الكليم.. والخاتم.. والنصر.. والصوم

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: التربية رمضان
عناصر الخطبة
1/ الفرج قريب رغم تكاثر المحن 2/ توافق ملاحم الأنبياء 3/ عرض جانب من سيرتي محمد وموسى -عليهما السلام- 4/ دروس تربوية من القصتين 5/ من ملاحم أهل الإيمان في رمضان

اقتباس

مَهْمَا تَآمَرَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتِ الْمِحَنُ وَالْأَزَمَاتُ، وَعَظُمَتِ الْكُرُوبُ الْمُلِمَّاتُ، وَأَطَلَّتِ الْفِتَنُ المُدْلَهِمَّاتُ؛ فَإِنَّ فَرَجَ اللَّهَ تَعَالَى قَرِيبٌ، وَنَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَقِينٌ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عَبْرَ التَّارِيخِ فَتْحًا وَنَصْرًا، وَعِزًّا وَمَجْدًا، وَكَانَتْ فِيه بَدْرٌ شَامَة الْمُعارِكِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَرَأْسهَا وَفَخْرهَا، حَتَّى سُمِّيَ يَوْمُهَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحَمْدُ لله القَوِيِّ العَزِيزِ؛ بَطْشُهُ شَدِيدٌ، وَحَبْلُهُ مَتِينٌ، وَنَصْرُهُ قَرِيبٌ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَاكِرِينَ، وَنْسْتَغْفِرُهُ استِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ العَظِيمِ؛ فَالخَيرُ كُلُّهُ فِي يَدِيهِ، وَالشَرُّ لَيسَ إِلَيهِ، إِنَّا بِهِ وَإِلَيهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ يَقِينُهُ بِالله تَعَالَى أَقْوَى مِنْ يَقِينِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ تَصْدِيقُهُ بِوَعْدِهِ أَشَدَّ مِمَا يَرَى بِعَينَيهِ، عَرَفَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَسْمَائِهِ وَأَوْصَافِهِ وَآيَاتِهِ، وَعَلِمَ حِكْمَتَهُ فِي أَفْعَالِهِ وَتَدْبِيرِهِ، صَلَى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ فَقَدْ جَاوَزْتُمْ نِصْفَ رَمَضَانَ، وَكُتِبَ لَكُمْ مَا مَضَى مِنَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، وَتِلَاوَةِ آي القُرْآنِ، وَالبِرِ وَالصِّلَةِ وَالِإحْسَانِ، فَاصْبِرُوا فِيمَا بَقِيَ وَزِيدُوا مِنَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَيَامِهِ وَلَيالِيهِ خَيرٌ ممَا مَضَى، وَلَا يَتْرُكُ عَاقِلٌ بِنَاءً بَنَاهُ فِي مُنْتَصَفِهِ إِلَا أَنْ يُتِمَّهُ، وَإِلَا لَفَاتَ اللَاحِقُ، وَخَربَ السَّابِقُ، فَأَتِمُّوا رَمَضَانَ بِإِحْسَانٍ، وَتصَدَّقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَجْزِي المُتَصَدِّقِينَ، وَيُحِبُّ المُحْسِنِينَ.

 

أَيُّهَا النَّاسَ: مَهْمَا تَآمَرَ الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمَهْمَا اشْتَدَّتِ الْمِحَنُ وَالْأَزَمَاتُ، وَعَظُمَتِ الْكُرُوبُ الْمُلِمَّاتُ، وَأَطَلَّتِ الْفِتَنُ المُدْلَهِمَّاتُ؛ فَإِنَّ فَرَجَ اللَّهَ تَعَالَى قَرِيبٌ، وَنَصْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ يَقِينٌ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ عَبْرَ التَّارِيخِ فَتْحًا وَنَصْرًا، وَعِزًّا وَمَجْدًا، وَكَانَتْ فِيه بَدْرٌ شَامَة الْمُعارِكِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَرَأْسهَا وَفَخْرهَا، حَتَّى سُمِّيَ يَوْمُهَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ.

 

وَمَلاَحِمُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيهُمُ السَّلَامُ- تَتَوَافَقُ، وَسِيَرُ أَصْحَابِهِمْ تَتَشَابَهُ، وَأَخْبَارُ أَعْدَائِهِمْ تَتَطَابَقُ؛ فَنَصْرُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ -عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي بَدْرٍ تَكْرَارٌ لِنَصْرِ الْكَلِيمِ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلَامُ- فِي عَاشُورَاءَ.

 

وَأَصْحَابُ مُوسى امْتَثَلُوا الْأَمْرَ الرَّبَّانِيَّ فَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى مُهَاجِرِينَ لِلِه تَعَالَى، فَارِّينَ مِنْ بَطْشِ فِرْعَونَ وَظُلْمِهِ.

 

وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- خَرَجُوا مَعَهُ لِمُلاَقَاةِ الْمُشْرِكِينَ فِي بَدْرٍ.

 

وَفِرْعَونُ مُوسَى حَشَدَ جُنْدَهُ، وَأَغْرَى أَتْبَاعَهُ بِالْمَعْرَكَةِ الْفَاصِلَةِ الَّتِي سَيُبِيدُ فِيهَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ فَلَا تَقُومُ لَهُمْ قَائِمَةٌ.

 

وَفِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ سَارَ بِشُجْعَانِ قُرَيشٍ؛ لِيُعِيدَ لِلْطَاغُوتِ مَجْدَهُ، وَيُفْنِي مُحَمَّدًا وَصَحْبَهُ.

 

يَا لَهما مِنْ صُورَتَيْنِ مُتَطَابِقَتَيْنِ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ!! وَهَكَذَا مَعَارِكُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ تَتَشَابَهُ وَلَوْ تَبَايَنَ الزَّمَانُ، وَتَبَاعَدَ الْمَكَانُ.

 

اِزْدَادَ غَيْظُ فِرْعَوْنَ وَعُلُوُّهُ بَعْدَ اِنْكِسَارِ بُرْهَانِهِ وَحُجَّتِهِ، وَإِيمَانِ مَنْ بَارَزَ بِهِمْ مِنْ سَحَرَتِهِ؛ مُسْتَعْظِمًا مَا حَصَلَ، مُكَذِّبًا مَا وَقَعَ، مُنْقِلِبًا عَلَى مَا اقْتَرَحَ؛ فَهُوَ الَّذِي اتَّهَمَ مُوسَى بِالسِّحَرِ، وَهُوَ الَّذِي بِمُسْتَشَارِيهِ رَأَى أَنْ يَجْمَعَ لَهُ أَمْهَرَ السَّحَرَةِ لِيُبَارِزُوهُ، لَكِنَّ النَّتِيجَةَ لمَّا لَمْ تَكَنْ عَلَى مُرَادِهِ رَفَضَهَا وَانْقَلَبَ عَلَيهَا، وَهَكَذَا أَهْلُ الْبَاطِلِ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ يَنْقَلِبُونَ عَلَى مُقْتَرَحَاتِهِمْ، وَيَرْفَضُونَ نَتَائِجَهَا إِذَا لَمْ تُكَنْ فِي صَالِحِهِمْ. فَالْحَالُ وَاحِدَةٌ، وَالْمَشْهَدُ يَتَكَرَّرُ كُلَّ حِينٍ.

 

بَاتَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ الْهَزِيمَةَ مُغْتَاظًا لَا يَرُدُّهُ عَنْ إِفْنَاءِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ شَيْءٌ أَبَدًا، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى بِالْهِجْرَةِ لَيْلًا؛ لِئَلَا يَشْعُرَ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ بِهِمْ؛ لِأَمْرٍ يُدَبَّرُهُ اللهُ تَعَالَى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيِ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) [الشُّعرَاءَ: 52].

 

وَمَضَى فِرْعَوْنُ يَحْشُدُ جُنْدَهُ، وَيُرَتِّبُ جَمْعَهُ، وَيُشَغِّلُ إِعْلاَمَهُ؛ لِيُقْنِعَ النَّاسَ بِصِحَّةِ مَعَرَكَةِ إفْناءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) [الشُّعرَاءَ: 53- 56].

 

إِنَّهَا نَفْسُ مَسَالِكِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَتَعْلِيلَاتِهِمْ وَاِتِّهَامَاتِهِمْ لِأَهْلِ الْإيمَانِ: قِلَّةٌ وَلَيْسُوا كَثْرَةً، وَهَذِهِ الْقِلَّةُ تُرِيدُ إِفْسَادَ الْكَثْرَةِ، وَالْاِسْتِئْثَارَ بِالرَّأْيِّ دَونَهُمْ، وَتَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ خَطَرٌ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ، وَهِي مُمَهِّدَاتٌ لِلْهُجُومِ الْكَاسِحِ عَلَيهِمْ، وَهُوَ عَيْنُ مَا فَعَلَهُ فِرْعَوْنُ مَعَ مُوسَى -عَلَيهِ السَّلَامُ-.

 

وَمِنْ مَعْرَكَةِ الْكَلِيمِ إِلَى مُنَازَلَةِ الْحَبِيبِ -عَلَيهِمَا السَّلَامُ-؛ فَقَبْلَ بَدْرٍ رَأَتْ عاتِكَةُ رُؤْيَا فِيهَا فَنَاءُ سَادَةِ قُرَيْشٍ، سَخِرَ أَبُو جَهْلٍ مِنْهَا، وَأَزْرَى بِالْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِهَا، حَتَّى جَاءَ الصَّارِخُ يُخْبِرُهُمْ خَبَرَ عِيرِهِمْ وَقَدْ عَرَضَ لَهَا النَّبِيُّ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَسَارَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى حَتْفِهَا، وَقَامَ أَشْرَافُهَا يَحَضُّونَ النَّاسَ عَلَى الْخُرُوجِ فِي غَطْرَسَةٍ وَكِبْرِيَاءَ، وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْروٍ: يا آلَ غَالِبٍ: أَتَارِكُونَ أَنْتُمْ مُحَمَّدًا وَالصُّبَاةَ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَكُمْ؟! مَنْ أَرَادَ مَالًا فَهَذَا مَالِي، وَمَنْ أَرَادَ قُوتًا فَهَذَا قُوتِي.

 

وَخَرَجَ جَيْشُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِي الطَّرِيقِ رَأَى أحَدُهُمْ رُؤْيَا بِمَقْتَلِ أَشْرَافِهِمْ، وَأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ بِمَكَّةَ سَيُوتَرُ أَهْلُهُ. وَلَمَّا شَاعَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي الْعَسْكَرِ وَبَلَغَتْ أَبَا جَهِلٍ قَالَ: "هَذَا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ، نَحْنُ أَوْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ".

 

نَجَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَأَفْلَتَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَطَلَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجُوا مِنْ أَجَلِهِ، وَرَجَعَ بَعْضُ عُقَلَائِهِمْ، وَلَكِنَّ الْفِرْعَوْنَ أَبَا جَهْلٍ أَصَرَّ عَلَى الْمُضِيِّ فِي مَسِيرِهِ.

 

حادِثَتَانِ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ، وَأَحْدَاثُهُمَا مُتَشَابِهَةٌ، فِي كُلِّ حادِثَةٍ نَبِيٌّ يَقُودُ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِرْعَونٌ يَسِيرُ بِالْمُشْرِكِينَ.

 

وَسَارَ مُوسَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ وَراءَهُمْ حَتَّى بَلَغُوا الْبَحْرَ: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشُّعرَاءَ: 60- 61].

 

وَلَكِنَّ إيمَانَ مُوسَى بِاللهِ تَعَالَى أعْظَمُ، وَيَقِينَهُ بِهِ أَكْبَرُ، وَلَوْ رَأَى بِعَيْنِهِ خِلاَفَ مَا يَعْتَقِدُ، فَظَنُّهُ بِاللهِ تَعَالَى يُكَذِّبُ نَظَرَ عَيْنِهِ: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعْيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشُّعرَاءَ: 62].

 

يَا لإِيمَانِ الرُّسُلِ بِمَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ، وَهُمْ فِي حَالٍ تَطِيشُ فِيهَا الْعُقُولَ، وَيُشَلُّ التَّفْكِيرُ، فَجَاءَ الْفَرَجُ وَالنَّصْرُ وَالتَّمْكِينُ، بِسَبَبِ الصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْيَقِينِ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اِضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالْطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) [الشُّعرَاءَ: 63- 65].

 

يَا لَهَا مِنْ مُعْجِزَةٍ مِمَّنْ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بِضَرْبَةِ عَصَا وَفِي غَمْضَةِ بَصَرٍ قُلِبَ الْبَحْرُ طَرِيقًا سَالِكًا بَيْنَ مَوْجِينِ صَارَا جَبَلَيْنِ، فَسُبْحَانَ الْعَلِيمِ الْقَدِيرِ: (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيِ فَاِضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) [طه: 77].

 

وَبَعْدَ عُبُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلِّهِمْ أَرَادَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الطَّرِيقَ الْيَبَسَ بِعَصَاهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ، فَيَمْنَعَ فِرْعَوْنَ وَجُنْدَهُ مِنَ اللَّحَاقِ بِهِمْ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ سُبْحَانَه أَنَّ يَتَوَسَّطَ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ الْبَحْرَ فَيُطْبِقَ عَلَيهِمْ جِبَالَ أَمْوَاجِهِ فَيُغْرِقَهُمْ: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) [الدُّخَانَ: 24].

 

غَرِقَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ، وَاَنْتَقَمَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَخَلَّصَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَوَقَعَ حُسْنُ ظَنِّ مُوسَى بِرَبِّهِ مَوْقِعَهُ، فَكَانَتْ نِهَايَةً أَلِيمَةً لِلْظَالِمِينَ، مُفْرِحَةً لِلْمُؤْمِنِينَ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ * وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) [طه: 78- 79].

 

وَكَانَ فِي هَذِهِ الْحادِثَةِ بَينَ النَّبِيِّ وَالْفِرْعَوْنَ أَبْلَغُ عِظَةٍ وَآيَةٍ: (وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشُّعرَاءَ: 65- 68].

 

وَلَئِنْ سَارَ فِرْعَوْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِحَتْفِهِ بِكُلِّ صَلَفٍ وَزُهُوٍ وَطُغْيَانٍ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ مَكَّةَ كَانَ مِثْلَهُ، أَرَادَ أَنْ يَرِدَ بَدْرًا، فَيَشْرَبَ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّي لَهُ الْجَوَارِيْ، وَيَزْرَعَ مَهَابَتَهُ فِي الْعَرَبِ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ؛ فَهَذَا الْأُنْسُ الَّذِي يَحْلُمُ بِهِ سَيَنْقَلِبُ مَنَاحَةً وَأَتْرَاحًا، وَمَذْبَحَةً وَمُصَابًا.

 

وَلَئِنْ كَانَ نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوقِنًا بِرَبِّهِ إِلَى آَخِرِ لَحْظَةٍ فَإِنَّ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ يُنَاشِدُ رَبَّهُ النَّصْرَ إِلَى آَخِرِ لَحْظَةٍ، وَكَانَ مِنْ يَقِينِهِ بِاللهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُرِي أَصْحَابَهُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ، فَأَيُّ يَقِينٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا؟! وَأَيُّ ثِقَةٍ بِاللهِ تَعَالَى أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الثِّقَةِ؟!

 

الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَتَقَابَلَ الصَّفَّانِ، وَتَبَارَزَ الشُجْعَانُ، فَهَاجَتِ النُّفُوسُ، وَاشْتَبَكْتِ الصُّفُوفُ، وَتَلَاقَتِ السُّيُوفُ، وَغَطَّى النَّقِيعُ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، فَأَسْفَرَ عَنْ نَصْرٍ مُبِينٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَدَحْرٍ لِلْكَافِرِينَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ مَصَارِعَهُمْ الَّتِي خُطَّتْ لَهُمْ، وَصُرِعَ أَبُو جَهْلٍ فِرْعَوْنُ الْعَرَبِ، كَمَا صُرِعَ فِرْعَوْنُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

 

الْأَعْمَالُ وَاحِدَةٌ، وَالْعَاقِبَةُ وَاحِدَةٌ؛ إِصْرَارٌ عَلَى الْبَاطِلِ فِي عَسْكَرِ الْفَرَاعِنَةِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَنُصْرَةٌ لِلْحَقِّ فِي عَسْكَرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ يَلْقَى الْفَرَاعِنَةُ مَصَارِعَهُمْ، وَيَذُوقَ الْمُؤْمِنُونَ حَلاَوَةَ نَصْرِهِمْ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الْأَنْفالَ: 7- 8].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَخْلَصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ؛ فَإِنَّ "مَنْ صَامَ رَمَضانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وَ"مَنْ قَامَ رَمَضانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، وَ"مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"، فَلَا يَحْرِمُ نَفْسَهُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ إِلَّا مَحْرُومٌ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: نَصَرَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى -عَلَيهِ السَّلَامَ- عَلَى فِرْعَوْنَ فَأَغْرَقَهُ وَجُنْدَهُ، وَصَامَ مُوسَى يَوْمَ النَّصْرِ شُكْرًا لِلِه تَعَالَى.

 

وَخَرَجَ مُحَمَّدٌ -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلَامُ- إِلَى بَدْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ وَهُمْ صِيَامٌ، فِي السَّابعِ عَشَرَ مِنْ رَمَضانَ، فَكَانَ الظَّفَرُ الْعَظِيمُ. وَفِيهِ قُتِلَ أئِمَّةُ الْكُفْرِ وَسُحِلُوا إِلَى قَلِيبٍ قُذِفُوا فِيهِ.

 

وَالْفَتْحُ الْمُبِينُ لِمَكَّةَ كَانَ فِي رَمَضَانَ، وَفَتْحُ الْأَنْدَلُسِ فِي رَمَضَانَ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُتُوحِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَانَتْ فِيهِ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيهِ شَهْرُ النَّصْرِ، وَالنَّصْرُ لَا يُنَالُ إِلَّا بِالصَّبْرِ، وَالصَّوْمُ صَبْرٌ، فَلَا عَجَبَ أَنْ يَنْتَصِرَ أهْلُ الصَّبْرِ فِي شَهْرِ الصَّبْرِ.

 

وَعَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الصَّبْرِ، وَهِيَ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَإِحْيَاءُ لَيْلِهَا يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ، وَاِلْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الصَّبْرِ وَإِلَّا فَاتَتْ، وَشُرِعَ الْاِعْتِكَافُ فِي الْعَشْرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيهِ وَلَوَازِمِهِ إِلَّا الصَّابِرُونَ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- "كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أهْلَهُ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

 

فَأَرُوا اللهَ تَعَالَى خَيْرًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَخُذُوا مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي حَظَّكُمْ؛ لِصَلَاحِ قَلُوبِكُمْ، وَثَبَاتِ نُفُوسِكُمْ، وَنَصْرًا لِأُمَّتِكُمْ الَّتِي لَنْ تَنْتَصِرَ عَلَى أَعْدَائِهَا إِلَّا بِالصَّبْرِ، وَهَذَا مَيْدَانُ تَعَلُّمِ الصَّبْرِ دَونَكُمْ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِيهِ؛ فَإِنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى رُزِقَ الصَّبْرَ فِي مَيَادِينِ النِّزَالِ مَعَ فَرَاعِنَةِ الْبَشَرِ، وَأَعْدَاءِ الرُّسُلِ.. فَحَقَّقَ الصَّبْرَ فِي النِّزَالِ الْفِكْرِيِّ فَلَا تُزَعْزِعَهُ الشُّبْهَاتُ، وَصَبَرَ فِي النِّزَالِ الْعَسْكَرِيِّ فَلَا تُرْهِبُهُ قُوَّةُ الْأَعْدَاءِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آلَ عُمْرَانٌ: 200].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

المرفقات

.. والخاتم.. والنصر.. والصوم

.. والخاتم.. والنصر.. والصوم - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات