا تستطيع أموال الزكاة استيعاب الحاجات المهمة في المجتمع ثم تأتي هذه الديون لتأكلها والتي عرفنا حجمها كما ذكرنا آنفًا، وأغلب تلك الديون يمكن الاستغناء عنها والصبر لحين أن يتوفر لك المال.
كذلك للديون آثار على الدول، فالدول مهما حاولت رفع الدخول لمواطنيها فلن تستطيع مجاراة إغراءات البنوك وشركات التقسيط التي تدخل الناس في متاهات الديون مع إشغال كبير لجهات الدولة من شرطة وأمن ومحاكم لقضاء الديون وما أكثرها، إضافة للآثار النفسية للديون والتي تصل بصاحبها إلى حد الانتحار والعياذ بالله.
كذلك هناك من يتساهل بعدم سداد القروض التي تدفعها الدولة لمساعدة مواطنيها كبنوك التسليف وصندوق التنمية العقاري وصندوق التنمية الصناعي وغيرها، وهذا خطأ وجناية على غيرك من المستفيدين، ولا تبرأ به ذمتك.
عباد الله: المدين مهموم مغموم ولو رآه الناس فرحًا مسرورًا، لا يرتاح ولا يطمئن ببيته، ولذلك استعاذ -صلى الله عليه وسلم- من الدين وقهر الرجال، وحذّر الإسلام من التهاون في المماطلة بسداده والتأخير في قضائه، بل استثنى -صلى الله عليه وسلم- الدين من قاعدة المكفرات التي يكفر الله بها عن الإنسان حين قال: "يغفر الله للشهيد..."، ولاحظ أنه قال: "للشهيد"؛ أعظم الناس منزلة، "يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين". رواه مسلم.
وقام -صلى الله عليه وسلم- فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟! فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "كيف قلت؟!"، فأعاد الصحابي السؤال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟! فقال -صلى الله عليه وسلم- للصحابي: "نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَام- قَالَ لِي ذَلِكَ". رواه مسلم.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "ذمة المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه"، ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- لا يصلي على جنازة من عليه دين، قال جابر -رضي الله عنه-: توفي رجل منا فغسلناه وحنطناه وكفناه ثم أتينا رسول الله فقلنا له: أتصلي عليه؟! فمشى معهم للصلاة عليه خطوات ثم قال لهم: "أعليه دين؟!"، قلنا: عليه ديناران، فانصرف رسول الله ولم يصل عليه، مع أن الميت صحابي من أصحابه والنبي -صلى الله عليه وسلم- رؤوف رحيم، وأن دينه بلغ دينارين فقط، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي قتادة: "حق الغريم وبرئ منه الميت". قال: نعم، فصلى ثم سأل -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك بيوم أبا قتادة: "ما فعل الديناران يا أبا قتادة؟!"، قال: يا رسول الله: إنما مات أمس، فعاد إليه أبو قتادة من الغد فقال: يا رسول الله: قد قضيتهما، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "الآن قد بردت على جلده".
وعن أبي هريرة أنه كان يؤتى بالرجل المتوفى وعليه الدين فيسأل رسول الله: "هل ترك لدينه قضاء؟!"، هل له مال ممكن أن يوفى عنه؟! فإن قيل له إنه ترك مالاً يوفى به صلى عليه، وإلا قال: "صلوا على صاحبكم".
لاحظ هنا أن هؤلاء من أصحاب الديون المتوفين ملتزمون بالوفاء بدينه، لا يماطلون بالدين، فما بالكم بمن يماطل، ما بالكم بمن يجحد الحقوق والديون، ما بالكم بمن ينكرها عياذًا بالله!!
فكيف لو عمل بها اليوم؟! كيف لو أن إمام الجامع لم يصل على صاحب الدين اقتداءً برسول الله، فهل سيستمر ذلك التساهل الذي نراه بين أصحاب الديون؟! ولذلك يجب على المسلم إذا استدان أن تكون له عزيمة صادقة على الوفاء، ونية طيبة في القضاء فلا يبيت نية سيئة، لا يخفي مقصدًا خبيثًا؛ فإنه عند ذلك سيعينه الله، نعم سيعينه الله على القضاء حتى ولو مات وعليه دين؛ لأنه وعده بالسداد كما في الحديث الذي قبل قليل.
أما من بيّت نية سيئة أو مقصدًا خبيثًا بعدم الوفاء بحقوق العباد فإنه يعرض نفسه وتجارته وسيارته وبيته وأهله للتلف ونقص البركة، فضلاً عن عذاب الآخرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "أيما رجل يدين دينًا وهو مجمع ألا يوفيه إياه لقي الله سارقًا". رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
وعن محمد بن جحش -رضي الله عنه- قال: كنا جلوسًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَرَفَعَ رَأْسَهُ فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا نَزَلَ مِنَ التَّشْدِيدِ"، فَسَكَتْنَا وَفَرِقْنَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ سَأَلْتُهُ: مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نَزَلَ؟! قَالَ: "فِي الدَّيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى دَيْنُهُ".
وروى أبو داود في سننه بسند حسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب مرة ثم قال: "هل ها هنا أحد من بني فلان؟!"، فلم يجبه أحد، ثم قال: "هل هنا أحد من بني فلان؟!"، فلم يجبه أحد، ثم قال: "هل هنا أحد من بني فلان؟!"، فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله، فقال: "ما منعك أن تجيبني؟! إن لم أنوه بكم إلا خيرًا، إن صاحبكم -أي الذي توفي قريبًا- مأسور بدينه". وفي رواية للحاكم: "إن صاحبكم حبس على باب الجنة بدين كان عليه".
ومن إعانة الله لصاحب الدين أو المقترض -انظر أخي- من إعانة الله لذي النية الطيبة ذلك الحديث الصحيح الذي ورد عند البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر رجلاً من بني إسرائيل ذهب إلى رجل فقال له: أقرضني ألف دينار أتجر بها، فقال له الرجل: ائتني بكفيل، أريد كفيلاً لهذا الدين، قال: والله لا أجد ولكن كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، قال: ائتني بالشاهد، قال: والله لا أجد ولكن كفى بالله شهيدًا، قال: صدقت، خذ الألف دينار.
فأخذ الرجل الألف دينار وانطلق يتجر بها في البحر حتى رزقه الله، فلما حان موعد الوفاء التمس الرجل المدين مركبًا يريد أن يرجع لأن بينه وبين الدائن بحرًا، يريد أن يرجع إليه ليسدده تلك الألف دينار، فلم يجد، وإذ كانت الرياح والأمواج شديدة، وليس هناك من سفن، والرجل صاحب الدين في الشاطئ الآخر ينتظر كل يوم مجيئه، يخرج ينتظر صاحب الدين لكي يرده إليه، فلما يئس المدين لم يجد مركبًا يذهب به إلى الدائن أخذ خشبة ونخرها ثم وضع فيها الألف دينار مع كتاب أرسله إلى صاحبه: من فلان ابن فلان، ثم أحكم إغلاقها ووضعها في البحر وقال: اللهم إنك تعلم أني اقترضت من فلان ألف دينار، وأنه قد حال بيني وبينه الموج، وقد جعلتك كفيلاً ووكيلاً وشاهدًا، فأوصل هذا الدين إلى صاحبه.
وقذف بالخشبة في البحر وهو في كل هذا خرج بعد ذلك جاهدًا يلتمس مركبًا حتى يصل إلى صاحبه، وبينما كان الرجل صاحب الدين واقفًا ينتظر أي مركب فلم يجد لكنه وجد أمامه خشبة تطفو فوق الماء قال: آخذها أستدفئ بها أنا وأولادي، فلما أخذها وذهب إلى بيته نقرها بقدوم فسقطت منها الصرة، ففتحها فإذا فيها الألف دينار والرسالة من فلان إلى فلان، وإنه قد حال بيني وبينك الموج، وقد جعلت الله وكيلاً وكفيلاً وهذه نقودك.
وكان الرجل المدين مع كل هذا يلتمس كما في الحديث يلتمس مركبًا حتى وجد مركبًا ركبه، وأخذ ألف دينار أخرى وذهب إلى صاحب الدين وقال: والله لقد جاهدت أن أجد مركبًا قبل هذا فما استطعت، خذ هذه الألف دينار، فقال الرجل الآخر: هل أرسلت إليّ شيئًا؟! فقال له: سبحان الله!! أقول لك: هذه أول مركب وتقول لي: هل أرسلت شيئًا، فقال صاحب الدين: لقد أدى الله عنك، فخذ مالك وارجع راشدًا.
وروى أحمد في مسنده بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حمل من أمتي دينًا ثم جهد في قضائه ثم مات قبل أن يقضيه فأنا وليه". صححه الألباني.
ولو أن أصحاب الديون -عباد الله- تعاملوا بهذا الحق والوفاء لما رأينا المشكلات تملأ المحاكم لأجل الديون، ولا رأينا الناس يقرضون الأموال بدلاً من أن يكدسوها في البنوك، لكنهم امتنعوا عن الإقراض لعدم الوفاء.
عباد الله: لقد حثّ الله تعالى على كتابة الدين مهما كان قليلاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، وإذا كان على أحدنا ديون أو حقوق ليس عليها وثائق ومستندات تثبتها لأهلها يجب عليه أن يوصي بها حتى لا تضيع حقوق الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". رواه مسلم.
معاشر المدينين، أيها المقترضون: أنزلوا حوائجكم كلها بالله، اجعلوا كل فقركم إليه تعالى وغناكم به، توكلوا على من بيده خزائن السماوات والأرض، أحسنوا الظن بالله وإن ضاقت عليكم الدنيا فوسعوها باليقين بالله، كم من هموم وغموم أحاطت بأصحابها فرجها الله عنهم من حيث لا يحتسبون.
فلا تتساهل أخي بالديون لا تشغل ذمتك بالاستكثار منها، فلا تدري متى يأتيك الأجل بغتة وقد علمت حق الدين: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ)، سياسة اقتصادية استهلاكية وثقافة للادخار قالها الله -سبحانه وتعالى-: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) [الطلاق:7].
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، واجعلنا أغنياء بك فقراء بك يا أرحم الراحمين.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها الأحبة: اتقوا الله تعالى عباد الله، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي، قَالَ: "أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟! قَالَ: قُل: "اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ".
عباد الله: إن العجب أن بعض المدينين للأسف قد استدان لغير حاجة ماسة، وتحمل الديون العظيمة والأقساط لأجل ورهن راتبه بسبب الإغراق في الكماليات والبذخ في المناسبات والملابس بل والجوالات والأثاث وغير ذلك...
فيستدين بعض الشباب من أجل أن يشتري سيارة فارهة جديدة، ويستدين آخر لكي يسافر للسياحة، أو بعضهم لمزيد أثاث ومفاخرة، وقد تجد من يرهن بيته أو تجارته لأجل الدين ثم تذهب عليه حسرة كما رأينه حصل قبل سنوات حينما ضاعت على بعض الناس بيوتهم وأملاكهم، والبعض يغتر براتبه المستمر الدائم فيستدين ثم يضيق على نفسه معيشته، وإن المسلم لو رضي بالقناعة ومستوى دخله لما احتاج إلى الدين، لكنه ينظر لمن فوقه في المادة والكماليات فيريد تقليده، ولو أشغل ذمته بدين أو قرض ثم مات ولم يسدد عنه وهو أسرف عاقبه الله.
أيها الأخوة: ألا وإن من الحقوق الواجبة التي أكد الإسلام على الحرص عليها وعلى عدم تأخيرها عند استحقاقها ويتساهل بها حتى بعض الأغنياء هي أجرة العمال الضعفاء كالسائقين والخدم والعمال وعموم الأجراء، والتي يتساهل الناس بتأخيرها لاسيما الخادمات في البيوت، بعض الناس يؤخر رواتبهن حتى تتراكم عليهم تلك الرواتب والحقوق ثم لا يوفونهن إياها عياذًا بالله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: قال الله –عز وجل-: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة...". ومن كان الله خصمه فكفى به خصيمًا، وذكر منهم: "رجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره". رواه البخاري.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه". حسنه الألباني. فأين من يأكل أموال هؤلاء الضعفة ممن جاء يطلب الرزق من بعيد أو يظلمهم بالمعاملة ثم يسفره بلا حقوقه!! فيا ويله من الله ويا سوء عقوبته بالدنيا قبل الآخرة.
نسأل الله -جل وعلا- أن ينجينا من حقوق العباد، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم