الوطن والوطنية

سعد الدريهم

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/حب الوطن فطرة في الإنسان 2/حب الأنبياء لأوطانهم 3/مفهوم خاطئ لحب الوطن 4/مقتضيات الوطنية الحقة 5/العمل للوطن الأصلي

اقتباس

لا زال الكثير منا يختزل حب الوطن في يومٍ من أيام السنة نجعله عيداً؛ فنتشح بالأعلام الخضر والشالات، وربما تهون على بعضنا كلمةُ التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فنجعل منها حذاء أخضر نلبسه، وقد حصل هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وخلال ذلك اليوم نردد الأهازيج والأغاني الوطنية، ولا تسل خلال ذلك عن التعدي على الحرمات؛ لأن بعضاً من ضعاف النفوس يستغل...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ؛ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعدُ:

 

فإنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

أيها الأحبةُ في الله: حب الوطن فطرة في النفوس، ومجبولة عليه القلوب، فالإنسان مهما شرَّق أو غرَّب، تجدُ الحنين يُطَوِّقُه لِيُعيده إلى وطنه، ولا يكادُ المرء يجد راحته إلا في بلده ووطنه، وإن تيسرت له أحواله في غير بلده، وكلُّنا قد خامره ذلك الشعور؛ فتجده يَعُدُّ الأيام، بل والساعاتِ انتظاراً للرجعة إلى لوطن.

 

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ

كم منزل في الأرض يألفه الفتى  *** وحنينه أبدًا لأول منزلِ

 

بل إن الحرمان من الأوطان والإخراجَ منها مقرون في كتاب الله -سبحانه وتعالى- بالقتل؛ لعظم الأمر على النفوس، وكم هو ثقيل ذلك -أعاذنا الله منه-.

 

يقول الحق -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ)[النساء: 66].

 

وعشق الأوطان والحنينُ إليها قد عانق حتى النفوس الكريمة المطهرة من أنبياء الله ورسله؛ فها هو نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، يشكو مرارة الفراق لوطنه مكة، حيث أخرج منها ولو لم يُخرج لما ابتغى بها بدلاً، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خرجت"[الحديث رواه الترمذي].

 

فما أعذبه من خطاب "إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله".

 

وما أرقه من اعتذار: "ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خرجت".

 

فنَفْسُ أطهر الخلق وخيرة الله من خلقه فاضت بما تعاني من لأواء فراق الوطن؛ وهو من هو في المكانة والمنزلة، فكيف بنا.

 

ولقد ظلت تلك الوشيجة تخالطه فؤاده صلى الله عليه وسلم، حتى حبب الله إليه المدينة المنورة، فاحتلت من قلبه السويداء بعد مكة، حتى إنه صلى الله عليه وسلم إذا أبصر درجات المدينة ومعالمَها أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، أي: أسرع كما في البخاري شوقاً إليها.

 

قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: وفي هذا دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه.

 

أيها الأحبة في الله: مما مضى يجعلك على بينة من أن الإسلامَ الدِّيْنَ الحَقَّ لا يُحرِّم حب الأوطان، بل إنه يؤصل ذلك؛ لأنه سبيلٌ إلى عمارة الأوطان وحمايتها.

 

وحب الأَوْطَانِ -أيها الجمع-: معادلةٌ صعبة جداً لا زال الكثير منا حكاماً ومحكومين، يجهل حلَّها، أو معالجة أبجدياتها.

 

نعم -أيها الجمع الكريم-: لا زال الكثير منا يختزل حب الوطن في يومٍ من أيام السنة نجعله عيداً؛ فنتشح بالأعلام الخضر والشالات، وربما تهون على بعضنا كلمةُ التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ فنجعل منها حذاء أخضر نلبسه، وقد حصل هذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وخلال ذلك اليوم نردد الأهازيج والأغاني الوطنية، ولا تسل خلال ذلك عن التعدي على الحرمات؛ لأن بعضاً من ضعاف النفوس يستغل احتفالات اليوم الوطني الذي ترعاه الدولة لتحقيق مآربه إفساداً، وقد حصل ذلك في الأعوام السابقة، وما دام أنه لم يَلْقَ ردعاً فهو كائن في عامنا هذا، وعلى هذا فما دمت ترقص وتغني وتطرب فالوطنية فيك بالغة، ولو خنت الوطن أو ساعدت في خيانته، ومن لم يكن كذلك ففي وطنيته نظر، وهذه كما أسلفت هي النظرة المائلة للوطنية، وهذا لا يقول به من رجُح عقله، واكتمل فؤاده.

 

وإلا فالوطنية الحقة والمواطن الصالح، هو الذي يدافع عن وطنه ضد كل دعي أو طامع فيه، وهو من يدفع الظلم ويرفعه، لا من يظلم الناس وينتقص حقوقهم، ويلغ في أموالهم ودمائهم وأعراضهم، والمواطن الصالح هو من لا يمنع الناس متنزهاتهم ومراعي أنعامهم، وذلك بتشبيكها، والمواطن الصالح هو من يمنع الفساد ويحرص على سلامة سفينة النجاة، لا من يجلب الفساد والمفسدين، ولا من يضخ الفساد عبر قنواته الخربة المنتنة، والمواطن الصالح هو من يفرح بعلو الدين وغلبته، لا من يعمل معوله في نقض عرى الدين وتسفيهه، والمواطن الصالح هو من يُفْجَع بمواطن الاختلاط، بينما المواطن الطالح وناقص الوطنية، هو من يسعى لوئد العفة، وإحياء الخسة، وذلك بتسويغ الاختلاط تحت بند الاحتفال بيوم الوطن، ألا ساء ما يزرون.

 

وهنا أقول لكم -يا ذوي الغيرة- ليس من المروءة والديانة أن تبوئ بناتك ونساءك مواطن الفساد؛ فألزم أهلك بيتك أو أي مأوى بعيداً عن تلك المواطن التي تُقْتَل فيها العفة، فثمة هناك من لا خلاق له، ولا يردعه رادع، ولا يمنعه حياء ولا مروءة، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً، فنعوذ بالله منهم ومن كل فاسد ومفسد هيَّأ لهم الأسباب ليمارسوا عربدتهم.

 

فاحفظوا -أيها الغيارى- أعراضكم واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله عنهم؛ فأعدوا للسؤال جواباً وللجواب صواباً، والله أسأل أن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على ذلك لقادر.  

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد ُلله على آلائه، وصلواتُه على محمَّدٍ خاتمِ أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه، وسلَّم تسليماً كثيراً.

 

وبعد:

 

أيها الأحبة في الله: إننا في هذه الدنيا وإن سكنا الأوطان، وعمرناها وطابت لنا مغرياتُها وشهواتها، إلا أننا لا زلنا في غير أوطاننا؛ لأن وطننا الأصلي والذي ينبغي لنا الحنينُ إليه، ونعمل الأسباب التي ترجعنا إليه، هو الجنة، فوطنك -أيها المحب- الجنة، ولكنك أخرجت منها بسبب من عدوك الشيطان الذي لا زال يعمل جاهداً لحرمانك منها وعرقلة كل جهد للظفر والرجوع إليها.

 

نعم -أيها الجمع الكريم-: لا زلنا وإن تنعمنا واستقررنا في غير أوطانا وديارنا، فهل وعينا هذه الحقيقة، وهل عملنا لتحقيقها، أم ترانا رضينا بالهوان في دار الهوان؟

 

لا ريب أن ثمة مغبون رضي بهذه الدنيا فهي غايته، وثمة من أبصر فلزم الأسباب التي توصله إلى وطنه الأم، يقول ابن القيم في هذا المعنى -رحمه الله-:

 

فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

 

فيا من أنار الله بصيرتَه: دونك الحقيقة فالزمها، وهي أن الدنيا مهما عظمت وعلا شأنها، فإنها ليست بدار مستقر، وإنما هي ممر ومعبر، ومختبر للدار الحقيقية، والوطن الأم الجنة، فيا سعادة من باع نفيساً بخسيس، وعَمَّرَ باقياً، وضحَّى بفانٍ.

 

فيا أيها الفطناء: هاهي الجنة قد فُتِّحَت أبوابها، وهاهي النار قد فُتِّحَتْ منها الأبواب، فكونوا من أهل الجنة، ولا تكونوا وقوداً للنار، أعاذنا الله وإياكم منها.

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه؛ امتثالاً لأمر ربكم القائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين في كل قطر يا رب العالمين.

 

اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وارزقهم البطانة الصالحة، وأبعد عنهم بطانة السوء يا قوي يا عزيز.

ربنا آتنا في

 

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].

 

فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 

 

 

المرفقات

والوطنية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات