التنافس في الخيرات

ياسر الطريقي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حكم التنافس في الخيرات 2/ فضل التنافس في الخيرات وأهميته ونموذج رائع في التنافس 3/ من آثار التنافس 4/ الوسائل المعينة والمحفزة على التنافس في الخيرات 5/ من التنافس المذموم 6/ مواسم الخيرات وفاضل الأوقات ميدان للتنافس

اقتباس

التنافس سبب لرفع الهمة، وإثارة الحماس، يكشف عن معادن الناس، وعلو نفوسهم، وقوة عزائمهم كما يبين مواطن ضعفهم وقصورهم، ولا يستوي في الناس مبادر إلى الخير، ومتباطئ، ومسابق في الفضل، ومتثاقل ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ... وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

 

أيها المؤمنون: اتقوا اللهَ -تعالى- حقَّ تُقاته، فمن اتقى اللهَ -تعالى- وراقبَه وأطاعَهُ وقاه، وسابقوا إلى الخيرات، تنالوا أعلى الدرجات: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133].

 

عبادَ الله: الشيءُ النَّفَيس، تَحْرِصُ النفسُ عليه، وتُبادرُ إليه، وتُنَافِسُ المتسابِقينَ فِيه، وأَنْفَسُ مَطلوبٍ، وأَعْظَمُ مَرْغوبٍ مَغْفِرَةُ اللهِ ورِضْوَانُهُ، والفَوزُ بجناتِه: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].

 

التسابقُ إلى الخيرات، والتنافسُ في الصالحات مَطْلَبٌ شرعي، وأَمْرٌ إِلهي، قَالَ -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21].

 

وقال -سبحانه-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة:148]. قال السَّعْدِي: "فَمَنْ سَبَقَ في الدُّنْيا إلى الخيرات فَهُوُ السابقُ في الآخرةِ إلى الجنات، فالسابقون أعلى الْخَلْقِ دَرَجَة".

 

والمسارعةُ والمسابقةُ في الخيرِ صفةٌ من صفاتِ المؤمنين الموحدين، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون:57-61].

 

وفي الجنةِ تَتَفَاضَلُ الدرجات بَحَسَبِ السَّبْقِ والمسارعةِ: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12].

 

وفي الصحيحين عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ" قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: "بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِالله وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ".

 

التنافسُ في أعمالِ الخيرِ وصيةٌ نَبَوِيَّة، وسُنَّةٌ مُحمدية ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ" قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: " تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً".

 

وتَأَمَّلْ قَولَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم حَاثَّاً على المُبادَرَةِ، والمُسَارَعة- كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ -أي التبكير- لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا".

 

سَادَتْ رُوحُ المنافسةِ في الخيراتِ بينَ أصحابِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وكانَ أبو بكرٍ سَبَّاقاً أَبَدَا، أَخْرَجَ أبو داودَ في سننه، والترمذيُّ في جامعه عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قال: أَمَرَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا أَنْ نَتَصَدَّقَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، قَالَ: وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ الله وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.

 

عباد الله: التنافسُ سَبَبٌ لرفعِ الهمةِ، وإثارةِ الْحَمَاسِ، يَكْشِفُ عنْ معادِنِ الناسِ، وعُلُوِّ نُفُوسِهِم، وقُوَّةِ عزائِمِهم كما يُبَيِّنُ مَوَاطِنَ ضَعْفِهِم وقُصُورِهِم، ولا يَسْتَوِي في الناسِ مُبَادِرٌ إلى الخير، ومُتَبَاطِئ، ومُسَابِقٌ في الفَضْلِ، ومُتَثَاقِل؛ قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلله مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:10].

 

واللَّبِيبُ العاقلُ يُسارِعُ ويُبادرُ قَبْلَ العوائِقِ والعَوَارِض، فَنَافِسْ مَا دُمْتَ في فُسْحَةٍ ونَفَسْ، فالصِّحْةُ يَفْجَؤُهَا السَّقَم، والقوةُ يَعْتَرِيهَا الوَهَن، والشبابُ يَعْقِبُهُ الهَرَم.

 

بَادِرْ بِخَيْرٍ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرَا *** فَلَيْسَ في كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ

 

عبادَ الله: الخوفُ من الله، والإخلاصُ، والعزيمةُ الصادقة، والهمةُ العالية، والاقتداء بالصالحين، وسلامةُ الصدر من الغلِّ والحسد، هي صفاتُ المتنافسِين في الخيرات.

 

والصحبةُ الصالحةُ هي التي يَغْلِبُ على أفْرَادِها التنافسُ في الصالحات، والتسابُقُ إلى الخيرات يَأْلَفُ ذووها الجِدِّيِّةَ والعمل، ويَنْبِذُونَ الدَّعَةَ والكَسَل، يَتَنافَسون في حِفْظِ القران، وطَلَبِ العِلمِ، ومُسَاعَدَةِ الغير، والسعيِّ في حاجةِ ذوي الحاجةِ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، ويُبْدِعُون في مجالاتِ التنافُسِ، يُبادِرونَ في كُلِّ خيرٍ، تَنَافُسٌ مَحْمُودٌ، في زَمَنٍ يَتَنَافَسُ فيِهِ أَهْلُ الهَوى والشهواتِ، في الغَيِّ والمُنكرات، وارتكابِ المعاصي والمُحَرَّمَات، تسابق في الإثم والعدوان، وقد قال تعالى عن اليهود: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [المائدة:62].

 

وتَنَافُسٌ ذَمِيمٌ، وتَسَابُقٌ أَثيمٌ على قَتْلِ العِفَّةِ في بِلادِ المسلمين، ونَشْرِ الرذيلةِ في أوسَاطِ المؤمنين، وتطبيعِ السفورِ والانْحِلال، وفَرْضِ اختلاطِ النساءِ بالرجال، في ميادِين العَمَلِ والتعليم.

 

ومن التنافسِ المذمومِ ما حَذَّرَ منه الصادقُ المعصومُ -صلى الله عليه وسلم- وهو التنافسُ على الدُّنيا وزَهْرَتِها على حسابِ الآخرةِ وبَهْجَتِها -كما في الصحيحين أنه قال: "فو الله مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".

 

وفي مسلم عن عبد الله بْنِ عَمْرِو -رضي الله عنهما- عَنْ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ.... تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ".

 

أقول هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: ومِنْ ميادينِ التنافسِ في الخيراتِ، ما يَمُنُّ اللهُ بِهِ علينا مِنْ فَاِضلِ الأوقات، والتي منها أَشْهُرُ الحَجِّ المُحَرَّمَاتِ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ.

 

فاغتنموا فيها الساعات، وأكثروا من الطاعات، واجتنبوا المحرمات، واعلموا أن الحجَّ من أجل القربات، فرضَه اللهُ -تعالى- على عبادِه، فقال: (وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران:97].

 

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا".

 

فعلى المكلَّفِ المستطيع أن يبادر إلى أدائِهِ، وليسارع إلى إتمام إسلامه، فالحجٌّ ركنٌ من أركانِ الإسلام، ومبانيِه العِظَام، يجبُ مرةً واحدةً في عُمُرِ الإنسان، تُغفرُ به الذنوب، وتُغسل الأدران يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".

 

وصلوا وسلموا -عبادَ الله- على خير خلق الله محمدِ بن عبد الله كما أمر الله.

 

اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارْضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن سائرِ أصحابِ نبيك أجمعين، وعنا معهم بفضلك وإحسانك وجودك، يا أرحمَ الراحمين ..

 

 

 

 

 

المرفقات

في الخيرات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات