والله يريد أن يتوب عليكم

توفيق الصائغ

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/وربك يخلق ما يشاء ويختار 2/فضل العلم الصالح في عشر ذي الحجة 3/بعض الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة 4/باب التوبة مفتوح 5/فضل التوبة من الذنوب 6/فضل الله على عباده 7/فضل الذكر في عشر ذي الحجة

اقتباس

لقد خلق الله –عز وجل- الظروف المكانية فاختار من بينها مكة والمدينة وبيت المقدس، وخلق الله -عز وجل- الزمان فاختار منه شهر رمضان، واختار من العشر عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، واختار من الليالي ليلة القدر، واختار من الساعات ساعة الجمعة: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ)القصص: 68].

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين.

جل الذي بعث الرسول رحيما *** بين الأنام معلما وكريما

يا أيها الراجين من شفاعة *** صلوا عليه وسلموا تسليما

اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه، وعلى آله وصحابته، كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عن ذكره الغافلون.

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

واه لريح الجنة، واه لأبواب الرحمات والفضائل والأعطيات؛ شمس شموس الدنيا يوشك أن تشرق من جديد، يوشك أن يحل علينا أيها المباركون أيام هي خير أيام الله -تعالى- على الإطلاق: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ)[القصص: 68].

 

اختار الله -سبحانه وتعالى- من الخلق الثقلين فكلفهما، واختار الله -تعالى- من الثقلين البشر فجعل منهم النبوة والكتاب.

 

لقد اختار الله -تعالى- من البشر المؤمنين واصطفى من المؤمنين الأنبياء، واصطفى من الأنبياء المرسلين، واختار من المرسلين خيرتهم أولي العزم من الرسل، واصطفى من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمد -صلى الله عليه وسلم-، واختار محمدا -صلى الله عليه وسلم- للدرجة التي لا تنبغي إلا لواحد.

 

لقد خلق الله –عز وجل- الظروف المكانية فاختار من بينها مكة والمدينة وبيت المقدس، وخلق الله -عز وجل- الزمان فاختار منه شهر رمضان، واختار من العشر عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، واختار من الليالي ليلة القدر، واختار من الساعات ساعة الجمعة: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ) [القصص: 68].

 

منن الإله تتابع، آلائه تتوالى، نعمه تصبحنا وتمسينا بما لا يبقي للإنسان إلا أن يخجل أمام هذه النعم، وأن يتقاطر حياءً وخجلا مع نعمة المنعم سبحانه وتعالى.

 

أو ليتني نعماً أبوح بشكرها *** وكفيتني كُلَّ الأمور بأسرها

فلأشكرنك ما حييتُ وإن أمُتْ *** فلتشكرنك أعظُمي في قبرها

 

سبحان الذي يعطي ويعطي، ويوالي النعمة بعد النعمة، والمنة بعد المنة، ريح رمضان لا تزال تعبق في نفوسنا وبركة ذلك الظرف الزمان لا يزال نستشعره، لكن الله يريد أن يمن علينا بنعمة أخرى بأيام هي خير أيام الدنيا فيها على الإطلاق، ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من الجهاد بالمال.

 

إن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله من الجهاد بالنفس.

 

إن العمل الصالح في هذه الأيام أحب إلى الله -عز وجل- من الجهاد بالمال والنفس ما لم يرجع بهما، أي لا يعدل العمل الصالح في هذه الأيام إلا الجهاد بالمال والنفس، وأن يخرج العبد بماله ونفسه، ثم لا يرجع من ذلك بشيء.

 

إنها أفياء الصلاة، يا للصلاة خير الموضوع: "أرأيتم لو أن نهر بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟! ".

 

إنه أفياء الصيام، الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له".

 

إنه ظرف تلهج فيه الألسنة بالذكر، بالتهليل بالتكبير.

 

فاذكرونا مثل ذكرانا لكم *** رب ذكرى قربت من نزحا

 

إنه ظروف تعج فيها مكة، والمشاعر المقدسة، بأصوات الملبين، وتكبيرات المكبرين.

 

إلهنا ما أعدلك *** مليك كل من ملك

لبيك قد لبيت لك *** لبيك إن الحمد لك

والملك لا شريك لك

 

ظرف للبذل والصدقة والزكاة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وصلة الأرحام، والصلاة بالليل والناس نيام، وأمور وأمور من الطاعات يتقلب العبد في العشر.

 

لكن لا أستطيع أن ألج إلى هذا الباب دون أن أعطي مستمعي المفتاح، لا يمكن أن يسرع العبد في المشي إلى الله –عز وجل- وأن تخف حركته دون أن يتحرر من الأثقال والأوزار والأفكار التي تقعد به إلى الأرض، وتخلد به إلى الأرض.

 

إن مبتغانا في هذه العشر أن نحلق في السبع الطباق، وأن ننتهي إلى سدرة المنتهى، وأن نحرز تلك السجدة العظيمة التي يسجد فيها العبد تحت العرش، فلا يفيق من تلك اللذة لما يجد من اللذة والحلاوة.

 

نعم، نريد أن نتخفف من أثقالنا، من أوزارنا، من أحملانا، من ذنوب وخطايا وآثام ناءت بها الظهور.

 

إن أي منا، قديسا كان في نظر الناس، أو ملك كريما لابد وأن يكون قد أصاب الذنب.

 

ما الذي ما أساء قط؟ *** ومن له الحسنى قط؟

 

من كان منكم بغير ذنب فليرمني بحجر.

 

حتى أولئك الذين نعظمهم في نفوسنا، ونعتقد أن الذنب لا يمكن أن يقع منهم، وأن الخطيئة لا يمكن أن تصدر منهم، هم الذين يقولون بلسان الحال:

 

والله لو علموا قبيح سريرتي *** لأبى السلام علي من يلقاني

ولأعرضوا عني وملَوا صُحبتي *** ولبؤت بعد كرامة بهوانٍ

لكن سترت معايبي ومثالي *** وحَلِمت عن سقطي وعن عصياني

فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني

 

إنني أريد أن أتحدث في هذه الجمعة مع أنني ثنيتها في الجمعة السابقة، أريد أن أتحدت عن مراد الله -عز وجل-: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) [النساء: 27].

 

أريد أن أرفع عني وعنك وعنها وعنه وعنهم وعنا، جميعا الآثار والأغلال.

 

أريد أن أفتح ما فتح الله -عز وجل- ولا مغلق لما فتح الله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)[فاطر: 2].

 

قال الله -تعالى- معرفا بنفسه: (عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف: 156].

 

وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن المطيبة بالأفواه الصلاة والتسليم عليه، قال: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي".

 

(نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر: 49].

 

يا كبير الذنب عفو ال*** له من ذنبك أكبر

أكبر الآثام عن أص*** غر عفو الله أصغر

ليس للإنسان إلا *** ما قضى الله وقدر

 

نعم، الله يغفر ويتوب، الله يعود على من عاد ويؤوب، الله يفتح الأبواب، يفتح يده بالليل ليتوب مسيء النهار.

 

أنا لا أشك أنك تحفظ هذه المفردات، وأنك تعرفها، لكن الشيطان يحاول أن يجعل بيني وبينك وبين هذه المقدمة المعرفية برزخا، وحجرا محجورا.

 

إنه يحاول أن يسد ما فتح الله، وأن يغلق ما فتح الله –عز وجل- على مصراعيه، حتى يقنطنا من رحمة الله -جل وعلا-.

 

الله يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، وهو الغفور الرحيم: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا)[فاطر: 2].

 

أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي *** هو راحم هو غافر هو عافي

قابلته ثلاثة بثلاثة *** فستغلبن أوصافه أوصافي

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن المفدى بالأموال والأنفس والمهج صلى الله عليه وسلم قال: "إن عبدا أصاب ذنبا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله -تبارك وتعالى-: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب"" هذا حالي وحالك: " ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي ربي اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا، فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء".

 

فزعت إلى الخلائق مستغيثاً ***فلم أرى في الخلائق من مجيب

وأنت تجيب من يدعوك ربي *** وتكشف ضر عبدك يا حبيبي

ودائي باطلٌ ولديك طب *** و من لي مثل طبك يا طبيبي

 

(قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)[الأنفال: 38].

 

هذا خطاب للكافرين، وأمر الله -عز وجل- أن يخاطب الأسرى الذين في يده: (قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنفال: 70].

 

أما الذين ثلثوا الله -تعالى- ونسبوا له الصاحبة والولد، فنادهم متحببا إليهم: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[المائدة: 74].

 

وفي الحديث القدسي: "إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم".

 

إليك إله الخلق أرفع رغبتي *** وإن كنتُ يا ذا المن والجود مجرما

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ***جعلت الرجا مني لعفوك سُلما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوكَ أعظما

وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل *** تجود وتعفو منَّةً وتكرما

 

إن هذه المقدمة المعرفية تدعو إلى معرفة المولى -سبحانه وتعالى-، إلى سعة رحمته، إلى كبير عفوه، إلى عظيم منته.

 

لا يزال الباب مفتوحا، ولا يمكن أن نحلق في السماء بالأعمال الصالحة في العشر ما لم نلج بهذا المفتاح.

 

"يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة".

 

ذنوبي إن فكرت فيها كثيرة *** ورحمة ربي من ذنوبي أوسع

فما طمعي في صالح قد عملته *** ولكنني في رحمة الله أطمع

 

وسعت رحمته كل شيء، وأنا وأنت شيء، فستسعنا رحمته جل وعلا.

 

امرأة فسر بها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يشير بالمثال الحسي إلى المثال الآخر، يشير بالمثل الأدنى إلى المثل الأعلى، فيقول: "أترون هذه طارحة ولدها في النار " قال الصحابة بلسان واحد: "لا يا رسول الله" قال: "فالله -تعالى- أرحم بعباده من هذه".

 

التوبة التوبة -يا عباد الله-، لاسيما ما يقع في حقوق العباد من المظالم، فرحمة الله وسعت كل شيء، وهي قريبة من المحسنين، ورحمته تسبق غضبه جل وعلا، ورحمته لا نظير لها، لا مثيل لها.

 

إياك أن يذهب عقلك بعيدا فهو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى: 11].

 

أما العباد فإن حقوقهم قائمة على المشاحة، قائمة على البخل، لذلك ينبغي التحلل.

 

وتأمل معي -أيها المبارك- سيد الخلق حبيب الحق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من اصطفاه الله -عز وجل- للدرجة التي لا تنبغي إلا لواحد، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ينزل من على درجات منبره ثم يكشف بطنه صلى الله عليه وسلم قائلا: "من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستَقدْ منه، ومن كنت ضربت له جلدا فهذا جلدي فليستَقدْ منه".

 

من أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منا؟

 

إذاً التوبة التوبة، والأوبة الأوبة، والرجوع الرجوع، وسيفرح الله بتوبتي وتوبتك، وسيفتح لنا من الأبواب فوق ذلك التفتيح.

 

أَتَيتُكَ راجِياً يا ذا الجَلالِ *** فَفَرِّج ما تَرى مِن سوءِ حالي

عَصَيتُكَ سَيِّدي وَيلي بِجَهلي *** وَعَيبُ الذَنبِ لَم يَخطُر بِبالي

إِلى مَن يَشتَكي المَملوكُ إِلّا *** إِلى مَولاهُ يا مَولى المَوالي

لَعَمري لَيتَ أُمّي لَم تَلِدني *** وَلَم أُغضِبكَ في ظُلمِ اللَيالي

فَها أَنا عَبدُكَ العاصي فَقيرٌ *** إِلى رُحماكَ فَاِقبَل لي سُؤالي

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم.

 

أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، يا طوبى للمستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إنعامه، والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.

 

أما بعد:

 

لا أستطيع أن أجمل في هذه الجمعة ولا في دقائقها القصار ما يمكن أن تعمله أيها المبارك في هذه العشر، وهذه هي دائرة الإسلام الواسعة التي لا تحدنا في نوع واحد من أنواع الطقوس، ولا في عبادة واحدة.

 

إن صمتك -أيها العبد- عبادة فما بالك بالنطق؟ إن نومك قد يتحول إلى قربة وطاعة فما بالك بالسير والدرج في الأرض والحركة؟

 

إنك تستطيع أن تحلق بالسجود عاليا إلى سدرة المنتهى، إنك تستطيع أن تصل بوصل الناس بالبذل والندى.

 

إذاً، أبواب الطاعات كثيرة، وصنوف العبادات لا يمكن أن يحصيها محصي، لكن يجمع زمام هذه الأمور جوامع أرشد إليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيما أرشد، إياك أن تنافس في النوافل وأنت مقصر في الواجبات: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" وما بعد ذلك: "وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن أعاذني لأعذنه".

 

فرائض الصلاة والصيام والصدقة والزكاة، فرائض وصل الأرحام، فرائض وصل ما أمر الله -عز وجل- بوصله أولى بنا أن نأتيه في هذه العشر، ثم بعد ذلك نتنافس في ألوان الطاعات، ومما يجمع هذه الطاعات ما أرشد إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- حين جاء الصحابي يشتكي أن شعائر الإسلام قد كثرت عليه: "يا رسول الله إن شعائر الإسلام قد كثرت علي دلني على أمر أتشبث به؟" دلني على أمر جامع يجمع لي أمر الصلاة والصيام والبذل، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال لسانك رطب من ذكر الله".

 

والله -تعالى- بأبلغ من ذلك، قال: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)[العنكبوت: 45].

 

وهذه هي أيام الذكر: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر" قال في ختام الحديث صلى الله عليه وسلم: "فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير".

 

(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ)[الحـج: 27].

 

(وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ)[البقرة: 203].

 

إلى غير ذلك، كرر الله -عباد الله- الذكر للحاج، وغير الحاج في القرآن كثيرا، بل ما استكثر الشرع في شيء ولا في أمر ما استكثر من أمر الذكر: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة: 152].

 

اذكرونا مثل ذكرانا لكم *** ربّ ذكرى قرّبت من نزحا

 

"أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى يا رسول الله، قَالَ: "ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى".

 

أيها الإخوة: هذه الأيام مخصوصة بعمل أجل، هو الحج، لكن الحج لا يمكن أن أتطرق إليه في ذيل الخطبة، بل له خطبة خاصة، لنحلق مع النبي -عليه الصلاة والسلام- عاليا، لنحج بأرواحنا قبل أن تحج بنا الأبدان، لنصحب النبي -عليه الصلاة والسلام- وليردفنا على قصوائه، ولنرى أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- والشعائر والمشاعر، والدموع إلى ذلك.

 

أسأل الله –عز وجل- أن يحفظنا وإياكم، وأن يبلغنا وإياكم...

 

 

 

المرفقات

يريد أن يتوب عليكم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات