عناصر الخطبة
1/ التذكير بعِظَم نعمتي الصحة والفراغ 2/ حث الشارع على اغتنام الصحة والفراغ 3/ أحوال الناس في الإجازة الصيفية 4/ مسؤولية أولياء الأمور عن الأبناء تتأكد في الإجازاتاقتباس
والفراغ أيضًا نعمة أنعم الله به على عباده، وهو خلو الوقت من الشواغل وفراغ القلب من كل ما يَتَنَغّصُ به العيش، وتتكدّر به الحياة، فإذا امتنّ الله على عبده بذلك فلم يقطع وقته وسُوَيْعات عمره مؤدّيًا شكر هذه النعمة بإنفاقها فيما يَصْلُح به شأنه، ويعلو به قدره، ويكثر به خيره، ويسعد به مجتمعه، وتقوى به أمته، بل كان ممن يصرف وقته، ويقطع زمانه...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله الذي وَسِع كل شيء رحمةً وعلمًا، واشكروه على ما أسبغ عليكم من نعمه الظاهرة والباطنة، واذكروا أنه قد وعد الشاكرَ بالمزيد، وتوعّد الكافر بالعذاب الشديد.
أيها المسلمون: إنه إذا كان تتابعُ النعم، وترادُف المِنَنِ، وتعاقُب الآلاء، فَيْضًا من الربّ الكريم لا يَغِيض، وغَيْثًا مِدْرَارًا لا ينقطع، كما قال -عز من قائل-: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم:34]. فإن من هذا الفَيْضِ نعمتين يُغْبَنُ فيهما كثير من الناس، جاء ذكرهما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
فكم ممن مَتّعه الله بسمعه وبصره وقوته، وحفظ عليه نُضْرَة الشباب ورَوْنَقَه وبهاءه، مَغْبُونٌ في صحته حين لا يستعملها فيما يبلّغه رضوان ربه الأعلى ونزول دار كرامته، وحين لا يستثمرها في كل ما يسعد به في دنياه وآخرته، وحين ينسى أن آفة النعم الزوال؟! فكم من صحيح لا يشكو من عِلّة في نفسه أو جسمه نزل به السقَامُ، ووَهَنْتُه الأمراضُ، وأقضّت مضجعَه العِللُ فسعت به إلى شيخوخة مبكّرة، وعِلّة مُسْتَحْكِمة، أو داءٍ حائل بينه وبين ما يشتهي من متع الحياة الأثيرة لديه، المُذَلّلة المبذولة بين يديه، فإن كان ممن أبلى شبابه، وأفنى عمره، واستنفد قوته فيما يحرم من الشهوات والنزوات، وما يُحَقَّر من الأعمال وما يُستقبَح من الغايات، ولم يبتغ إلى ربه الوسيلة بما يرضيه، ولم يدّخر عنده سبحانه من الرصيد ما يسعد به حين يلقاه؛ غُبِنَ هنالك غَبْنًا أورثه حسرة، وأعقبه ندامة لا نظيرَ لها؛ لتفويته الفرصة، وإضاعته المَغْنَم، وتَبْدِيده الأرباح.
والفراغ أيضًا نعمة أنعم الله به على عباده، وهو خلو الوقت من الشواغل وفراغ القلب من كل ما يَتَنَغّصُ به العيش، وتتكدّر به الحياة، فإذا امتنّ الله على عبده بذلك فلم يقطع وقته وسُوَيْعات عمره مؤدّيًا شكر هذه النعمة بإنفاقها فيما يَصْلُح به شأنه، ويعلو به قدره، ويكثر به خيره، ويسعد به مجتمعه، وتقوى به أمته، بل كان ممن يصرف وقته، ويقطع زمانه لهوًا ولعبًا وعبثًا ومجونًا وإسفافًا وتعلّقًا بالأدنى ورضًا بالخَسِيس، وركونًا إلى القبيح من القول والعمل، فأضاع الوقت الثمين والزمان الشريف سُدَى، غُبِنَ هنالك غَبْنًا فاحشًا لا مجال لرفعه والخلاصِ من آثاره.
ولذا جاء التوجيه النبوي الكريم باغتنام فُرَصِ العمر التي هيّأها الله، ومَنَّ بها على عباده، وتوجيهها الوجهة التي أرادها الله لها، وذلك في الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد صحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سَقَمِك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هَرَمِك، وغناك قبل فقرك".
ألا وإن من أجمل سُبُل اغتنام نعمة الفراغ وأعظمها نجاحًا وتوفيقًا ما اعتاد سلوكَه أولو الألباب في هذه الإجازات التي تعقب انقضاء عام من الدراسة والتحصيل العلمي في مختلف ضروبه، وما صحب ذلك من جَهْد، وما أدرك النفوس فيه من عناء الكَدّ والطّلَب، فليست الإجازة في حسبانهم ليلاً ساهرًا يُقْضَى كلّه أو جُلّه في مجلس لغو وقيلٍ وقال، وبثٍّ للشائعات، وترويجٍ للأكاذيب والمفتريات التي تُشْحن بها النفوس، وتُمْلأ بها الخواطر، وتَسُوغ بها الظنون، وتبعث على كل الشرور، وتُفْضِي إلى كل محظور، أو في جولات عابثة بالأسواق لإضاعة الأوقات وتضييق الطرقات، وإيذاء المؤمنين والمؤمنات، أو في تتبع ما تبثّه كثير من الفضائيات وأمثالها مما لا يرضي الله ولا ينفع عباده، ولا يعين على حق، ولا يحجز عن باطل، ولا يحفظ خُلُقًا، ولا يهذّب سلوكًا.
وليست الإجازات أيضًا نومًا طويلاً يستغرق أكثر ساعات النهار، وتَفُوت به الواجبات من الجُمَعِ والجماعات، وتُعَطّل به المصالح والأعمال، وتَكْسُد به سوق الجدّ والنشاط، وتَرُوج به سوق العجز والكسل؛ لكن الإجازة عندهم فرصة عظيمة للاستزادة من كل نافع تزكو وتكمل به العقول والنفوس والأبدان، وللتشمير عن ساعد الجد في استباق الخيرات، والتنافس في الباقيات الصالحات، والتمتع بالمباحات الطيبات؛ لأنهم يستشعرون عظم المسؤولية عند وقوفهم بين يدي مُسْدِي هذه النعم يوم القيامة، تلك المسؤولية التي أخبر عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد حسن عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم".
ولأنهم يستشعرون أيضًا عظم المسؤولية المنوطة بالأولياء من الآباء والأمهات والمربّين والمربّيات وأمثالهم في حفظ أوقات شبابنا وتوجيهها الوجهة التي يبلغون بها أجمل الغايات وأسمى المنازل، وتجعل منهم خير شباب لخير أمة أخرجت للناس، ولأنهم قبل ذلك وبعده يستيقنون أن طريق الشكر الذي يسلكونه موعودٌ صاحبُهُ بالمزيد، كما قال عَزّ اسمُه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن عِظَم المسؤولية عن الأبناء والبنات أمر لا يصح الغفلة عنه أو التفريط فيه في كل حين، وإنّ على من يسمع قول نبي الله -صلوات الله وسلامه عليه- في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته".
إن على من يسمع هذا البيان النبوي الكريم أن لا يُغْمِض الأجفان عن هذه المسؤولية المترتبة عليه في حق من استرعاه الله أمره من أولاده، فليست الإجازة سببًا يُسَوِّغ التفريط أو غضّ الطرف عما لا يجوز من أعمال وما لا يصح من سلوك بحجة الترفيه والتسلية وإرسال النفس على سَجِيّتها تفعل ما تشاء، وتذر ما تشاء، وإنما هي سبب يُقَوِّي جانب الرعاية، ويؤكد واجب العناية، ويتضح به شدة الحاجة إلى دوام التعهد، واستمرار الرقابة الحكيمة الواعية الناشئة عن كثرة المخالطة واتصال السؤال ومتابعة الأحوال؛ لتنوّع الأخطار وجِدّية التهديد، مع سهولة التعرّض لها ويُسْر الاصطلاء بنارها.
فاتقوا الله -عباد الله-، وليكن لكم في الموفّقين من عباد الله خير قدوة في السير على نهجهم شكرًا لله على النعم التي أنعم الله بها عليكم، ودفعًا للنقم عنكم، وقيامًا بالمسؤولية التي وُسِّدَت إليكم.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم