عناصر الخطبة
1/ حسن تصرف المسلم رهن بوعيه السليم 2/ معنى الوعي 3/ حاجة المسلم إلى الوعي في هذا الزمان 4/ فوائد الوعي السليم وثمراته 5/ وعي الأمة بوعي أفرادهااقتباس
إن المرءَ المُسلم أحوج ما يكونُ إلى استثمار جانب الوعيِ في زمنٍ كثُر فيه الغشُّ، وشاعَ بين عمومه التدليسُ والتلبيسُ في كافَّة جوانب الحياة: دينيَّةً كانت أو دُنيويَّة، فهو سلاحٌ منيعٌ يحميكَ بعد الله -سبحانه- من أن تقعَ ضحيَّة غشٍّ أو خِداعٍ أو غفلةٍ، أو أن تُجرَّ إلى مغِبَّةٍ لا تحمدُها لنفسِك بسبب غفلتك، أو أن تتعثَّر في الأمر الواحد أكثرَ من مرَّةٍ بسبب غيابِ الوعي عن شخصِك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله المُنعِم على عباده بدينِه القويم وشِرعته، وهداهم لاتِّباع سيِّد المُرسلين والتمسُّك بسُنَّته، وأسبغَ عليهم من واسعِ فضلِه وعظيم رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له دعوةُ الحقِّ يُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحيِّ، يُسبِّح له الليلُ إذا عسعسَ والصبحُ إذا تنفَّس، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ المُرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واعلموا أن أحسنَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
عباد الله: الإنسانُ الناجحُ المُوفَّق هو ذلكم الشخصُ الذي آمنَ بربِّه -جل وعلا-، وصدَّق برسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجعلَ الإسلام قائدَه ودليلَه إلى فعل الحسن واجتِناب القبيح، وجعل من هذا الشعور المُتكامِل مِعيارًا يَميزُ به الخبيثَ من الطيب، والزَّينَ من الشَّين.
لديه من الحكمة والأناة والتأمُّل ما يتَّقي بها السوءَ قبل وقوعِه -بفضل مولاه جل وعلا-، أو أن يرفعَه بعد وقوعه، فهو في كلتا الحالَين لا يقبلُ تمامَ هذا الوقوع.
ولو تأمَّلنا السرَّ الكامِن وراءَ حُسن التصرُّف في مثلِ ذلكم، لوجَدنا خصلةً مهمةً تلبَّس بها مثلُ ذلكم المؤمن كواحدٍ من قلَّةٍ تنعُم بتلك الخَصلة في حين يفتقِدُها كثيرون، ألا وهي: "خصلةُ الوعي".
نعم، "خصلةُ الوعي" التي تتجلَّى في سلامة الإدراك ودقَّته والنأْيِ بهما عن المُؤثِّرات المُغيِّبة للمنطق والحقيقة، والذي يُمكن من خلالها قراءةُ ما بين السطور، ووضعُ النُّقط على الحروف؛ لأن الوعيَ أمرٌ زائدٌ على مُجرَّد السمع والإبصار، فما كلُّ من يُبصِرُ وعَى ما أبصر، وما كلُّ من يسمَع وعَى ما سمِع؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 12].
فالوعيُ -عباد الله- مرتبةٌ أعلى من مرتبَة الإحساس السمعيِّ والبصريِّ، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نضَّر اللهُ امرءًا سمِع مقالتي فوعاها". رواه الترمذي وغيرُه.
إن المرءَ المُسلم أحوج ما يكونُ إلى استثمار جانب الوعيِ في زمنٍ كثُر فيه الغشُّ، وشاعَ بين عمومه التدليسُ والتلبيسُ في كافَّة جوانب الحياة: دينيَّةً كانت أو دُنيويَّة.
الوعيُ -عباد الله- سلاحٌ منيعٌ يحميكَ بعد الله -سبحانه- من أن تقعَ ضحيَّة غشٍّ أو خِداعٍ أو غفلةٍ، أو أن تُجرَّ إلى مغِبَّةٍ لا تحمدُها لنفسِك بسبب غفلتك، أو أن تتعثَّر في الأمر الواحد أكثرَ من مرَّةٍ بسبب غيابِ الوعي عن شخصِك.
والمؤمنُ الواعِي محميٌّ -بإذن الله- عن مثلِ تلك العثَرات؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يُلدغُ المؤمنُ من جُحرٍ واحدٍ مرتين". رواه البخاري ومسلم.
الوعيُ -عباد الله- أعمقُ من مُجرَّد التصوُّر الظاهر للأمور؛ إذ يعترِي التصوُّرَ الظاهرَ شيءٌ من التزوير والتزويق ولبس الحق بالباطل، فيكونُ سببًا في خطأ الحكم على الشيء، وخطأ التعامُل بعد الحُكم الخاطِئ.
فلهذا كان الوعيُ سببًا أقوى في إثبات الحقِّ من مُجرَّد صورةٍ بدَت ظاهرةً لكنها مُزوَّرة.
فقد جاء في الصحيحين أن امرأتين خرجَتا على سليمان -عليه السلام- وقد اختلفَتا في ابنٍ معهما، كلُّ واحدةٍ تدَّعي أنه ابنُها. فقال -عليه السلام-: ائتُوني بالسكِّين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمُك الله، هو ابنُها -أي: ابن الكبرى-. فقضَى به للصغرى.
أي: حكمَ به لمن رفضَت شقَّه بالسكِّين، مع أنها أقرَّت أنه ابنُ الكبرى، ولكنه -عليه السلام- وعَى حقيقةَ الأمر ولم يأخذ بإقرارها الظاهِر، وهو كما قيل: "سيدُ الأدلة". لأنه لو كان ابنًا للكُبرى لما رضِيَت الكُبرى بشقِّه بينهما نصفَيْن.
الوعيُ -عباد الله- ليس عبارةً فلسفيَّة، أو ترفًا فكريًّا، كلا؛ بل هو إدراكٌ ينالُه المرءُ بالجِبِلَّة تارةً، وبالاكتِساب والدُّربَة تاراتٍ أخرى، فهو صفةٌ مُساندةٌ للعلم ومُكمِّلةٌ له، فبالوعي تصِل إلى الحقيقة وتُحيطُ بما يدورُ في عالَمك من أحداثٍ وإن اعتراها شيءٌ من التحريف.
بالوعيِ يُعرفُ المرءُ متى يُصدِّق الشيءَ ومتى يُكذِّبُه. وبالوعيِ يعرفُ المرءُ متى يكونُ الكلامُ خيرًا، ومتى يكونُ الصمتُ خيرًا له. بالوعيِ يُدرِكُ من يستعينُ به ومن يستغِلُّه.
وبالوعيِ -عباد الله- يتصوَّر القضايا ويجمعُ شتاتَها؛ ليكون حكمُه على الشيء فرعًا عن تصوًُّر حقيقته، فلا يعجَل بالحُكم لمن فُقِئَت إحدى عينيه حتى يسمعَ من الآخر؛ إذ قد تكون فُقِئَت عيناه كِلتاهما.
ولقد أحسنَ من قال:
وهبْني قلتُ: هذا الصبحُ ليلٌ *** أيعمَى العالِمون عن الضياءِ؟!
الوعيُ -عباد الله- ليس إعمالاً لسوء الظنِّ، ولا تكلُّفًا لما وراء الحقيقة، وليس هو رجمًا بالغيب، ولكنَّه كياسةً وفِطنة ناشئتان عن سَبْر الأمور ومعرفة أحوال الناس، واطِّلاعٍ وافرٍ عن الأحداث، بالنظر الدقيق الذي لا يُغالِطُه بهرجةٌ ولا إغراء. وهو في حقيقته سلاحٌ قد تحتاجُه للهُجوم وقد تحتاجُه للدفاع.
وأكثرُ ما يُوقِعُ المرءَ فريسةً للمكر والخِداع قلَّةُ وعيِه أو عدمُه بالكليَّة.
ورحِم الله الفاروق -رضي الله عنه-؛ حيث قال: "لستُ بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدَعُني".
إذا قـلَّ وعيُ المـرء يـومًا فإنما *** يتِيهُ عن الحقِّ الصريحِ ويغـفُلُ
ومن كان ذا وعيٍ سويٍّ فقد يرَى *** بذلك حقًّا ليس بالوعي يُجهَلُ
فاحرِص -أيها المسلم- على أن تكون لبِنةً واعيةً من لبِنات المُجتمع؛ لكي تُحسِن المسيرَ، وتُتقِنَ العمل والتعامُل في النُّهوض بمُجتمعك من السيِّئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.
وإياك والعُزلةَ المقيتة عن أمور المُسلمين؛ فإنها تحجُبُك عما هو خيرٌ لك في دينِك ومعاشِك، وتقضِي على كلِّ مُقوِّمات الوعيِ الناشِئِ من المُخالطَة ومعرفة أحوال الناس وأيامهم.
فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمنُ الذي يُخالطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم". رواه ابن ماجه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه.
وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-.
واعلموا أن الأمة بمجموعها لا تكونُ واعيةً إلا بوعيِ أفرادها، فهم فكرُها النابِض، وبصيرتُها الراقية بها إلى معالِي الأمور؛ فإن الأمةَ إذا وعَت فقد أدركَت ما لها وما عليها بين الأُمم الأخرى، فتستثمِرُ مُكتسباتِها الدينية والسياسية والاقتصادية لتثبيت هويَّتها والاعتزاز بها، والاستِعداد الدائِم لسدِّ الثَّغَرات داخِلَها وخارِجَها لئلا تُؤتَى من قِبَلها.
فبقدرِ وعيِ أمَّتنا يُمكنُ إجادةُ التعامُل مع الأحداث والأزَمات بعين المُدرِك لتحديد الأولويات وحُسن التعامُل معها بإدراك حقائِقِها، مُتجاوزةً المُؤثِّرات النفسية والاجتماعية والسياسية، مُنطلِقةً من مبدأ الإنصاف والعدل وإنزال الأمور منازِلها، كي لا تُمتهَن ولا تُزدَرَى من قِبَل خُصومها وأعدائِها فتسقُط من علوٍّ.
وإنما قوةُ الأمة الدينية والسياسية والاقتصادية مُنطلِقةً في وعيِها في استِثمار طاقاتها البشرية، وتهيِئَتها لتكون خيرَ من يخدمُ دينَها ومُجتمعَها، مُحاطةً بسِياج الوعيِ كي لا تتلقَّى الوكَزَات تلوَ الوكَزَات، ولا تُؤتَى من مأمنِها فتُدفَعُ حينئذٍ إلى ما لا تُريد، أو أن يستهينَ بها خصمُها وحاسِدُها.
فالأمةُ الواعيةُ لا تُخدَع ولا ينبَغي لها أن تُخدَع ما دامَت قائمةً بأهمِّ مُقوِّمات وعيِها، وهي: دينُها، وعدلُها، وأخلاقُها، وعلمُها.
فما جعل الله أمةَ الإسلام وسطًا بين الأُمم إلا بمثلِ ذلكم، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143].
هذا وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنوَر، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم