بين عامين

يوسف بن محمد الدوس

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/العظة والعبرة من سرعة مرور الأيام 2/نعم يجب أن نحمد الله ونشكره عليها 3/التحذير من ضياع الأعمار وإهدار الأوقات 4/الوسائل المشروعة في استقبال العام الجديد 5/بعض أخطاء وبدع نهاية 6/حكم التهنئة ببداية العام

اقتباس

أيها المسلمون: لا زلنا نراقب الزمان بعناية، ولا نعرف ماذا نراقب، لم نتقن فن الانتظار، لا نعرف ننتظر ماذا ومن وحتى متى؟! ننام ونصحى على غير عمل، وننتظر ثم ننتظر، وتمضي الأيام ونحن ننتظر، نهرب إلى الأمان ولا ندركه، نمضي إليه ولا نراه فضلا أن نصل إليه أو نلامسه. بلغنا من الأعمال ما بلغنا ولم ندرك قيمة الوقت بعد ولا قبل، فرطنا في ساعات العمر، بلغنا الثلاثين والأربعين والخمسين والستين، وكان الأجدر بنا أن...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله مسير الأزمان، ومدبر الأكوان، أحمده سبحانه يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديرا.

(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:61-62].

وأشهد أن محمد عبد الله بعثه ربه بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثير.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اتقوا الله -جل جلاله-، اتقوا الله فإن أيامكم قلائل فليستيقظ الغافل قبل سير القوافل ونزول النوازل فيا من يوقن بأنه لا شك راحل اتق الله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

أيها الأحبة في الله، أيها المؤمنون المباركون: أشرقت شمس هذا اليوم كبقية الأيام السالفة تزيد من أعمارنا، وتقرب من آجالنا، نولد في كل يوم ونكبر في ساعاته، وتكبر معنا أحلامنا وطموحاتنا وآمالنا، فتبتسم السماء لأمالنا التي تزفها دعواتنا، وتصوغها أفعالنا، لتمطر فرحة مستبشرة بهذا الأمل الذي يحدونا، وتمتلئ الحياة بثمار العمل، وأزاهير العطاء، وجمال التضحيات والنجاحات، وما أجمل الأمل يغمر قلوب البشر أنسا وفرحا، يسقي المحزون أملا، ويروى العطشان سعادة وفألا، فتزهو النفوس عند ذلك، وتتجدد الأرواح، وتنير القلوب، معلنة قصة جديدة مع عام جديد، وموسم جديد.

 

أيها المؤمنون: احمدوا الله -سبحانه وتعالى- على بلوغ هذه الأيام التي تنهون بها عامكم، واجعلوا الحمد لوحة أمامكم تستفتحون بها عامكم الجديد البهيج، لتكون ينبوعا يغسل جروحكم في كل شروق، وعلاجا يلاطف قلوبكم في كل غروب، فكم من مترقب لهذا العام وقد دس في الثرى والتراب ورحل، وكان يخطط لهذا العام أنه سيفعل وسيفعل، ولكن المنية لم تمهله.

 

إن لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العمل

 

احمدوا الله -عباد الله- على نعمة البقاء، ومنة التمكين من العمل، ونعمة الصحة والعافية والقدرة على الذهاب والإياب.

 

اذكروا الله على نعمة الجوارح المعافة، والقلب النابض في الحياة، والعقل المتفجر في أرجاءها، والذي بها تدبر أمورك، وتصلح أحوالك، ولا يعرف حقيقة هذه النعم إلا من افتقدها، أو من رحل عنها إلى حياة القبور، إلى الحياة التي لا عمل فيها ولا حياة، وتمنى ساعة للأوبة والحضور.

 

فالحمد لله الذي مد في أعمارنا ولم نقتل في ديننا، والحمد لله الذي فسح في آجالنا، ولم نقتل في عقيدتنا، والحمد لله على دين الله، والحمد لله على سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، والحمد لله أن جعلنا من أهل هذه البلاد المباركة التي يعمرها الخير والإيمان، والطاعة والإسلام، والحمد لله الذي جعلنا إخوة متحابين فيه متعاونين على البر والتقوى، والحمد لله الذي جعلنا من أهل المساجد نقبل إليها ونؤوب منها نصلي بين جنبتاها وأروقتها.

 

كم من محروم لا يعرف للمسجد إلى المسجد خطوة، ولا على فرشه سجدة، ولا دعوة، ولا ذرف دمعة إلا ما شاء الله، فالحمد لله على نعمة الهداية، والحمد لله على نعمة التوفيق.

 

لك الحمد يا رب والشكر ثم *** لك الحمد ما باح بالشكر فمْ

لك الحمد في كل ما حالة *** فقد خصني منك فضل وعم

 

أيها المسلمون: لا زلنا نراقب الزمان بعناية، ولا نعرف ماذا نراقب، لم نتقن فن الانتظار، لا نعرف ننتظر ماذا ومن وحتى متى؟!

 

ننام ونصحى على غير عمل، وننتظر ثم ننتظر، وتمضي الأيام ونحن ننتظر، نهرب إلى الأمان ولا ندركه، نمضي إليه ولا نراه فضلا أن نصل إليه أو نلامسه.

 

بلغنا من الأعمال ما بلغنا ولم ندرك قيمة الوقت بعد ولا قبل، فرطنا في ساعات العمر، بلغنا الثلاثين والأربعين والخمسين والستين وكان الأجدر بنا أن نكون أكثر وعيا واستثمارا لأوقاتنا، واغتناما لساعاتها ودقائقها فيما ينفع ويعود علينا في مصالح دنيانا وأخرانا، ونجده ذخرا لنا في يوم لا ينفع مال ولا بنون.

 

نقرأ ونتصفح، نتثقف ونقلب صفحات كثيرة ننتكس ونتراجع ونتقاعس عن العمل، فكم وكم ضاعت من الفرص؟ وكم غلب علينا التسويف، حتى ينبغي أن نحن ما نحققه؟ وكم أخرنا من بوادر للتوبة والأوبة إلى الله؟ وكم سوفنا من عمل؟ وكم غفلنا وفرطنا عن فرض وثواب من الله -سبحانه وتعالى-؟.

 

ما أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني *** وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي

تَمُرُّ ساعاتُ أَيّامي بِلا نَدَمٍ *** ولا بُكاءٍ وَلا خَوْفٍ ولا حزَنِ

أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً *** عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ

 

العمر -يا عباد الله- ما هو إلا نافذة الحياة الحقيقة حياة القرار، المؤمن في خدمة وعبودية لخالقه لا يزيده عمره إلا زيادة في عمله الذي يجمعه ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وهذا العام وغيره ما هو إلا صندوق قد جمع فيه صاحبه: إما عملا صالحا، وإما آخر سيئا.

 

فتقد –يا رعاك الله- صندوقك، وفتش في أسرارك، ليهدى إليك مزينا بأعمالك، فتتناوله يمينك بشغف، فتنقلب عند ذلك إلى أهلك مسرورا.

 

أحبتي في الله: إنطوت صفحة الأمس تحمل أعمالنا، وبقيت صفحة اليوم: فماذا أنت فاعل بها؟

 

إن خير طريقة للتعامل واستقبال هذا العام الجديد: أن يستقبل بتوبة نصوح، وعزم جاد على عدم العودة للآثام والتقصير، وعلى الامتثال لأمر الله -سبحانه وتعالى-؛ فمن صلحت دقائقه وساعاته صلحت شهوره وأعوامه، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وتذكر حديث نبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: "لا تزول قدم عدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه ومن أين أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".

 

فلنغتم الحياة قبل انقطاع العمر وضياع الفرص.

 

قَطَعْتَ شُهورَ العامِ لهواً وغفلةً *** ولم تحترم فيما أتَيْتَ المُحَرَّما

فلا رجَباً وافَيْتَ فيه بِحَقِّهِ *** ولا صُمتَ شهر الصوم صوماً مُتَمَّما

ولا في ليالي عشرِ ذي الحجةِ الذي *** مضى كُنْتَ قَوَّاماً ولا كُنْتَ مُحْرِما

فَهَل لك أن تمحو الذُّنوب بِعَبرةٍ *** وتبكي عليها حسرةً وتنَدُّما

وتستقبلَ العامَ الجديدَ بِتَوبةٍ *** لعلَّك أن تمحو بها ما تَقَدَّما

 

تفكر -يا رعاك الله- في سعة رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وليكن ذلك طريقا كي تعود إلى الله، فالله -جل جلاله- أرحم للعبد من والديه فقد خلق الرحمة مائة جزء فأمسك عنده 99 وأرسل في الأرض جزءً واحدا به تتراحم الخلائق فيما بينها، وهذا من سعة رحمة الله، فكل ما في هذا الكون من رحمة بين الأمهات وأولادهن، وبين البشر جميعا إنما هو جزء وافر من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وقد بقي وادخر 99، وهذا أمل كبير لمن أراد التوبة.

 

وربنا -سبحانه وتعالى- قد قال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً)[النساء: 17].

 

وهو الذي قال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر: 53].

 

سر –يا رعاك الله- في رحى الأيام، وتظلل بالقرآن، لتحتمي من لهيب الدنيا الحارقة، لكي تهب عليك النسمات القرآنية، والأفياء الإيمانية، ليفيض قلبك إنسا وسعادة، وينتعش بالإيمان والراحة، في ظل رحمة الرحيم الرحمن.

 

أسأل الله جل جلاله أن يشملني وإياكم برحمته، وأن يمن علينا برحمته وكرمه.

 

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو البر التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الأول والآخر، الظاهر والباطن، الحكيم العليم الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على السراج المنير النبي الأمي الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: ينبغي في مثل هذه الأيام أن نكون حذرين من بعض الأخطاء والبدع التي تنتشر، ويتناقلها بعض الناس في وسائل الاتصالات المعروفة، إما جهلا، أو تساهلا، من ذلك تخصيص بعض العبادات في نهاية العام من صلاة، أو صيام، أو ختم القرآن، أو نحو ذلك؛ لأن الشرع لم يأتِ بمثل هذا.

 

أما من كان معتادا على هذه العبادات طيلة أيام عامه، من صيام وصلاة وقيام وتلاوة، فلا شيء عليه، المهم أن لا يكون قد فعلها بقصد نهاية العام.

 

ثم أيضا تنتشر هذه الأيام رسائل بطلب العفو والتسامح، وهذا لا ينبغي بحال، والمؤمن إذا أخطأ فيجب عليه أن يبادر بالاعتذار، وطلب المسامحة في حينه، من دون أن يخصص لذلك وقتا؛ كنهاية العام، ونحو ذلك.

 

ثم أيضا قد يكثر الحديث عن هجرة النبي -صلى الله عليه -، وينبغي أن يعلم أن الهجرة إنما وقعت في شهر ربيع الأول، ولم تكن في مطلع العام، وإنما اختير المحرم اجتهادا من الصحابة بأن يكون أول شهر في العام، ولو كانت أيضا في شهر الله المحرم لا ينبغي أن يخصص من كل عام للحديث عن الهجرة.

 

ثم أنه قد تقام بعض الاحتفالات؛ كما يشاهد في وسائل الإعلام في مناسبة نهاية العام، وهذه الاحتفالات احتفالات بدعية، لا ينبغي إقامتها، والمشاركة فيها.

 

أما التهنئة، فالأصل في التهنئة أنها مباحة، وإن كان لا ينبغي أن يخصص شيئا من ذلك، إلا أن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- قد قال: "إن بدأك أحد بها فرد عليه، ولا تبتدئ أنت".

 

وقال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "التهنئة بالعام الجديد لا نعلم لها أصلا عن السلف الصالح، ولكن لا أعلم شيئا من الكتاب أو السنة يدل على شرعيتها، ومن بدأك بذلك فلا بأس أن ترد عليه، وتقول وأنت كذلك، إذا قال لك: "كل عام وأنت بخير" فلا مانع أن تقول: "وأنت كذلك" ا. ه.

 

فنسأل الله -جل جلاله- أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ونسأله أن يصلح المقبل من أعوامنا، وأن يزودنا بالتقوى في القادم من أيامنا.

 

اللهم تب علينا من كل ذنب أذنباه، أو حق ضيعناها، أو حد تجاوزناه.

 

                                                                     

 

 

المرفقات

عامين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات