دروس وعبر من خطبة الوداع

عارف أنور

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التربية الحج
عناصر الخطبة
1/نص خطبة النبي في حجة الوداع   2/مفهوم النسيء وتحريمه 3/حرمة الدماء والأموال والأعراض 4/تحقير أمر الجاهلية   5/تكريم المرأة وبيان حقوقها وواجباتها 6/شهادة الصحابة للنبي بحسن البلاغ 7/الأمر بمناصحة ولاة الأمور

اقتباس

ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- نقلة أخرى في خطبته يبين فيها أمرًا قد كان مسحوقًا في الجاهلية، وهي قضية المرأة التي طالما نسمع أبواق العلمانيين والمفسدين تهتف بمطالبة حقوقها الضائعة المفقودة -زعموا- ولطالما جعلوا هذه الحقوق ستارًا لنوايا خبيثة وسرائر سيئة لإفساد المرأة وإخراجها من مملكتها وعرشها -بيتها- إلى أماكن الهلاك وبؤر الفساد. فبدأ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فاتقوا الله في النساء..." وفي هذه الجمل من الفوائد والأحكام...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

عجبًا لأمر المسلمين اليوم، كيف تمر بهم الأحداث والوقائع دون النظر والاستفادة منها؟, وكيف مرت بهم الأيام وتمضي السنون دون فهم ثاقب للخروج من المأزق؟!, فمنذ بعثته -عليه الصلاة والسلام- إلى وفاته، والآيات والأحاديث ترشد الأمة إلى الخير، وتعمق فيهم الصلاح، تحذرهم من الوقوع في الشرور والإجرام، وذلك لمن استرشد بهما وعمل بمقتضاهما، ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".

 

إن الناظر إلى نصوص الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، ليعلم يقينًا أن الخلاص والنجاة من كل ما نحن فيه هو العودة إليهما والتمسك بهما, ولذلك أصّل هذه المبادئ، وبنى عليها الأسس النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بخطبة جامعة مانعة كانت خطبة الوداع، جعلها وصايا عامة، تسترشد بها الأمة، وتستضئ بها في حياتها، أمام الظلام الحالك التي تعيشه من صهيونية حاقدة، ونصرانية خبيثة، وعلمانية ماكرة دُست بين صفوف المسلمين بأوجه عديدة، حتى أضحت تُلهج على الألسنة: فمرة بالديمقراطية، ومرة بالتطور والحضارة، ومرة بنبذ التنطع والتشدد وأخيرًا بمحاربة الإرهاب.

 

وقبل أن نورد الأحكام والفوائد من هذه الخطبة نقف متأملين في الأفق، ننظر بأعيننا ونسمع بآذاننا، ونفقه بقلوبنا نص هذه الخطبة العظيمة.

 

عن أبي بكرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض, السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات -ذو القعدة وذو الحجة والمحرم- ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان. أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذو الحجة؟" قلنا: بلى، قال: "فأي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلدة؟" وفي بعض الروايات: "أليس البلد الحرام". قلنا: بلى. قال:"فأي يوم هذا؟" قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى. قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا". ثم قال: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث" وكان مستوضعًا في بني سعد فقتلته هذيل.

 

وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن  فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون؟! قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: "اللهم اشهد، اللهم اشهد" ثلاث مرات.

وفي رواية البخاري بلفظ: "ألا هل بلغت؟" فقالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" وفي رواية البخاري أيضًا: "فلا ترجعوا بعدي ضلالاً...." إلخ.

 

وعند ابن ماجة بعد قوله: "... فإن دماءكم وأموالكم" إلخ. قال: "ألا لا يجني جان إلا على نفسه، ولا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده، ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا. ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها، ثم قال: ألا وكل دم من دماء الجاهلية...." إلخ الحديث بمثل رواية مسلم.

 

وعند ابن ماجة أيضًا من حديث جبير بن مطعم قال: قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيف من منى فقال: "نضر الله امرًا سمع مقالتي فبلغها. فربَّ حامل فقه غير فقيه!، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه!! ثلاث لا يُغلُّ عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" وعنده أيضًا: "ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم. فلا تسودوا وجهي، ألا وإني مستنقذِ أناسًا، ومستنقَذ مني أناس، فأقول: يا رب! أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" وعند الإمام أحمد: "... اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيتكم، وأدوا زكاتكم طيبة بها أنفسكم، تدخلوا جنة ربكم". 

 

وعند البخاري من رواية ابن عمر: "ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره. وقال: ما بعث الله من نبي إلا وأنذر أمته، أنذره نوح والنبيون من بعده، وإنه يخرج فيكم، فما خفي عليكم من شأنه فليس يخفى عليكم أن ربكم ليس على ما يخفى عليكم ثلاثًا. وإن ربكم ليس بأعور، وإنه أعور عين اليمنى  كأن عينه عنبة طافية".

 

إن هذه الخطبة الشاملة الجامعة المانعة حوت في طياتها الأسس والمبادئ العامة لبناء الدولة الإسلامية، وتحقيق مبدأ العدالة وتثبيت حقوق الإنسان، وذلك تحت مظلة الشريعة السمحة، حتى تبني بذلك أجيالاً ومجتمعات تقوم على أساس متين، وقوة وصلابة لا تتزعزع أمام المغريات والنظم والقوانين الموضوعة من زبالات الأذهان التي ربما خطتها أيادي مدنسة وملطخة بالخزي والعار.

 

ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- خطبته العصماء بقوله: "الزمان قد استدار ..." إلخ وذلك لكي تتبين عظمة الله -سبحانه وتعالى- في خلق السماوات والأرضين، وأن الأيام والسنين كلها تمضي وتسير على وفق ما أراد لها خالقها، وأنها لا تتغير ولا تتبدل، تسير متعبدة لخالقها وبارئها -سبحانه وتعالى-، ثم بين أن السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة، ثلاث متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ورجب منفرد عنهم بين جمادى وشعبان.

 

وأكد على الثلاث المتواليات بإشارة منه -صلى الله عليه وسلم- إلى إبطال ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من تأخير بعض الأشهر الحرم. فقيل: كانوا يؤخرون شهر محرم إلى صفر. فيجعلونه من الأشهر الحرم؛ لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر فيحرم عليهم فيها القتال, ولذلك ذم الله -سبحانه وتعالى- فعالهم هذه فقال: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [التوبة: 37], والنسئ: هو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر.

 

وبعد أن قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقائق المعروفة عندهم، بدأ يقررهم بحقائق أخرى حتى يصل إلى مراده ومقصوده من هذه المقدمة في خطبته، وهذا يدل على كمال براعة الاستهلال عنده -صلى الله عليه وسلم-. فقال لهم: "أتدرون أي شهر هذا؟! أتدرون أي بلد هذا؟؟..." فلما أقروا بحرمة ما تقدم قال لهم: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام...." إلخ.

 

وفي هذه المقدمة والجُمل من الفوائد الشيء الكثير نقتطف منها:

 

1.  قال القرطبي: "سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة، وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهومهم، وليقبلوا عليه بكليتهم، وليستشعروا عظمة ما يخبرهم به، ولذلك قال بعدها: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حراممبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء", وقد تظافرت نصوص الكتاب والسنة على المبالغة في عقوبة هذه الثلاث ووضع الحدود والقصاص، فلا يخفى على مسلم حد القتل والسرقة والقذف، وتفاصيلها تطلب في كتب الحديث والفقه مع أدلتها.

 

2. فيه حسن أدب وأخلاق الصحابة -رضوان الله عنهم-؛ حيث سألهم "أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟" إلخ، فكانوا يقولون في الجميع: "الله ورسوله أعلم"، مع أنهم قد علموا في السؤال الأول أن الإجابة هي على حسب ما يعرفونه، وليس فيه شيء جديد، فليت شعري لو تأدب طلاب العلم اليوم حال الطلب والتحصيل مع الأكابر كتأدب الصحابة -رضي الله عنهم- حتى ينالوا ما نالوه.

 

3. مناط التشبيه في قوله: "كحرمة يومكم" وما بعده هو ظهوره للسامعين؛ لأن تحريم الشهر والبلد الحرام كان ثابتًا عندهم بخلاف الأنفس والأحوال والأعراض، فكانوا في الجاهلية يستبيحونه فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم، فلا يرد كون التشبه به أخفض رتبة من المشبه؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاد المخاطبون قبل تقرير الشرع.

 

4. قال النووي -رحمه الله-: "فإن دماءكم..." إلخ، معناه: أن تحريم هذه الأمور متأكدة شديدة، وفي هذا دليل لضرب الأمثال، وبالحاق النظير بالنظير قياسًا".

 

5. الاستعداد الكامل عند الصحابة -رضوان الله عليهم- لأي تغيير يحدث ولو كان في المسلمات عندهم، إذا كان هذا التغيير يأتي من الشارع، وذلك عندما سكتوا بعد سؤاله: "أي يوم هذا؟" "أي شهر هذا؟" وقالوا: "حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه". ومعناه: فلو سماه بغير اسمه سميناه كذلك. وهذا رد واضح لمن يتدخل في نصوص الكتاب والسنة بعقله القاصر وفكره الناقص، وربما قدمه على النص.

 

6. في قوله: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم" فيه تقديم الدماء يعني الأنفس على المال والعرض، ولا يخفى ما فيه من فائدة؛ إذ أن النفس أعز ما يملكه الإنسان.

 

7. ذكر الأنفس والأموال والأعراض إشارة إلى الكليات الخمس التي طالما دعت الشريعة إلى المحافظة عليها. والكليات الخمس هي: الدين والعقل والنفس والمال والعرض. ولذلك حرم الله عز وجل الردة والخمر والقتل والسرقة والقذف مقابلها.

 

ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- من خطابه النظري إلى الخطاب التطبيقي العملي حتى يكون أكثر فائدة ووقعًا في نفوس السامعين فقال: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع" إلى أن قال "وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة" وقال: "وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب" وفي هذه الجمل من الأحكام والتأصيلات ما يلي:

 

1. تحقير أمر الجاهلية إلى أدنى درجة من الحقارة بقوله: "تحت قدمي موضوع".

 

2. في قوله: "ألا كل شيء" أي كل شيء كان في الجاهلية باطلاً، وإلا فهناك أشياء وأمور وأخلاق كانت في الجاهلية حسنة وأقرها الإسلام وذلك كنصر المظلوم ولزوم الصدق والأمانة والجود والكرم... إلخ، والله أعلم.

 

3.     الاعتزاز بتعاليم الإسلام الجديدة، وترك ونبذ التعاليم الجاهلية.

 

4.     بيان أن الدماء التي سالت في الجاهلية موضوعة، أي لا قصاص فيها ولا دية؛ لأن الإسلام يقول: "الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله".

 

5. في قوله "وأول دم أضع... وأول ربا أضع" فيه إشارة إلى أن الدعاة والعلماء عليهم أن يبدأوا بأنفسهم في تطبيق أحكام الشريعة، حتى يجدوا قبولاً بعد ذلك عند السامعين، والنصوص في تأييد ما ذُكر كثيرة.

 

6.  أول دم وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو دم ابن ربيعة واسمه إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وكان طفلاً صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر.

 

7. أول ربا وضعه النبي -صلى الله عليه وسلم- هو ربا عباس بن عبد المطلب كان يتعامل به في الجاهلية قبل الإسلام.

 

8. وفي قوله "موضوع كله" أي الربا، وهي الزيادة على أصل رأس المال. كما قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) [البقرة: 279].

 

9. فيه التشنيع على هذه الجريمة العظيمة ويكفي فيها قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: 279], وقد جاءت الأحاديث الكثيرة على تحريم الربا. ومن أشدها: قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها ـ أي عقوبة ـ مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه" (رواه الطبراني في الأوسط من حديث البراء بن عازب. وهو صحيح. انظر صحيح الجامع), وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضًا: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية" (رواه أحمد والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن حنظلة. وهو في صحيح الجامع), وجريمة الربا تدمير للاقتصاد وخراب للدول ومحق للبركة وفساد للأخلاق والمعاملات، ولذلك قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة: 276].

 

ثم انتقل -صلى الله عليه وسلم- نقلة أخرى في خطبته يبين فيها أمرًا قد كان مسحوقًا في الجاهلية، وهي قضية المرأة التي طالما نسمع أبواق العلمانيين والمفسدين تهتف بمطالبة حقوقها الضائعة المفقودة -زعموا- ولطالما جعلوا هذه الحقوق ستارًا لنوايا خبيثة وسرائر سيئة لإفساد المرأة وإخراجها من مملكتها وعرشها -بيتها- إلى أماكن الهلاك وبؤر الفساد. فبدأ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فاتقوا الله في النساء..." وفي هذه الجمل من الفوائد والأحكام ما يلي:

 

1. ابتداء انتقاله -صلى الله عليه وسلم- إلى موضوع المرأة بقوله: "فاتقوا الله..." فيه إشارة واضحة إلى ما كان عليه الجاهليون من إضاعة حقوقها.

 

2. فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن، ومعاشرتهن بالمعروف، وقد قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء: 19]، وقال أيضًا: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)[البقرة: 228]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيرًا" (متفق عليه من حديث أبي هريرة), وقال أيضًا: "الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة" (رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص), وقال: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم" (رواه الترمذي وابن حبان عن أبي هريرة وهو في صحيح الجامع), وهناك نصوص كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة تبين حسن معاشرة النساء ومراعاة حقوقهن.

 

3. في قوله: "فإنكم أخذتموهن بأمان الله" وفي بعض الروايات: "فإنما هن عوان عندكم" أي أسيرات، وشبههن بذلك لدخولها تحت حكم الزوج.

 

4. قوله: "واستحللتم فروجهن بكلمة الله", قال النووي: "والمراد بكلمة الله قيل: معناه قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة: 229], وقيل: المراد كلمة التوحيد، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم، وقيل: المراد بإباحة الله والكلمة قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3], وهذا الثالث هو الصحيح" اهـ.

 

5. قوله: "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" قال النووي: "المختار أن معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواء كان رجلاً أجنبيًا، أو امرأة، أو أحدًا من محارم الزوجة، فالنهي يتناول جميع ذلك".

 

6. قوله: "فإن فعلن ذلك" أي المخالفة "فاضربوهن ضربًا غير مبرح" فيه بيان عظمة هذه الشريعة وسماحتها؛ حيث أنها جعلت الأمور كلها بميزان عدل، وبحساب دقيق، فتؤخذ الأمور أولاً بالرفق واللين والموعظة الحسنة، فإن لم تنفع فبما هو المناسب -لكل مقام مقال- وإلا فإن آخر الدواء الكي، ولذلك قال تعالى في قضية نشوز المرأة: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34], ومع ذلك فلا يلجأ الزوج إلى الضرب إلا في الأخير. وإن لجأ إليه فلا يكون ضربًا مبرِّحًا -أي شديدًا شاقًا- وإنما يكون ضرب تأديب.

 

وفي كراهية الضرب يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، ولعله يضاجعها في آخر يومه" ( متفق عليه من حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه ) وقال أيضًا: "ولقد طاف بآل بيت محمد سبعون امرأة يشكون أزواجهن -أي بالضرب- ليس أولئك بخياركم" (رواه ابن ماجه في السنن. صحيح ابن ماجه للألباني ).

 

7. قوله: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف", فيه وجوب النفقة والكسوة على الزوج، وهو ثابت بالإجماع. وهناك تفاصيل في المطولات على مقدار النفقة والكسوة، وكذا السكنى.

 

ومع أن الخطاب إلى أفضل الخلائق بعد الأنبياء والمرسلين -وهم الصحابة- وقد كانت نفوسهم كلها مستلهمة تعاليم ربها من فيّ سيد الأنبياء والمرسلين، مع ذلك كله تأتي التأكيدات على التمسك بهذا الدين القويم والكتاب المنير، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصتم به كتاب الله".

 

وهذه من أعظم الوصايا التي يجب علينا أن نستمسك بها، فإنه والله ما أصاب الأمة من وهن وضعف إلا ببعدها عن تعاليم ربها، وما تكالب عليها أعداؤها وكشروا عن أنيابهم إلا عندما تخاذل المسلمون عن دينهم، وما أصاب الأمة من نكبات وضربات وخسائر وتقتيل وذبح وانتهاك للأعراض وتشريد وتخويف وذل وعار وخزي إلا بسبب غفلتهم عن تعاليم السماء وتركهم الجهاد في سبيل الله. ولذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر, وتركوا الجهاد في سبيل الله، أدخل الله تعالى عليهن ذلاً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم" (رواه أحمد والطبراني وهو في صحيح الجامع من حديث ابن عمر).

 

وفي الأخير أشهدهم -صلى الله عليه وسلم- على تبليغ دين الله وأدائه رسالة السماء فقال: "اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاثًا". وفي هذه الجمل الأخيرة فوائد منها:

 

1. في قوله: "فما أنتم قائلون؟" فيه حرصه الشديد -صلى الله عليه وسلم- على إشهاد الأمة على تبليغ رسالته، وذلك لأنه الواجب على المرسلين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67], فلما شهدوا له بذلك أشهدَ ربه على ذلك ثلاثًا.

 

2. حسن الأدب في إجابة الصحابة -رضي الله عنهم- فعندما طلب منهم الشهادة لم يكتفوا بها فقط، ولكن قالوا: "بلغت وأديت ونصحت", فأضافوا صفات أخرى كذلك. فما أجمل هذه الشهادة الكاملة منهم -رضوان الله عليهم أجمعين-.

 

ثم انظر الفرق بين الاستفهامين منه -صلى الله عليه وسلم- في بداية الخطبة ونهايتها. ففي البداية عندما سألهم: "أي شهر هذا؟! أي بلد هذا؟!" كانت الإجابة: "الله ورسوله أعلم". وذلك لكي يستفيدوا المزيد من العلوم الشرعية. ولكن لما كان السؤال في الأخير "وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟" متعلقًا بأمانته -صلى الله عليه وسلم-, فبادروا بالإجابة فورًا بقولهم: "بلغت وأديت ونصحت" وهذا من كمال الأدب منهم.

 

3. إشارته بالسبابة إلى السماء فيه إثبات الفوقية لله تعالى. وهذه المسألة أجمع عليها أهل السنة والجماعة وكافة العقلاء؛ لثبوتها نقلاً وعقلاً، وليس المقام مقام بسط.

 

4. عندما أشار إلى السماء ثم إلى الأرض ثلاثًا فيه زيادة التأكيد على الإشهاد.

 

5. بعد أن بين -صلى الله عليه وسلم- لأمته حرصه الشديد على تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة حثهم على ذلك فقال: "فليبلغ الشاهد الغائب" وفيه وجوب التبليغ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" (رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص).

 

6. قوله: "فرب مبلغ أوعى من سامع" قال الحافظ: "فيه الحث على تبليغ العلم، وجواز التحمل قبل كمال الأهلية، وأن الفهم ليس شرطًا في الأداء، وأنه قد يأتي في الآخر من يكون أفهم ممن تقدمه، لكن بقلّة".

 

7. في قوله: "فلا ترجعوا بعدي كفارًا"، وفي رواية "ضلالاً" فيه إرشاد للأمة وتحذير من أن يقعوا في هذه الجريمة الكبيرة، وهي قتل النفس المؤمنة بغير حق. فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) [النساء: 93]، وقال عليه الصلاة والسلام: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"( رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر وهو في صحيح الجامع), ولهذا عبر بلفظ: "لا ترجعوا بعدي كفارًا" وقد ذكر الحافظ -رحمه الله- في تفسير هذه اللفظة عشرة معان: أقواها: أنه أطلق عليه مبالغة في التحذير من ذلك لينزجر السامع عن الإقدام عليه، أو أنه على سبيل التشبيه لأن ذلك فعل الكافر. أو بيان فعل ذلك استحلالاً فهو كفر. إلى غير ذلك من التأويلات؛ لأن مذهب أهل السنة والجماعة كما هو معلوم عدم التكفير بالكبيرة خلافًا للخوارج. والقتل من الكبائر.

 

هذا هو النص الذي ورد عند الشيخين كما تقدم تفصيله وتخريجه، وهناك روايات أخرى كذلك في غير الصحيحين نذكرها شرحًا على سبيل الإيجاز خشية الإطالة، فمنها: رواية ابن ماجه وفيه: "ألا لا يجني جان إلا على نفسه", فيه تأسيس قاعدة عظيمة في الشريعة الإسلامية وهي ألا يؤاخذ المرء بجريرة الآخر ولذلك يقول الله تعالى:(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام: 164], ويقول أيضًا: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر: 38].

 

وفي قوله: "ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدًا" هذا مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم: "وإن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"، وفي رواية الباب: "ولكن سيكون له طاعة..." إلخ، فيه تحذير من اتباع خطوات الشيطان، وقد قال تعالى: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168], ورواية جبير بن مطعم عند ابن ماجه فيه التأكيد على أمور مهمة جدًا لهذه الأمة وهي:

 

1. إخلاص العمل لله، ومعلوم أن الأعمال محجوبة عن القبول إلا بشروط ثلاثة: الإسلام، الإخلاص, المتابعة.

 

2. النصيحة لولاة المسلمين لما فيه المصلحة العامة للبلاد والعباد، وحتى لا تهلك الأمة بسبب عدم إنكار المنكر وتكون ملعونة كما لعنت بنو إسرائيل قبلها. قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 78، 79].

 

3. لزوم جماعة المسلمين: لأن المفارق لهم يشق العصا بين المسلمين ويفرق كلمتهم ويشتت جهودهم وينخر في الصف ويثير الفتن والنزاعات بين المسلمين، ولذلك كانت عقوبته القتل قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وذكر منهم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه من حديث ابن مسعود.

 

ثم أخذهم -صلى الله عليه وسلم- جولة أخرى خارجة عما كان عليه من قبل ولكنها تقربه إلى النتائج وإلى الغاية والنهاية من هذا المطاف كله، وهي غاية المؤمنين من أساس وجودهم في هذه الدنيا، وهي الجنة والمثوبة الأخروية والحوض والكوثر والحور العين، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإني فرطكم على الحوض" أي أتقدمكم يوم القيامة إلى الحوض حتى أهيئ لكم الدلاء والكيزان لكي تشربوا منه وأكاثر بكم الأمم "فلا تسودوا وجهي", أي فلا ترتكبوا من المعاصي والآثام ما يبعدكم عن الحوض ويحرمكم من الشرب منه.

 

وفي رواية أحمد: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم..." إلخ ففيه الوصايا الكاملة لأركان الإسلام وأعمدته وقوامه التي طالما عاشها -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه يؤدونها في حياته فحذرهم من تركها وأمرهم بالتزامها. ومعلوم أهمية القيام بأركان الإسلام.

 

وأما رواية ابن عمر عند البخاري: "ثم ذكر المسيح الدجال..." فمعلوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحذر من الدجال دائمًا وأبدًا، بل ما من نبي إلا وحذر أمته من الدجال من لدن نوح إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. وأحاديث الدجال وما يتعلق بصفاته وفتنه كثيرة معروفة قد أفردت بالمؤلفات نعوذ بالله من شره. وللفائدة نذكر حديثًا واحدًا فقط للاتقاء من شره، فعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال" (رواه مسلم).

 

 

الخطبة الثانية:

 

ما حج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الهجرة إلا حجة واحدة في السنة العاشرة وهي حجة الوداع، وأما قبل الهجرة فقد حج حججًا كثيرة, ولذلك يقول الحافظ في الفتح: "بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشًا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج فإذا كان هذا حال قريش. فكيف يظن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يتركه؟!" اهـ مختصرًا.

 

2.  لماذا سميت حجة الوداع؟ قال ابن عمر: "كنا نتحدث بحجة الوداع والنبي -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع"( رواه البخاري), وعنده أيضًا من رواية ابن عمر: (كتاب الحج) قال: "فودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع".

 

3. حج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحجة ما يقارب مائة وأربعة وعشرون ألف نفس، وقيل: مائة وأربعة وأربعون ألفًا. ذكره المباركفوري في الرحيق المختوم.

 

4. من المعجزات التي حصلت: أن الخطبة سمعها جميع من كان في الحج بدون مكبر صوت، فعن عبد الرحمن بن معاذ التيمي قال: "خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول، ونحن في منازلنا" (رواه أبو داود في سننه. صحيح أبي داود).

 

5. عدد الخطب التي خطبها النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج أربع خطب. ولذلك استحب الشافعي -رحمه الله- الإتيان بها، وهي كالتالي: خطبة قبل يوم التروية أي في يوم 7 من ذي الحجة, خطبة يوم عرفة, خطبة يوم النحر, وخطبة في ثاني أيام التشريق.

 

 

 

المرفقات

وعبر من خطبة الوداع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات