الفقه الأكبر

عاصم محمد الخضيري

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/ أهمية العقيدة 2/ حالنا مع العقيدة 3/ تناقضات عجيبة 4/ العقيدة أولا 5/ تفكيك الشبهات بالعلم 6/ فضائل العقدة وثمراتها 7/ لا مساومة في العقيدة 8/العقيدة التي تعلن المفاصلة الواضحة

اقتباس

إن هذا العالم اليوم هو عالم شبهاتيُ من الدرجة الأولى، ولن نصنع السياج الآمن، إلا بتلقين الأجيال أصول العقائد الصحيحة. أيتها الأجيال: إن العالم اليوم هو عالمٌ تفكيكي، إذا لم نفكك شبهاته، ستفككنا معاوله. أيتها الأجيال: كم من بنيكِ من لو ألُقيت عليه شبهة في دينه استطاع ردها؟. كم من بنيك الأمة التي لا يعرف بنوها التخلصَ من...

 

 

 

 

الحمد لله، كل حمد فإليه، نهتدي منه إليه، كل خير نرتجيه، أبد الدهر لديه.

يا أكرم المعطين جودك أجزل*** يا منزل الفرقان ذكرك أكملُ

والله لو أن السماء صحيفة ** والدوح أقلام تسِح وتهمُل

ومدادها تلك المحيطات التي *** هي من جلالك يا إلهي توجل

لتخطَّ فيك الحمد ما بلغت به *** عشر العشير فمدح ذاتك أطول

نرجوك بالاسم العظيم وإننا *** عبادُك الفقرا ببابك نسأل

وبنور وجهك يا مليكاً قادراً *** في كل آخر ليلة يتنزل

أفرغ علينا الصبر وارحم حالنا *** واغفر خطايانا وأنت مؤمل

وأزل بفضلك يا كريمُ همومنا *** أنت الذي حقاً تقول وتفعل

أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، شهادة تشفعنا بها يوم لقاك، وأشهد أن محمدا بن عبد الله عبدك ورسولك.

مشفع الخلق يوم الدين إذ عصفت *** بالناس عاصفة الأحزان والوجل

نفسي فداه سرى بالناس في وجل *** فانجاب بالنور فيهم أوضح السبل

صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الحشر: 18].

 

أما بعد:

 

يسمونها الصغرى وهي الكبرى، يسمونه القشور، وهو أصل الأمور، وضمان العبور، يسمونه الحشو الكثيف تخرصا، وما هو إلا المتن والمحكم الثبت، يسمونه الفتات، وبه الحياة وعمرنا يقتات، يسمونه الفقهُ الأصغر وهو الفقه الأكبر لو كانوا يعلمون، راج في نفوسنا كلُّ علم دنيوي، وهو أصل العلوم، وفخر الفهوم، وتبيان الدين القويم.

 

إذا أدركت أن الرسل جاءت، لدعوة قومهم بخطى رشيدة، ألا فاعلم بأنهم أقاموا بأرواح الورى روحَ العقيدة.

 

علم العقيدة نورُ كلِّ منار *** وبه تَجلى حيرةُ المحتار

وضح الطريق لسالكيه فقل لمن *** يَلوي خطاه عن الطريق حذار

 

حذار حذار من جهل بأن الله ليس له شريك، حذار حذار من جهل بهيم، به تسبى القلوب الفارغات، يعْلمون كل شيء إلا كبارَ مسائل التوحيدِ.

 

أتعجبون؟! فإن عجبي قد انقضى، به اصطلى نارُ الغضا، أسود ما في ناظري، وكان قبل أبيضا.

 

(يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].

 

يعلمون كل شيء، إلا كيف يوحدون الله، وكيف يدرءون الكفر والإشراكَ.

 

أتعجبون من رجل يعلم ظاهرا من الحياة الدنيا، إني أعجب من رجل لا يعلم شيئا من باطن الحياة الأخرى.

 

أتعجبون؟! أتعجبون من رجل إذا سُئل أجاب، وإذا قال أسهب وأطنب، خلابٌ للألباب، يعجِنُ الحروفَ عجنا، تلين له الحروف مسيراتٍ كما لانت لداود الحديد، يدع ما شاء ويأخذ ما شاء.

 

أتعجبون منه؟ إني أعجب منه، حين لا يعرفُ لأي شيء خلقه ربه، ولا لأي شيء بُعث نبيه، ولا لأي شيء أنزل الله كتبا، تحقق مُحكم التوحيد.

 

أتعجبون منه؟ أتعجبون من رجل أضفى *** عليه الله حسنا سابغا

كمل الجمال اليوسفي به كما *** تم البهاء بوجهه الوضاءِ

 

إني لأعجب منه حين اسود قلبه، يوم أن جهل معنى "لا إله إلا الله" ولوازمها،، وشروطها وموانعها.

 

أتعجبون منهم! إنهم كثير، ولكنهم غثاء يوم أن جهلوا مراد الله في قول: اعبدوني.

 

أتعجبون من طفل يولد في هذه البلدة المؤمنِ أهلها، ثم يكبر حتى يبلغَ الحلم، ثم يكبر حتى يبلغ الأشد، ثم يكبرُ حتى يستوفيه الأجل، وما عرف كيف يوالي مؤمنا، ولا كيف يعادي كافرا.

 

أتعجبون منه؟

 

إني لأعجب من طفل ترى في جلده زغبا

حتى إذا آض كالفحال شذبه *** أباره ونفي عن متنه الكربا

ثم إذا استوى على سوقه يُعجب الرائين في شبابه

 

إذا سألته عن معنى الحب في الله والبغض في الله، أومأ فاه إليك، قائلا: لا أدري، لا أدري، وحقُّ فيه أن يومأ بمطرقة تعلمه مبادئ الدراية الصحيحة.

 

لحا الله كل الذين حقهُم أن يطرقوا، وفي قفاهمُ أن يسحقوا

كلما انقضى عجبٌ منهم عاد لي عجب

 

مالكم لا تعجبون؟ وتضحكون ولا تبكون، في بلدة أبناؤها مسلمون، وآباؤها مسلمون وأجدادها، مسلمون، لا يعرف كبيرهم شروط "لا إله إلا الله"، ولا كيف الولاءُ ولا البراءُ.

 

وإن تعجب فعجب، من طفل يُقال له: ربك الله، ودينك الإسلام، ونبيك محمد بن عبد الله، وأن الكفر بالطاغوت صنوان الإيمان بالله، وأن موالاة المؤمنين، ومعاداةَ الكافرين، من أوثق عرى الإيمان، ثم تراه يَجْهَلُ لازم التوحيد، يعلمه أبوه، قول الله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22].

 

ثم يأمره أبوه أن يهتف للاعبٍ يكفر بهذه الآية ومنزِلها، يعلمه أبوه قول الله: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا)[الممتحنة: 4].

 

ثم يعلمه أبوه أن يحتضن الصليب في صورة قميص اللاعب الغريب العجيب.

 

شاه المعلم والتعليم والولد، يقرؤون صبيانهم قول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) [الممتحنة: 1].

 

ثم يوالون بحبهم كفرة افتروا على الله، وقالوا: ثالث ثلاثة!

 

لا يألفُ الكفرُ والإيمان في جسد *** حتى يُؤلفَ بين الضب والنون

 

أتعجبون؟! لا تعجبوا حين تموتُ العقائد في قلوب الأجيال، لتخرج أجيال، لا تعرف من الإيمان إلا أنه نطق باللسان، وليموت اعتقاد الجنان، وعمل الأركان!.

 

 أتعجبون! أما إني ما عجبت حين خرج علينا مخلوق يقول لآخر: إنه فعال لما يريد.

 

لم تعجبون؟! أتعجبون؟! أما إني ما عجبت حين قال رجل لرجل مثله: وأشرقت الأرض بنوره.

 

أتعجبون؟! لم تعجبون!!

 

هذا حصاد الموتِ موتِ عقائد *** قالت ولكن كذبت أفعالها

 

أتعجبون؟! أما إني ما عجبت حين خرج علينا أحد الصبية، يحلف معلمُه أنه يأبى أن يقرأ سورة من كتاب الله؛ لأنها طابقت اسم النادي المنافس لناديه.

 

أتعجبون؟! هذا حصاد الموت موت عقائد *** قالت ولكن كذبت أفعالُها

 

أيتها الأجيال: هذه العقيدة لا هوان لها، وإذا هانت فقد هان وجودنا، وأصبح الموجود كالمعدوم.

 

يا حسرة الأجيال من قوم أتوا إدَّا: (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) [مريم: 90].

 

إنا لم نأخذ الضمانة من الله بالأمن إلا بالإيمان به، خالصا من دون إشراك: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].

 

إنها العقيدة التي من استمسك بها: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) [البقرة: 256].

 

إنها العقيدة التي تحمى بها البلدان من طوفان العذاب والتباب.

 

إنها العقيدة التي هي أول مسئول عنها في القبر، وعند الحساب يوم العرض على الله.

 

في هذا العالم المضطربِ الذي ينهش اللقمة من جسد الإنسان، وتبلعُ الذئابُ فيه إخوتَها، في عالم يشبه ما قال الشاعر فيه:

 

كذئب السوء إن ما رأى دما *** بصاحبه يوما أحال على الدم

 

في هذه العوالم لن تنجوَ بلدانُنا الإسلامية إلا إذا أقيم توحيد الله بها في كل شيء، ويكون الحكم كله لله.

 

شاهدوا كلَّ بلد من حولكم، نهشته أضراس الخراب، شاهدوا كل بلد من حولكم، ساخت به الخيول في الدماء، وأمطرت به الأبابيل، حجارة من سجيل.

 

شاهدوهم، إني لا أتألى على الله، ولكنَّ سنن الله تخبرنا، أنه ما فشا الفسوق في عقائد بلد مسلم، إلا هان على الله، وإذا هان على الله، فقد انكسرت عرى الأمان.

 

قسما بمنزل ق والماعون *** ومنزِّل الأعلى وسورةِ نون

قسما بأن بلادنا ما أُمنت *** إلا بحبل من هداه متين

أجيبوني لماذا الرسل جاءت ** وفي أي الخصومات اسْتُبِدُّوا

وما لرسولنا يدعو فيَؤُذى *** ويأتيه من الأقوام طرد

 

إلا لأنه أعلن لهم: أن كسروا الأصنام، واعبدوا الواحد الديان.

 

أيتها الأجيال: كسري الأصنام في قلبك، فالعقيدة أولا، كسري ما يعبد من دون الله، كسري هوانك على الله، يوم أن تزلزت عقائد بنيك بالزور والبهتان والتضليل، كسري الأصنام إنا مؤمنون، وبغير الله إنا كافرون، كسري الأصنام لا ترجِي سوى، من ينادي الشيء كن ثم يكون.

 

كسر الأصنام: "لا تدع صنما مشرفا في قلبك إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها".

 

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر: 65].

 

أيها العالم المسلم: كسر كل صنم عبدته من دون الله، كسر كل أصنام أمم الكفر، الذي خشيتهم من دون الله، فاصبحت توالي من والاهم، وتعادي من عاداهم.

 

أيها العالم المسلم: كسر أصنام الكفر وأممها، ولا تخش غير الله، فالله أكبر.

 

كلما ضعفت الأمة، كلما كثرت أصنامها، ولن تضمن العزة إلا عند رجمِ آخر صنم تعبده، كنبيها عليه الصلاة والسلام، عندما وخز أصنام الكعبة قائلا: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].

 

كسري الأصنام، أصنام الشبهات والشهوات، والمخلوق والدينار والدرهم، كسري الأصنام قولي: قد عبدنا الله وحده، وبدا بيننا وبين غيره العداوةُ والبغضاءُ مما يعبد من دونه.

 

إن المجتمعاتِ التي لا تكسر في أبناءها أصنامَها، آيلةٌ للضياع، والضواري السباع، ولن تلوم إلا نفسها.

 

إن المجتمعاتِ التي لا تبُنى على عقيدة صحيحة نظيفة، لا غرو أن تنبت في أوجهها الطفيليات والفطريات، ويولد الإلحاد والإفساد.

 

إن المجتمعات التي لا يُبنى تعليمها على إقامة العقيدة الصحيحة، والولاء والبراء، والحب في الله والبغض في الله لن تفُلِحَ في إيجاد مجتمع يعبد الله، ولا يجد من ينغص عليه في صحفه وشوارعه، بانتهاك شريعة الله.

 

العقيدة أولا لو كانوا يعلمون، العقيدة أولا، وإلا فلن نلوم معلما، استوقفه أحد تلاميذه ليسأله عن دليل عقلي على ربوبية الله، ليُطرِقَ المعلم رأسه، ثم يرفعه على استحياء، كيف لا، وقد ولد في بلد يتنفس التوحيد، وقد عُقدت في مساجده عشرات المتون العقدية، كيف بالله لا يُطرق رأسه، وقد استوى في بلد أول مادة فيه هو تحكيم شريعة الله، جاهلا أصل الأصول، ومرمى الوصول.

 

يا أمة التوحيد والإخلاص: إذا كسرت آخر صنم تعبديه من دون الله، فتنكسر السلاسل التي ربطت خيولك أن تخوض غمار الفاتحين.

 

أيتها الأمة: اكسِرِي، ثم اعبُري.

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين،، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

يسخرون من علم العقيدة، ويرونه من حشو العلوم، حين تذكر لأحدهم، سيلوي أشداقه إليك، قائلا: إنا مسلمون، مؤمنون، فلم التشكيك في إيماننا؟ لا حاجة لنا بالذي أتيت ليست المشكلة، أن تؤمن الأجيال بالله كما تؤمن به عجائز نيسابور، إنما المشكلة أن يُهون أمر العقيدة، ثم يسقطُ الجيل من أول اختبار، إن من بني قومنا، من لو عصفت به شبهة واحدة، ما استطاع لردها سبيلا، ثم يسألونك عن علم العقيدة.

 

إن هذا العالم اليوم هو عالم شبهاتيُ من الدرجة الأولى، ولن نصنع السياج الآمن، إلا بتلقين الأجيال أصول العقائد الصحيحة.

 

أيتها الأجيال: إن العالم اليوم هو عالمٌ تفكيكي، إذا لم نفكك شبهاته، ستفككنا معاوله.

 

أيتها الأجيال: كم من بينكِ من لو ألُقيت عليه شبهة في دينه استطاع ردها؟ كم من بنيك الأمة التي لا يعرف بنوها التخلصَ من حياض الردى؟

 

بالعلم الحصين، لن تضمن البقاء كل الطوائف المذهبية التي خرجت في عهد الإسلام، كلها ماتت على يد علماءَ نفوا عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

 

في زمن الفتنة بخلق القرآن، خرج عبد العزيز الكناني، متصديا للحملة الظالمة ضد العلماء، ليطلب المناظرة أمام أكبرِ مبتدع لهذه البدعة الجديدة، خرج الكناني مناظرا بشر المريسي، ليُسقطَ بمناظرته أكبرَ طاغوت ضلال مزق الأمة حقبة بمذهب سخيف، وليحفظ التأريخ أصل تلك المناظرة في كتاب الحيدة والاعتذار، ثم يخرج أبو عبد الله أحمد بن حنبل، ليقول للعالم الزائغ: البقاء للأقوى حجة، ويقف وحده في سوق الهلاك، متصديا لدولة بأربابها مفككا عقيدة زائغة.

 

أيتها الأجيال: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد: 17].

 

العقيدة أولا، لو كانوا يعلمون.

 

أيتها الأجيال: ما كان الاستخلاف في الأرض إلا لتحقيق هذه العقيدة، عقيدة الإيمان بالله، والكفر بما دونه.

 

ما كانت عمارة الأرض إلا ليُعمَّر في قلوب الناس أصلُ معرفة الله وألوهيته وأسماءه وصفاته.

 

أيتها الأجيال:

 

إن العقيدة نعمةٌ علوية *** تصفو على النقمات والأرزاء

تجني فخارا من إهاناتِ العدى *** وتصيب إعزازا من الإزراء

بِكرٌ بأوجِ الحسنِ غالٍ مهرها *** لا تُشترى بأيسر الأشياء

تُزري النفائسَ دونها ولربما *** بذل النفوسُ حُماتها بسخاء

 

لا مساومة، ولا شراء، تنازلات لأجل العقيدة، وهي الخطوط الحمر دون شرائها، خط القتاد.

 

لا تساوم، لا تساوم، إن حاولوا بك أن تساوم في العقيدة، قل لهم: كلا.

 

لا تساوم، أتُراك حين تكونُ أقوى الأقوياء، ليساوموك بأخذ بلدتك الحبية، كنت ترضى أن تساوم؟

 

لا تساوم! ولو منحوك الذهب، أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى هي أشياء لا تشترى.

 

لا تساوم في عقيدتك وضح الطريق لسالكيه، فقل لمن يلوي خطاه عن الطريق حذار.

 

إن الأرواح تتقطع، والأرحامَ تنفصم، لأجل "لا إله إلا الله".

 

حين أنزل الله قوله: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[المجادلة: 22] قال أهل السير: إنها نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح، حين قتل أباه في معركة بدر الكبرى، وكان أبوه في صف المشركين، معلنا عدم المساومة على دينه، حتى ولو كان أبوه، ولسان حال أبي عبيدة:

 

جئتني يوم البراز لا أرى *** إلا إله الكون والله اشترى

 

لو أن آساد العرين تفزعت *** لم يلق غير ثباتنا الميدان

توحيدك الأعلى جعلنا نقشه *** نورا تضي بصبحه الأزمان

 

لا تساوم، ولو كفروا كلهم، وبقيت أنت وحدك، يسلم عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنه-، ثم يقص على أبيه قصته في يوم بدر لما كان مع المشركين، يقول لأبيه: والله يا أبت إني كنت أتحاشى النظر إليك في بدر، لا أريد أن أراك فأنالك بسوء، فيقول له أبو بكر -رضي الله عنه-: والله يا بني لو كنت رأيتك يومها، لعلوت ظهرك بالسيف.

 

باد عليك الصدق من قبل الوغى *** والحب يعرِف والسيوفُ الشُهَّد

 

أيتها الأجيال: إذا صح توحيد الله، كفر القلب بما دونه، ينتصر المسلمون في معركة بدر،، ثم يعزلون الأسرى، وكان من بين هؤلاء، أخ لمصعبِ بن عمير -رضي الله عنه-، فيذهب مُصعب لآسر أخيه، ثم يقول له: شد يديك به فإن أمَّه ذاتُ متاع، فيقول أخوه له: يا أخي أهذي وصاتك بي، فيقول له مصعب: إنه أخي دونك.

 

إذا صح إيمان بقلب موحد *** تساوى لديه الكفر من أي كافر

 

إنها العقيدة التي تعلن المفاصلة الواضحة، لكل كفر وكافر، إنها العقيدة التي تبرأ لأجلها إبراهيم -عليه السلام- من أبيه وقومه، قائلا لهم: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4].

 

إنها العقيدة التي تحدى فيها هود -عليه السلام- قومه: (إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ) [هود: 54 -55].

 

إنها العقيدة التي ما انتفع ابنُ نوح -عليه السلام- حين خسرها أن كان أبوه نبيا، ليكون من المغرقين.

 

إنها العقيدة التي قتل من أجلها يحيى، ورمي في النار بها إبراهيم، ونشر بالمنشار زكريا، وكاد أن يهلك من أجلها يوسف -عليه السلام - لولا أنه كان من المخلصين، وأما محمد بن عبد الله.

 

فإذا ذكرت العيش من تعب لها *** فاذكر بلاءات الونى بمحمد

مرت على أبوابه زمر الردى *** واقتيد للبلوى بكل مهند

 

لأجل لا إله إلا الله، وهو يصيح بهم، إني نذير لكم: (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) [سبأ: 46].

 

إنها العقيدة التي لو نوزع أحد أسلافنا عليها، لطارت حماليق عينيه.

 

جئنا إليك ونحن نسلم حالنا *** ونقول جل الواحد القهار

وللكفور شهاب صيغ من حجر

 

كل العداوات قد ترجى مودتها *** إلا عداوة من عاداك في الدين

 

إنها العقيدة التي تضمن الرخاء وسابغ النعماء: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ) [الأعراف: 96].

 

إنها العقيدة التي من ضمن لله بها، فقد ضمن له التمكين: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء: 105].

 

 العقيدة العقيدة أيتها الأجيال: أي عظمة بها يوم يقول الله عنها: "يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا،، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".

 

أي سخاء هذا السخاء.

 

العقيدة العقيدة، حاموا دونها، وجاهدوا لإعلائها، وردوا شبهاتها.

 

العقيدة العقيدة، فإنما امتحنت بها دول، وكسرت عروش، وهلكت شعوب.

 

العقيدة العقيدة، إنها ليست كلمة تقال، بل كلمة تقال، وضميرا يخفق، وأفعالا تصدق وتكذب، لما عرض أحد المؤمنين الصادقين على الإعدام، قالت له حاشية الظالم المجرم: قل لا إله إلا الله، فقال لهم: أيها المساكين، أنا أموت من أجل "لا إله إلا الله"، وأنتم تأكلون الخبز بـ"لا إله إلا الله".

 

العقيدة العقيدة، ليست كلماتٍ مرصوفات، ولا خطبا مدبجات، يأبى الله إلا أن يريَنا بأم أعيننا كيف تتحقق هذه العقيدةُ صافية بيضاء، يموت أحدهم: وهو يردد: ما لنا غيرك يا الله، تموت كل الكلمات في فمه، فلا ينطق غير التوحيد.

 

بحديث كأنه السحر زاهٍ **** آخذٌ بمجامع الألباب

 

هنا العقيدة لا كذب، إذ بالدماء تلتهب، والنصر آت مقترب.

 

يا أمة الفقه الأكبر:

 

إنا نتوق إلى انتصار عقيدة *** فيها لأنهار النجاة منابع

قالوا تروم المستحيل فقلت بل *** وعد من الرحمن حق واقع

والله لو رجف العدو بيوتنا *** ورمت بنا خلف المحيط زوابع

لظللت أؤمن أن أمتنا لها *** يوم من الأمجاد أبيض ناصع

 قولوا: "لا إله إلا الله" تفلحوا، وتُنصروا.

 

وعلموا الأجيال فقه عقيدة *** إن الحياة عقيدة وثوابت

 

العقيدة أولا، إن كنتم تعلمون.

 

اللهم صل وسلم...

 

 

 

 

المرفقات

الأكبر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات