غدر قريش بالنبي وفتح مكة

عبد الرحمن بن الصادق القايدي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ من بنود صلح الحديبية 2/ حصول الخيانة والغدر من قريش 3/ محاولة قريش للترقيع واستدراك الخطأ 4/ عزم النبي على غزو مكة وفتحها 5/ قصة حاطب رضي الله عنه 6/ خروج النبي إلى مكة 7/ فتح مكة وإسلام أبي سفيان

اقتباس

من بنود صلح الحديبية الذي تم بين النبي وقريش هو أن يرجع النبيّ هذا العام ويعتمر العام القادم، وأن من أحب أن يدخل في عقد وعهد قريش من القبائل فله ذلك، ومن أحب أن يدخل في عهد النبي فله ذلك، فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، ولقد كانت العداوات والحروب بينهما منذ غابر الأزمان، فأصبحت كل قبيلة في أمن من الأخرى بسبب هذه الاتفاقية، ولكن...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها المسلمون، حديثنا اليوم عن غدر قريش بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، والذي أدى إلى فتح مكة المكرمة، وأصبحت بلدًا آمنًا حتى يومنا ولله الحمد.

 

من بنود صلح الحديبية الذي تم بين النبي وقريش هو أن يرجع النبيّ هذا العام ويعتمر العام القادم، وأن من أحب أن يدخل في عقد وعهد قريش من القبائل فله ذلك، ومن أحب أن يدخل في عهد النبي فله ذلك، فدخلت قبيلة خزاعة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، ولقد كانت العداوات والحروب بينهما منذ غابر الأزمان، فأصبحت كل قبيلة في أمن من الأخرى بسبب هذه الاتفاقية، ولكن حصل غدر من بني بكر، فقاموا بالإغارة على قبيلة خزاعة الموالين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فغدروا بهم ليلاً وهم على ماء يقال له: الوتير، فأصابوا منهم رجالاً كثيرًا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، بل وقاتل رجال منهم مع بني بكر مستغلين ظلمة الليل حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، ولم يراعوا حرمة البيت الحرام.

 

وانطلق عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله في المدينة مستغيثًا ومستنجدًا، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، وقال قصيدة منها قوله:

 

يا رب إنّي ناشدٌ محمدًا *** حلفنا وحلف أبيه الأتلَدا

 

إلى أن قال:

 

إن قريشًا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك الْمؤكَّدا

وهـم أذلـة وأقل عددًا *** هم بيتـونا بالوتير هُجّدًا

وقتلونـا رُكَّعًا وسُجَّدًا

 

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نصرت يا عمرو بن سالم"، فقام يجر رداءه وهو يقول: "لا نصر إن لم أنصر بني كعب مما أنصر به نفسي"، وقال: "إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب نصرة للمظلوم ووفاءً بالعهود".

 

وسرعان ما أحست قريش بخطئها وغدرها، فخافت من عواقبه الوخيمة، فبعثت قائدها أبا سفيان ليجدد الصلح، وقد أخبر رسول الله أصحابه بما ستفعل قريش بسبب غدرهم، فقال: "كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشدّ العقد ويزيد في المدة".

 

وفعلاً دخل أبو سفيان المدينة، فدخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله طوته عنه، فقال: يا بنية: أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني؟! قالت: بل هذا فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنت رجل مشرك نجس، فقال: والله، لقد أصابك بعدي شرّ.

 

ثم خرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، ثم ذهب إلى أبي بكر ليكلم رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر فكلمه، فقال: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله؟! فوالله، لو لم أجد إلا الذرَّ لجاهدتكم به.

 

ورجع أبو سفيان إلى مكة يجر أذيال الخيبة، وتجهز النبي للخروج لفتح مكة، وأمر بإخفاء الأمر لتتوفر المباغتة والمفاجأة؛ كي لا تحدث قريش مقاومة وليقلّ نزيف الدم والقتل في البيت الحرام، ودعا بدعائه المشهور: "اللهم خذ على أبصار قريش يروني بغتة".

 

إلا أن حادثةً حدثت تعتبر في لغة اليوم خيانة عظمى من أحد الصحابة مجتهدًا، وأراد أن يتقرب للمشركين من أجل أهله بمكة، فأرسل رسالة لقريش يحذرها، ثم أعطى الرسالة لامرأة وجعل لها جُعلاً على أن تبلغه قريشًا، فجعلته في قرون رأسها -أي: في ضفائر شعرها- ثم خرجت به، وأتى الخبر من السماء بما صنع الصحابي حاطب بن أبي بلتعة، فبعث رسول الله عليًا والمقداد والزبير فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها".

قالوا: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، ففتشنا رحلها فلم نجد شيئًا، فقال علي: أحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا، والله لتخرِجن الكتاب أو لنجرّدنّك، فلما رأت الجد منهم قالت: أعرضوا، فأعرضوا فحلّت قرون رأسها فأخرجت الكتاب، فدفعته إليهم، فأتينا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش، يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله: "ما هذا يا حاطب؟!"، قال: لا تعجل علي يا رسول الله، والله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما ارتددتُ ولا بدّلت، ولكني كنت امرأ ملصْقًا في قريش لست من أنفسهم، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد، وليس لي فيها قرابة يحمونهم، وكان مَن معك لهم قرابات يحمونهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دعني -يا رسول الله- أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق، فقال رسول الله: "إنه شهد بدرًا، وما يدريك -يا عمر- لعل الله قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، فذرفت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. رواه البخاري.

 

وأثبت الله إيمان حاطب بن أبي بلتعة وعاتبه هو والذين يحبون المشركين، فقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ)، وهكذا أخذ الله العيون فلم يبلغ إلى قريش خبر خروج النبي وأصحابه إليهم.

 

أيها الإخوة: إن خروج النبي هذا يذكرنا بخروجه قبل ثماني سنوات خائفًا يترقب، ومن ورائه قريش تطارده هو وصاحبه، والآن يعود بعشرة آلاف رجل أرواحهم في أكفهم لا يريدون إلا وجه الله وطاعته، فلنتأمل هذا وندرك أهمية الصبر مع العمل الجاد.

 

ولما كان رسول الله بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية، فأعرض عنهما لِمَا كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجر، فقالت له أم سلمة -رضي الله عنها-: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، وقال علي بن أبي طالب لأبي سفيان: ائت رسول الله من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً، ففعل ذلك أبو سفيان وقال: (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)، فرد عليه الرؤوف الرحيم بقوله تعالى: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فأنشد أبو سفيان أبياتًا منها:

 

لعَمَرُكَ إني حين أحمل رايـةً *** لِتَغْلِبَ خيلُ اللات خيلَ محمد

لكالْمدلج الْحيران أظلم ليلة *** فهذا أواني حين أُهدَى فأهتدي

هدانى هادٍ غيرُ نفسي ودَلَّنيَ *** على الله من طردته كل مُطرَد

 

فضرب رسول الله صدره وقال: "أنت طردتني كلّ مطرد". رواه ابن هشام والبيهقي في دلائل النبوة. فأسلم أبو سفيان بن الحارث وحسن إسلامه، ويقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله منذ أسلم حياءً منه، وكان رسول الله يحبه وشهد له بالجنة. فهنيئًا له وألحقنا الله جميعًا بهم.

 

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي نوّر بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، سبحانه أهلك القرون الأولى من قوم نوح وعاد وثمود وزعزع ملك فرعون وأخمد نار أبي لهب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أقام به منابر الإيمان ودفع وساوس الشيطان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بسنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

وهكذا واصل النبي زحفه إلى مكة المكرمة، وكانوا صائمين، فلما بلغ الكديد أفطروا، ثم واصلوا حتى بلغوا مر الظهران، فنزلوا عشاءً، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقد عشرة آلاف نار، وخرجت دوريات التفتيش تحوط الجيش من جهاته كلها، وعثروا على أبي سفيان بن حرب في رجال معه وهو العدو اللدود وقائد قافلة غزوة بدر الكبرى، وأخذه العباس إلى رسول الله فقال له: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!"، فقال له أبو سفيان مندهشًا منبهرًا بحسن المعاملة -بأبي هو وأمي-: ما أحلمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحقّ، فأسلم، ومرت القوات العسكرية أمام أبي سفيان، كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان: يا عباس: من هؤلاء؟! فيقول: قبيلة كذا، فيقول: ما لي ولها؟! حتى نفدت القبائل، فمر به رسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرين والأنصار لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد والدروع، قال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟! قال: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، فقال: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح مُلك ابن أخيك اليوم عظيمًا، قال العباس: إنها النبوة، قال: فنعم إذًا.

 

وهكذا دخل مكة متجهًا إلى البيت بعد أن استسلم ساداتها وأتباعهم، ودخل متواضعًا وإنه ليضع رأسه ويطأطئه حتى يكاد يمس واسطة الرحل، وعلت كلمة الله في جنباتها، وسقطت ثلاثمائة وستون صنمًا تحيط بالكعبة بعد أن أخذ يطعنها الواحد تلو الأخرى بقوسه وهو يقول: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، وكان طوافه على راحلته، فلما أتمه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففُتحت، فدخلها فأزال ما فيها من أصنام ومحا ما فيها من صور، ثم أغلق عليه الباب ومعه أسامة بن زيد وبلال بن رباح، وصلى في الكعبة، ثم دار في البيت وكبر ووحد الله، ثم فتح الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفًا ينتظرون ماذا يصنع، فقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرةٍ أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج...". إلى أن قال: "يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظّمها بالآباء، والناس من آدم وآدم من تراب"، ثم قال: "يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرًا؛ أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

 

وحانت الصلاة، فأمر رسول الله بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدًا فلم يَسمع هذا، يعني بذلك أن أباه مات ولم يسمع هذا العبد يرقى على الكعبة ويؤذن، فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حقّ لاتبعته، فقال أبو سفيان: أما والله لا أقول شيئًا، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء، فخرج عليهم النبي فقال لهم: "قد علمت الذي قلتم"، فقصه عليهم فذهلوا، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك.

 

فاللهم صل وسلم على خير خلق الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، فلقد مكن الله لنا حرمًا آمنًا بفضله سبحانه وتعالى ثم بفضل هذا النبي الكريم.

 

 

 

المرفقات

قريش بالنبي وفتح مكة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات