صلح الحديبية ودم المؤمن

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/معاهدة صلح الحديبية أحداثها وبنودها وفوائدها 2/التساهل في إراقة الدماء في هذا العصر

اقتباس

حادثةُ صلحِ الحديبيةِ كانت عجيبةً، وأحداثُها على الصحابةِ كانت مؤلمةً غريبةً، فكيفَ يُصدُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ومن معه عن العمرةِ؟ وكيف يُمنعُ الهديُ من أَن يَبْلُغَ مَحِلّهُ؟ وكيف يوافقُ الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- على هذه الشروطِ المُستفزِةِ؟ وكيفَ يَردُ أبا جندلَ وأبا بصيرٍ إلى المشركينَ ليفتنوهم في دينِهم؟ وكيفَ؟ وكيف؟ أسئلةٌ لا يجدونَ لها إجابةً في ذلكَ الوقتِ. ولكن اسمعوا إلى...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

في العامِ السادسِ من الهجرةِ؛ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ومعَه أصحابُه إلى مكةَ يريدونَ العمرةَ ومعهم الهديُ، فلما بلغَ قريباً من عُسْفَانَ، جاءَه رجلٌ فأخبرَه: إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ، وَصَادُّوكَ عَنْ الْبَيْتِ، وَمَانِعُوكَ، هنالك قال النبيُ -صلى الله عليه وسلم- لأصحابِه: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ؟" فقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ، لا تُرِيدُ قَتْلَ أَحَدٍ، وَلا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ، فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ" فقَالَ عليه الصلاة والسلام: "امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ".

 

وَسَارَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ، بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: "حَلْ حَلْ -يزجرونَها لتقومَ-، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ -أي حَرَنَت-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ".

 

فعلمَ النبيُ -عليه الصلاة والسلام- أن اللهَ -تعالى-لم يُردْ لهم دخولَ مكةَ ولا القتالَ؛ لذلك قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ".

 

فأرسلَ لهم رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَن يقولُ لهم: "إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً، وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أَظْهَرْ فَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جَمُّوا، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا، حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي وَلَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ" فأرسلوا له سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو.

 

فجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الْكَاتِبَ، فَقَالَ اكْتُبْ: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" قَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ، فَوَ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ".

 

ثُمَّ قَالَ: "هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَا قاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".

 

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ" فَقَالَ سُهَيْلٌ: "وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً، وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ.

 

فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَكْتُبُ هَذَا؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ، إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا".

 

فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ -وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ بسببِ إسلامِه-، وَكانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قَالَ: فَوَ اللَّهِ إِذًا لَمْ أُصَالِحْكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَجِزْهُ لِي" قَالَ: مَا أَنَا بِمُجِيزِهِ لَكَ، قَالَ: "بَلَى، فَافْعَلْ"، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، فَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ -رضي الله عنه- بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي، وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ لَقِيتُ، فَزَادَ النَّاسَ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ.

 

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أَبَا جَنْدَلٍ، اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ -عز وجل- جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ".

 

يقول سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ -رضي الله عنه- وكانَ قد حضرَ الموقفَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ".

 

قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: "بَلَى" قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: "بَلَى" قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي" قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَلَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ، وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ، فَوَ اللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ.

 

وكانَ عمرُ -رضي الله عنه- يقولُ: "مَا زِلْتُ أَصُومُ وَأَتَصَدَّقُ، وَأُصَلِّي وَأَعْتِقُ، مِنَ الّذِي صَنَعْتُ، مَخَافَةَ كَلاَمِي الّذِي تَكَلّمْتُ بِهِ يَوْمَئِذٍ".

 

فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا" فَوَ اللَّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وكانوا يرجونَ أن يُنزّلَ اللهُ -تعالى - على نبيِه ما يُوافقُ رأيَهم، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ، اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ عرفوا أن الأمرَ قد قُضيَ، فقَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا.

 

ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ حتى وصلَ المدينةَ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ، فَقَالُوا: الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فَدَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ، فَخَرَجَا بِهِ من مسجدِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يقودونَه إلى مكةَ لتعذيبِه على الإسلامِ.

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، والصلاةُ والسلامُ على إمامِ المرسلينَ، وقائدِ الغرِّ المحجلينَ، نبيِّنا محمدٍ عليه وعلى آلهِ وصحبِه والتابعينَ.

 

أما بعد:

حادثةُ صلحِ الحديبيةِ كانت عجيبةً، وأحداثُها على الصحابةِ كانت مؤلمةً غريبةً، فكيفَ يُصدُ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ومن معه عن العمرةِ؟ وكيف يُمنعُ الهديُ من أَن يَبْلُغَ مَحِلّهُ؟ وكيف يوافقُ الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- على هذه الشروطِ المُستفزِةِ؟ وكيفَ يَردُ أبا جندلَ وأبا بصيرٍ إلى المشركينَ ليفتنوهم في دينِهم؟ وكيفَ؟ وكيف؟ أسئلةٌ لا يجدونَ لها إجابةً في ذلكَ الوقتِ.

 

ولكن اسمعوا إلى قولِه تعالى: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ)[الفتح:25].

 

هذا ما حصلَ في صلحِ الحديبيةِ، فما السببُ في أن اللهَ -تعالى-لم يأذنْ لهم في القتالِ؟

 

(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ) في مكةَ من المستضعفينَ وممن يكتمُ إيمانَه: (لّمْ تَعْلَمُوهُمْ) لا تعرفونَهم: (أَن تَطَئُوهُمْ) بجيشِكم فتقتلونَهم: (فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ مّعَرّةٌ) أي إثمٌ: (بِغَيْرِ عِلْمٍ لّيُدْخِلَ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيّلُواْ) أَيْ لَوْ تَمَيَّزَ الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ: (لَعَذّبْنَا الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)[الفتح: 25]  أَيْ لَسَلَّطْنَاكُمْ عَلَيْهِمْ، فَلَقَتَلْتُمُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا.

 

لا إلهَ إلا اللهُ، إذاً سببُ ما حدثَ في الحُديبيةِ هو الحفاظُ على دماءِ هؤلاءِ المؤمنينَ مِن أن تُسفكَ بغيرِ علمٍ؛ حتى ولو كانَ النتيجةُ فتحَ مكةَ، فهل علمتُم منزلةَ المسلمِ، وحُرمةِ دمِهِ عندَ اللهِ –تعالى-؟.

 

عبادَ اللهِ: أتَحْسَبُونَ أن ما نراهُ ونسمعَه كلَ يومٍ من إراقةِ دماءِ المسلمينَ هَيِّنًا؟ حتى أصبحَ دمُ المسلمِ من أرخصِ الدماءِ، لا واللهِ، بل هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.

 

ما هو الشعورُ الذي ينتابُك حينَ ترى مقتلَ مسلمٍ، ثم تتذكرُ قولَه صلى الله عليه وسلم: "لَزَوالُ الدُّنيا أهْوَنُ علَى اللَّهِ مِن قتلِ رجلٍ مسلمٍ".

 

هل رأيتَ الكعبةَ وأصابَك ذلكَ الإحساسُ من الجلالِ والجمالِ والكمالِ؟

 

عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: "مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ".

 

وإذا كانَ امرأةٌ قتلتْ هرةً فدخلتْ النارَ، فكيفَ بمن يقتلُ مسلماً حبيباً للملكِ الجبارِ؟

 

اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ.

 

اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بأنك أنت اللهُ لا إلهَ إلا أنت أن تحقنَ دماءَ المسلمينَ في كلِ أرضٍ يُراقُ فيه دمُ مسلمٍ.

 

اللهم يا فَارِجَ الْهَمِّ، ويا كَاشِفَ الغَمِّ، اللهم يا كَاشِفَ الضُرِّ، ويا مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّ، نَسْأَلُكَ فَرَجاً قَرِيباً لِلمُسْلِمِينَ، وَصَبْراً جَمِيلا لِلمُسْتَضْعَفِينَ.

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهم مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً، وَمِنْ كُلِّ بَلاءٍ عَافِيَةً.

 

اللهم من أرادَ الإسلامَ والمسلمينَ بسوءٍ فاجعلْ كيدَه في نحرِه واجعلْ تدبيرَه تدميرَه، يا سميعُ الدعاءِ.

 

 

 

المرفقات

الحديبية ودم المؤمن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات