بيت العنكبوت

عادل الكلباني

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ بيان سورة العنكبوت لمنهج الدعوة والدعاة وفلاحهم 2/ بيان سورة العنكبوت لمنهج الظالمين وعاقبة أمرهم 3/ تأملات في سورة العنكبوت ومَثَلِ بيتِ العنكبوت 4/ عدم جواز الخروج على الحكام وزعزعة الأمن 5/ بُعد الجهاد الحقيقي عن التخريب وترويع الآمنين

اقتباس

كل من اتخذ وليا من دون الله، فَمَثَلُهُ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون؛ إذ إن بيتها لا يغني عنها شيئا، فلا يقيها حرا، ولا يمنعها قرا، ولا يستر عورة، ولا يحجب ضوءا، ولا يقي من شدة، ولا يدفع ريحا، فهو موجود كالعدم، ولكنها تبنيه، وتظن أنها بنت بيتا، وليتها لم تبنه! فهي تشعر أنها تأوي إلى واق، أو إلى ساتر، وهو لا يستر ولا يقي شيئا.

 

 

 

 

الحمد لله، يضرب الأمثال للناس، وما يعقلها إلا العالمون؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد في الأولى والآخرة، وإليه ترجعون.

 

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بالقرآن العظيم للناس كافة، بشيرا ونذيرا، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

 

أما بعد، (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100]، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132].

 

عباد الله: كل من اتخذ وليا من دون الله، فَمَثَلُهُ كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، لو كانوا يعلمون؛ إذ إن بيتها لا يغني عنها شيئا، فلا يقيها حرا، ولا يمنعها قرا، ولا يستر عورة، ولا يحجب ضوءا، ولا يقي من شدة، ولا يدفع ريحا، فهو موجود كالعدم، ولكنها تبنيه، وتظن أنها بنت بيتا، وليتها لم تبنه! فهي تشعر أنها تأوي إلى واق، أو إلى ساتر، وهو لا يستر ولا يقي شيئا.

 

فتأمل -يا عبد الله- مثل كل من حاد عن طريق الصالحين، وترسم سبيل الهالكين، كيف يصف الله حالهم، فيقول: (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأعراف:30].

 

وتأمل سياق الآيات التي ورد فيها هذا المثل، فقد جاء المثل بعد ذكر البلاء، وليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الله الكاذبين.

 

وبعد أن ذكر أحوال الناس في البلاء، فمنهم من يجعل فتنة الناس كعذاب الله، وعند انقشاع الغمة، وزوال الفتنة؛ قالوا إنا معكم! (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ) [العنكبوت:10-11].

 

معاشر المسلمين: بعد ذلك تقرر السورة سنة الله التي قد خلت في عباده، المقررة في غير ما موضع من كتاب الله -جل وعلا-، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات:171-173].

 

هذا ما قررته السورة في ذكرها قصة نوح وقومه: (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت: 14-15].

 

وقصة إبراهيم مع قومه: (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت:24].

 

ثم تعقب ذلك قصة قوم لوط: (وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [العنكبوت:35].

 

ومدين، (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ) [العنكبوت:38].

 

وقارون وفرعون وهامان: (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا) [العنكبوت:39-40]. و

 

لم يكن هذا الهلاك إلا تمام العدل، وقمة الإنصاف: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].

 

ثم عقب على ذلك بآيتنا هذه.

 

أيها المسلمون: ليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكنها كلمة تعني ما يتبع لفْظَ المرءِ بها بلسانه فيتقبل التكليف، صبرا على المكاره، وسعيا إلى جنة حفت بالمكاره.

 

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]؟ ليس هذا شأن دعوة الله، ولا السنة في عباد الله، وإليكم دلائل ذلك مسطورا في سجل التاريخ صبرا وتضحية وجهادا ودعوة.

 

صفحات التاريخ مليئة باستهزاء المعرضين، وسخرية الكافرين، وهمز ولمز المشركين، مليئة بالضحك من المسلمين، والاغترار بزينة الحياة الدنيا، سراب يخيل لعيونهم أنه ماء، فيسعون إليه جاهدين، ويبذلون في طلبه مهجهم، وينفقون أموالهم، ثم يتبين لهم أنه مجرد سراب، وأن ما بذل في السعي إليه كان قطعة من العذاب.

 

كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين:29-32].

 

(وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) [الفرقان:8]. وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان:4]. (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:7]. (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص:4]. (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الفرقان:5].

 

معاشر المسلمين: كل قوة تقف في وجه الحق، قوة مدحورة، موصوفة بالوهن، فالوهن جزء من جزئيات مكرهم وخططهم وترصدهم: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال:18]. (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) [غافر:25].

 

بيد أن كيدهم ومكرهم وضلالهم وخططهم وحربهم، لا بد أن يواجه ذلك كله بسلاح السورة نفسها، بكتاب الله -تعالى-، تلاوة وتدبرا وعملا وحكما واحتكاما: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) [العنكبوت:45].

 

بذِكر الله، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45]، وبالمجادلة بالتي هي أحسن: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت:46].

 

بالهجرة إلى ديار الإسلام، لا منها: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت:56].

 

بكمال التوكل على الحي الذي لا يموت، الذي تكفل برزق كل دابة، وقضى بالموت على كل حي: (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) [العنكبوت:60].

 

وضمن الهداية للمجاهدين فيه، وهذا التئام الختام مع المطلع، كعادة القرآن الكريم؛ فالفتنة سنة للمؤمنين، والهداية حق من الله للمجاهدين، والصبر والصدق زاد السائرين، والثبات على الحق وقود المؤمنين، والقرآن والصلاة والذكر سلاح الصادقين: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58-59].

 

أيها الأخ الحبيب: تأمل: كيف قال الله -تعالى- في آخر السورة: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، كيف لم يقل والذين جاهدوا في سبيلنا؟ ولِم أتى بصيغة الجمع هنا؟ فقد جرت العادة في كتاب الله -تعالى- أن يعبر عن الجهاد بوصفه في سبيل الله، بصيغة المفرد.

 

أما الجهاد في الله فيشمل جميع أنواع الجهاد ومراتبه: جهاد النفس، وجهاد بالنفس، وجهاد بالمال، وجهاد باللسان، وجهاد بالعمل في مرضاة الله على أي نوع من أنواع العبادة، صلاة وصياما وبرا وصلة، وصبرا وصدقا، وتحملا وعدلا، وتعاونا على البر والتقوى.

 

وأما قوله (فِينَا)، مع كونها للعظمة، إلا أن فيها معنى تتضمنه، وهو الجهاد في سبيل الله، وفي الله، وفي رسوله، وفي القرآن، وفي الأمة دعوة ونصحا وتوجيها وإرشادا؛ كما في حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة". قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" رواه مسلم.

 

وهكذا الجهاد هنا، مقصوده -والله أعلم- الجهاد في هؤلاء جميعا.

 

وعليه؛ فليس المجاهد في الله، ولا في سبيل الله من يقتل المسلمين، ويخالف أمر الله فيهم، فينشر الرعب فيهم، ويسوغ لعدوهم أن يغزوهم، ويظلمهم في أموالهم وأمنهم ومعاشهم.

 

كيف يكون مجاهدا في الله من يكفّر المسلمين؟ ومن يخرج على ولاة أمر المسلمين؟ كيف يكون مجاهدا في الله من خفر ذمة المسلمين، فيقتل من استأمنوه، ويغدر بمن عاهدوه، ويفسد ما أصلحوه، ويهدم ما بنوه؟ ليس مجاهدا في الله من روَّع مؤمنا، أمره الله -تعالى- على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن ينصح له، وقال في حديث أنس -رضي الله تعالى عنه-: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" رواه الشيخان.

 

كيف يكون مجاهدا في الله من استعجل الموت، فبادر بقتل نفسه، تقربا إلى الله كما زعم!.

 

كيف يكون مجاهدا في الله من إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله؟ وهو يقرأ في كتاب الله أن نوحا لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما! وإنما ورد تحديد لبث نوح في قومه في هذه السورة فقط لبيان حاجة المجاهد في الله إلى الصبر على جهد الدعوة إلى الله، مهما طال الزمن، ومهما كانت قوة العدو، وسخريته، واستهزاؤه.

 

ولأجل هذا اختصر الله القصة اختصارا مثيرا للتأمل: (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:14]!.

 

فكانت العاقبة بهلاك الظالمين، ونجاة النبي ومن معه من المؤمنين، بهذا التعقيب السريع، لأن السنين مهما امتد طولها فكأنها لم تكن حين النهاية، فيزول العناء الطويل، وما رافقه من الصبر الجميل، بمجرد حصول المراد من النصر المبين.

 

عباد الله: من تفقه في دين الله علم أن أنبياء الله هم أصبر الناس، وأشجعهم، وأخشاهم لله، وأتقاهم له، وأنهم أصدق من بذل، وأحرص من دعا، ومع كل هذا فقد قال موسى: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء:14]، وقال الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، مع أن الصحب الكرام كانوا يلوذون به -صلى الله عليه وسلم- إذا حمي الوطيس.

 

وهذا مفيد للناشئة: أن طول العمر غاية يسعى لها الدعاة، والمصلحون، لا ليتمتعوا بزخرف الحياة الدنيا، ولكن ليبلّغوا رسالات ربهم؛ وليعبدوا الله في أعمارهم بما يرفع درجاتهم عند مليكهم، ويجعل لهم لسان الصدق في الآخرين.

 

فليس من الشجاعة بمكان قذف النفس فيما يهلكها، وليس من الجهاد في الله ولا في سبيل الله إهلاك الحرث والنسل، والسعي في الأرض بالفساد، وليس من الصبر في الله ولا من بيع النفس لله استعجال الموت على أي طريقة كانت، ومهما رافق موت المرء من هلاك ودمار وإزهاق أنفس، وسفك دم، وهتك عرض، ويتم طفل، أو حرقة قلب والد.

 

دليل ذلك كله ما ختمت به السورة، متوافقا مع ما بدأت به: (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].

 

فانظر -يا رعاك الله- كيف أن الجهاد في الله -تعالى- ينبغي أن يكون قمة الإحسان، وعنوانه الإحسان، والمجاهدون هم المحسنون، الذين يحسنون اتباع أمر الله تعالى، وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فيفعلون ما يؤمرون من السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرهم، وأن يقولوا الحق لا يخشون في الله لومة لائم، بغير سفك دم، ولا خروج، ولا نزع يد من طاعة، ولا افتئات، ولا ممانعة لهم، ولا شذوذ عنهم.

 

معاشر المسلمين: إن ولاة الأمر في المسلمين مثلهم كمثل الوالدين، مأمور بصحبتهما بالمعروف، حتى لو أمرا ولدهما أن يشرك بالله، بل ولو جاهداه عليه، فهو مأمور بأن يعصيهما في ذلك، ومأمور في ذلك الوقت بمصاحبتهما بالمعروف.

 

وهذا مثل ولاة الأمر في المسلمين، مأمور كل مسلم بطاعتهم في المعروف، والنصح لهم، وعدم الخروج عليهم، ولو أمروا بمعصية الله فلا يطاعون، ولكن في ذات الوقت لا يقاتلون، ولا يخرج عليهم، وإنما يعصى أمرهم بالمعصية، ويصاحبون بالمعروف.

 

وتأمل كيف جاء ذلك الأمر متناسقا مع الفتنة والبلاء في سياق سورة العنكبوت،  (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [العنكبوت:8].

 

ولا يغب عن ناظريك -أخي الحبيب- وأنت تقرأ هذه السورة تفضل الله -تعالى- ونعمته على الناس بالأمن في ديارهم، والتكفل بأرزاقهم، والمعافاة في أبدانهم، تماما كما جاء في الحديث: "مَن بات آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".

 

فقف عند آية الأمن، ورددها، وتأملها، ثم قل الحمد لله على نعمته، الظاهرة والباطنة، ولا تبدل نعمة الله كفرا، بل قيدها بذكرها، وزدها بشكرها، وكن مع القليل، فقد قال الله -تعالى-: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]، ولا تكن ممن وصفهم بقوله: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34].

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:67-69].

 

اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، وسابقنا ودليلنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.

 

ويا قوم؛ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود:90].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما أمر...

 

أما بعد: فاتقوا الله، فتقوى الله -عباد الله- ملاكُ كل خير، وهي الزاد لكل من جَدَّ به إلى الآخرة السير.

 

أيها المسلمون: في ضرب الله تعالى المثل ببيت العنكبوت دلائل عجيبة، يتبين بها الفرق بين بيت بني على ولاية الله -تعالى-، وبيت بني على ولاية الشيطان، فالبيت الذي جعله الله لنا سكنا، يحاط فيه الصغير بالرحمة والرعاية، ويحاط في الكبير بالتوقير والعناية، وتحاط فيه المرأة بالحب والعطف والحماية، كل فرد فيه يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لا يتباغضون، ولا يتحاسدون، ولا يتناجشون، ولا يتجسسون، ولا يغتابون، (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].

 

في البيت المسلم يطاع الزوج، والأب، ويناقش، ويعاتب، ولكنه يظل أبا موقرا، وزوجا محترما، ولا تخرج من يده القوامة.

 

وفي البيت المسلم أيضا، تعامل الأم كأغلى جوهرة، تحوطها أعين الجميع بالانبهار والاحترام والتقدير لمكانتها، وقيمتها.

 

في البيت المسلم، تقوم العلاقة بين الأفراد على طاعة الله -تعالى- في كتابه، ونبيه -صلى الله عليه وسلم- في سنته، فيرد إليهما ما اختلف أهل البيت فيه؛ فهو مبني على: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228].

 

وعلى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء:23-24].

 

ومبني على: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".

 

معاشر المسلمين: بيت المسلم مبني على: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

 

وعلى: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه؛ كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه".

 

بيت المسلم لا تضيع فيه حقوق، ولا تهمل فيه واجبات، فهو مبني على: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء:32].

 

بيت المسلم يقيه الشمس، ويدفئه في الزمهرير، ويستر عورته، ويواري سوءته، ويكون له منطلقا للبناء، وقاعدة للدعوة، وملجأ من آفات الزمان.

 

وعلى العكس من ذلك كله بيت العنكبوت؛ فقوله تعالى: (اتَّخَذَتْ بَيْتًا) [العنكبوت:41]، فيه إشارة إلى أن الأنثى هي البانية، وهي صاحبة البيت، ولها القوامة فيه، وهذا من منكوس الفطر، ولهذا فإن العنكبوت تبني بيتها على المصالح والمنافع، إذ تغازل الذكر، فإذا قضت وطرها هاجمته لتفتك به، وهكذا يفعل صغار العناكب، فإنها إذا ما اشتد عودها وقويت سمومها بادرت إلى أكل أمها، لأن الأب يكون هاربا من فتك زوجته، فهو مثال العقوق، ونكران الجميل.

 

وكل حشرة تقع على بيت العنكبوت يفتك بها، فهو بيت لا رحمة فيه ولا عطف ولا حنان، بيت خال من كل معان للمودة أو الإحسان، فلا عجب إذاً من ضرب الله -تعالى- مثلاً لمن اتخذوا من دونه أولياء بالعنكبوت، حين كفروا نعمة الله، وجحدوا فضله وإحسانه، وتعاملوا مع ما أولاهم من نعم بالعقوق والنكران.

 

ولا عجب أيضا من تمثيل الأولياء ببيت العنكبوت؛ فالعنكبوت إذا أوت إلى بيتها كما كانت تظن، لم تنتفع به أي انتفاع، وهكذا كل من اتخذ من دون الله أولياء لن ينتفعوا منهم أي انتفاع، وصدق إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- حين سأل قومه عن آلهتهم: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء:72-73].

 

وفي سورة العنكبوت قال لهم: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:17].

 

أيها المسلم: تأمل أن دعوة إبراهيم وجهاده، كان ثمرته: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت:26]. وهذا لو كان لأحد منا اليوم لكان اليأس مسيطرا على فكره وعقله، ولكن تأمل كيف كانت عاقبة المتقين: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت:27].

 

فإن كان لم يؤمن به في دعوته في زمنه إلا لوط -عليه السلام-، فقد كان ثواب ذلك أعظم بكثير من مجرد أن يؤمن رجل أو امرأة بدعوته، مع عظم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"، ومع هذا كان له أجر لم يكن لغيره من الأنبياء، فاتخذه الله خليلا.

 

فيا ليت قومي يعلمون بما للدعوة من أثر، عاجل وآجل، وإنما بعثنا ميسرين، ولم نبعث معسرين، فسددوا، وقاربوا، وبشروا، ولا تنفروا.

 

وتأمل: كيف غضب حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- على معاذ حين أطال الصلاة بقومه، وسأله متعجبا: "أفتّان أنت يا معاذ؟"، فما عساه يقول لمن فتنوا الناس اليوم بما أسموه جهادا في سبيل الله، وهو المبعوث رحمة للعالمين؟.

 

ترك القيام جماعة خشية أن يفرض علينا، وترك الأمر بالسواك عند كل صلاة خشية أن يشق علينا، فإذا رحمنا -بأبي هو وأمي- فلم يفرض علينا صلاة الليل، ولم يشق على أمته بالسواك، أفتظنون أنه يشق على أمته بالرشاش والبندقية؟.

 

والله إنه ليستحق الصلاة منا عليه والسلام، فصلوا وسلموا عليه كما صلى الله عليه وملائكته: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

 

 

المرفقات

العنكبوت

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات