عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بالأمم السابقة 2/ من أخبار هلاك الأمم السابقة الأعتى والأقوى 3/ بيان لألوان الهلاك 4/ بعض أسباب هلاك الأمماقتباس
من واجب الإنسان أن يكون دائم الاعتبار بالأمم الخالية، والأجيال الغابرة، يتفكَّر في أحوالهم، ويتَّعظ بما حلَّ بهم من العقاب والنكال. وليذهب في بقاع الأرض وأصقاعها لينظر حالهم، ويتَّعظ بآثارهم وبقاياهم، وقد كان فيهم من هم أظلم وأطغى وأعتى من هذه الأمَّة، كما...
من واجب الإنسان أن يكون دائم الاعتبار بالأمم الخالية، والأجيال الغابرة، يتفكَّر في أحوالهم، ويتَّعظ بما حلَّ بهم من العقاب والنكال.
وليذهب في بقاع الأرض وأصقاعها لينظر حالهم، ويتَّعظ بآثارهم وبقاياهم، وقد كان فيهم من هم أظلم وأطغى وأعتى من هذه الأمَّة، كما يقول -تعالى-: (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) [النجم:50-53].
فهو -سبحانه- أهلك عاداً الأولى، قومَ هودٍ، بريح صرصر، وأهلك ثمود قومَ صالح بالصَّيْحة، فما أبقى منهم أحداً، وأهلك قوم نوح بالغرق من قبل إهلاكه عاداً وثمودَ؛ إنَّهم كانوا هم أعظم كفراً وأشد تمرُّداً من عاد وثمود، لطول دعوة نوح إيَّاهم، وعتوِّهم على الله بالمعصية والتكذيب، وقرى قوم لوط رفعها جبريل إلى السماء بأهلها المجرمين، ثم أهوى بها إلى الأرض، فنزل عليها من فوقها شيء عظيم مهولٌ سترها كلَّها، فدمّرها تدميراً شاملاً بالحجارة المنضودة المُسوَّمة.
وقد أهلك الله -عز وجل- أمماً وأقواماً وقروناً وأجيالاً كانوا أشدَّ منا قوة، وأطول أعماراً، وأكثر أموالاً، فأستأصلهم وأبادهم فلم يبقَ لهم ذكرٌ ولا أثر؛ وتركوا وراءهم قُصوراً مُشيَّدة، وآباراً مُعطَّلة، وأراضي خالية، ونعمة كانوا فيها فاكهين؛ وأورث الله كلَّ ذلك قوماً آخرين، فما بكت عليهم السماء الأرض وما كانوا مُنظَرين.
قال الله -تعالى-: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ) [الأنعام:6].
أي: ألم يَرَ هؤلاء المُكذِّبون بآياتي أنا أهلكنا قَبْلهم أعداداً كثيرةً من الأمم الماضية المُقْتَرنة في زمنٍ واحد، أعطيْناهم في أرضهم من القوَّة والبسْطة في الأجسام والأموال ما لم نُعطكم يا أهلَ مكة، وأرسَلنا المطر عليهم غزيراً مُتَتَابعاً كثيراً في أوقات الحاجة؛ رحمةً منا وإنعاماً، وأجرَيْنا لهم المياه العَذْبة في الأنهار بعد إنزالها من السماء، تجري في مجاريها تحت مستوى سطح الأرض، فعاشوا في خصْب وسَعَة، ومع ذلك التمكين وهذه القوة أهلكناهم بسبب ذنوبهم وكفرهم، وأنشأنا بسُنَّة التكامل المُتدرِّج من بعد هلاكهم قوماً آخرين بدلاً منهم؛ أفلا يعتبر أهل مكة بذلك فلا يستمرُّون في كفرهم وعنادهم؟!.
وقال -سبحانه-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) [الطَّلاق:8]. أي: وكثيرٌ من أهل مُجمَّعات سكنية عَصَوْا وطَغَوْا عن أمر ربِّهم، وأمر رسله، فحاسبناهم حساباً شديداً بالتدقيق والاستقصاء لكلِّ ذنوبهم، فلم نغادر منها شيئاً، وعذَّبناهم عذاباً مُنكراً فظيعاً.
وقال -تعالى-: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج:45]. أي: إن عددا كثيرا من المجمَّعات السكنية، أهلكها الله -تعالى- بعذاب شامل، استأصلهم جميعا، وأهلُ هذه المجمَّعات السكنية ظالمون بكفرهم ومقاومتهم لدعوة الحق الربانية، فهي فارغة لا ساكن فيها، ساقطة جدرانها على سقوفها، وكم من بئر متروكة لا يستقي منها الواردون لهلاك أهلها! وكم من قصر رفيع طويل عالٍ أخليناه من ساكنيه بإهلاكهم!.
وعذاب الله -تعالى- وعقابه للأمم مُتنوِّع مختلف، فقد يكون صاعقة، أو غرقاً، أو فيضاناً، أو ريحاً، أو خَسْفاً، أو قحطاً ومجاعة، أو فتناً بين الناس واختلافاً، أو مطراً بالحجارة، أو رجفة.
يقول الله -سبحانه- في الصاعقة: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) [الذاريات:44]. أي: فأخذت أخذا شديدا أليما قبيلةَ ثمود قوم الرسول صالح صاعقةُ العذاب المُهْلكة لهم، وهم يَرَوْن ذلك العذاب عياناً.
ويقول -تعالى- في الغرق في البحر: (فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليَمِّ) [الأعراف:136]، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنبياء:77].
ويقول في الفيضان والطوفان: (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ) [العنكبوت:14]. أخذ قوم نوح الماء الكثير الذي طاف بهم وعلاهم، أَخْذَ إهلاكٍ مُسْتأصلٍ، وكان إهلاكهم غرقاً في حال أنهم ظالمون كَفَرة مجرمون.
ويقول -عز وجل- في الصيحة الشديدة والريح العاتية: (وَأَمَّا ثمود فأهلكوا بالطاغية * وأما عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقَّة:6]. أهلك الله -تعالى- ثمودَ قومَ صالح بالصَّيحة الشديدة المجاوزة الحد في القوة، وأمَّا عاد فأُهلكوا بريح باردةٍ شديدة الصوت، قاتلة مدمِّرة، متجاوزةٍ الحدَّ في شدَّتها، فلم يقدروا عليها مع شدَّتهم وقوَّتهم، أرسلها وسلَّطها عليهم بقضائه وقدره سبعَ ليال وثمانية أيام ذات برد وريح شديد، متتابعة متوالية في الشرِّ والتعذيب، ليس لها فتور ولا انقطاع، لحسم مادتهم واستئصالهم، فترى القوم في تلك الليالي والأيام هَلكى مقتولين مرميّين تبدو أسافلهم قد بليتْ حتى غدت أجوافها خالية، كأنهم أصول نخل خالية الأجواف، بالية لا شيء فيها، فهل ترى لهؤلاء القوم أيُّها الباحث عنهم في أرضهم من نفسٍ باقيةٍ دون هلاك؟.
ويقول -سبحانه- في عذاب الخسف: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) [القصص:81]. فَأَتْبعنا استعراضَ قارون الكيديَّ التَّضليليَّ، بما يمحو آثارَهُ من نفوس الجمهور الأعظم من الإسرائيليين محواً كُليّاً، فَخَسفنا بقارون وبداره الأرض، فابتلعته هو وداره بما فيها من أموال وزينة، لقد غيَّبته الأرض، وغيَّبت داره وكنوزه في باطنها.
ويقول -سبحانه- في القحط والمجاعات والابتلاء بالحسنات والسيئات: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف:168]. اخْتبر الله بني إسرائيل جميعاً بالخِصب والعافية، والجدب والشدَّة؛ رغبةً في أن يرجعوا إلى طاعة ربِّهم ويتوبوا إليه.
ويقول -سبحانه- في أنواع من العذاب منها الاختلاف والتشيع الذي يؤدي إلى اختلاط الحقائق والنزاعات والحروب المدمرة: (قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام:65].
أي: قل يا رسول الله لقومك: إنَّ الله هو القادر على أن يَبْعثَ عليكم وسائل تعذيب لكم، تُصبُّ عليكم من فوقكم كالرَّجْم والطُّوفان، أو من تحت أرجلكم كالخَسْفِ والرَّجفة، أو يَخلِطكم فيجعلكُم فِرَقاً مختلفين، وبذلك يذوق بعضكم بأس بعض، بالتسلُّط بالحروب المُدمِّرة للأفراد والأُسر والجماعات. انظُر -أيها الناظر المتفكر- كيف نُنوِّع دلائلَنا وحُجَجنا لهؤلاء المُكذِّبين، ونكرِّرها بأساليب مختلفة؛ رغبةً منا أن يفهموا حقائق الأمور، فيرجعوا عمَّا هم عليه من الكفر والتكذيب.
ويقول -تعالى- في مسخ الصُّوَر: (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف:166]. فلمَّا تجاوز بنو إسرائيل حدودَ المعاصي مُستنكفينَ عن طاعة الله بترك ما نُهُوا عنه من العدوان على حُرمة يوم السبت، قلنا لهم: كونوا قِرَدةً أذلاّء مَطْرودين مُبْعَدينَ عن كلِّ خير؛ فَمَسَخ الله صُوَر أجسادهم، فجعلها على صور أجساد القرود.
ويقول -تعالى- في المطر بالحجارة: (فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر:74]، وقال -سبحانه-: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود:82-83].
فلمَّا جاء وقت تنفيذ أمْرِنا بتعذيب قوم لوط وإهلاكهم، رفعنا أرضهم التي عليها قُراهُم في الجوِّ، وقلبناها حتى صار أعلاها أسْفَلَها، وصار أسفلُها أعلاها، وأمْطَرنا على شُذَّاذها بعد قَلْب قُراهم حجارةً من طين مُتَصلِّب منضمٍّ بعضه إلى بعض باتِّساق وتراصُف مُنْتَظِم، حالة كونها مُعَلَّمةً عند ربِّك بعلامةٍ معروفة، تخصُّ مُجرمي قومِ لوطٍ. وما تلك الحجارة التي أمطرها الله على قوم لوط من كلِّ الظالمين الذين يستحقُّون الإهلاك بها بمكانٍ بعيد عنهم.
ويقول -تعالى- في الرجفة، وهي التحرك والاضطراب: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [الأعراف:78]. أهلكت قومَ ثمود الصَّيْحة المصحوبة بالزلزلة الشَّديدة من تحتهم، فأصبحوا في موضعهم موتى لا يتحرَّكون، لاصقين بالأرض على رُكبهم ووجوههم، لم يفلت منهم أحد.
إن لهلاك الأمم أسباباً كثيرةً جَرت سُنَّة الله -تعالى- في عباده عند وجودها أن يهلكهم بسببها، وأهم هذه الأسباب: الكفر بالله -عز وجل-، وجحود وحدانيته، وتكذيب دعوة الرسل عليهم السلام، والظلم، والطغيان، والإجرام، وشيوع الفواحش.
وهناك أسباب أخرى بيَّنها لنا النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن أسباب الهلاك التي بينها لنا رسول الله الرؤوف الرحيم بأمته: الاختلاف في كتاب الله، والتنازع في مُشكله، وما استأثر الله بعلمه.
روى مسلم في الصحيح عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جئت مبكراً إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم باختلافهم في هذا الكتاب".
والاختلافُ المنهيُّ عنه الاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شك أو شبهة أو فتنة وخصومة.
روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يختصمون في القدر؛ فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: "بهذا أمرتم؟ -أو- لهذا اختلفتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟! بهذا هلكت الأمم قبلكم".
والقدر: ما كتبه الله -تعالى- وسبق به علمه، من خير وشر... وفي الحديث دليل على أن الاختلاف والتنازع في الدين يؤدي إلى الهلاك؛ لأنه يؤدي إلى التشكك في العقيدة، وأن ذلك من أسباب هلاك الأقدمين.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تختلفوا! فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا".
ومن أسباب الهلاك: كثرة السؤال للأنبياء، أو ورثتهم، مع الاختلاف عليهم وعدم اتباعهم.
روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".
إنَّ الاختلاف على الأنبياء من أسباب الفتنة والهلاك: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]. فكيف إذا انضمَّ إلى مخالفتهم كثرة الأسئلة والمراجعة والمنازعة؟ إنَّ ذلك من أسباب هلاك الأمم السابقة: "فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم".
وهذه العلة كما هي في حق الأنبياء، كذلك تكون بالنسبة للعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإحراجهم بكثرة الأسئلة ومخالفتهم فيما يأمرون به وينهون عنه من أسباب الهلاك.
ومن أسباب الهلاك: الغلو في الدين والتنطع والتشدُّد؛ روى أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة العقبة وهو على راحلته: "هات التقط لي"، فالتقطت له حصيات هي حصى الخذف، فلما وصفتهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء. وإيَّاكم والغلوَّ في الدين! فإنما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين".
الغلو: هو مجاوزة الحد، وهو مذموم في كل الأمور.
روى أحمد ومسلم وأبو داود عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون"، ثلاثاً. والتنطع هو التعمُّق في الشيء، كالتغالي في العبادات، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثير الاهتمام بجانب التيسير على الأمة، ورفع الحرج، وفي هذا المعنى قال -صلى الله عليه وسلم-: "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإنَّ الله لا يملُّ حتى تملوا" رواه البخاري.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين يُسْرٌ، ولن يشادّه أحد إلا غلبه" رواه البخاري.
ومن الغلو: عبادة غير الله -تعالى-، واعتقاد شريك معه في ربوبيته وإلهيته، أو تعظيم وتقديس مخلوق فوق قدره... وهذا المعنى هو الذي نهى الله -تعالى- عنه بني إسرائيل حيث قال: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ) [النساء:171]. ينادي الله -سبحانه- أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى: لا تُجاوزوا الحدَّ في أمر عيسى -عليه السلام-، فلا تحطُّوه عن منزلته، ولا ترفعوه فوق قَدْره، ولا تقولوا... إلّا القولَ الحقَّ الثابت القائم على الدليل المُقْنع، لا على الوهم البعيد.
وفي الآية تحذيرٌ من الغلوِّ في الدين، وهو تَجَاوز الحدود الشرعيَّة؛ لأن الغُلوَّ يُوقع صاحبه في مخالفة الشَّرع، وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وقد يوقع الغلو صاحبه في الكفر كما حصل لليهود والنصارى في عيسى -عليه السلام-، فاليهود تجاوزوا الحدود الشرعيّة في عيسى وأمه، فأنزلوهما دون منزلتهما التي أنزلهما الله فيها، فكذَّبوا عيسى، واتَّهموا أمه بالفاحشة، والنصارى تجاوزوا الحدود الشرعيَّة غُلوّاً منهم بعيسى، فجعلوه وأمَّه إلهَيْن مع الله -عز وجل-.
وقال -تعالى-: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) [المائدة:77].
وقال -سبحانه- عن أهل الكتاب وسبب وقوعهم في التحريف: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].
والمعنى: اتَّخَذَ اليهودُ والنَّصارى علماءهم وعُبَّادهم آلهةً من دون الله، حيث أطاعوهم في تحليل ما حرَّم الله، وتحريم ما أحلَّ الله، كما يُطاع الأرباب في أوامرهم ونواهيهم، واتَّخذوا المسيح ابنَ مريم إلهاً، ومنحوه من الربوبيَّة أكثر ممَّا منحوه لعلمائهم وَعُبَّادهم، وذلك لِمَا اعتقدوا فيه من البُنوَّة والحُلول، والحال أنهم ما أُمروا بأيِّ أمر في الكتب المنزَّلة على أنبيائهم إلا ليعبدوا فيما أُمروا به إلهاً واحداً؛ لأنَّه -سبحانه وتعالى- المُسْتَحقُّ للعبادة لا غيره، لا معبودَ بحقٍّ إلا هو، تعالى وتنزَّه عن أن يكون له شريك في التشريع والأحكام، وأن يكون له شريك في الإلهيَّة يستحقُّ التعظيم والإجلال.
ومن أسباب الهلاك: الأشر والبطر وجحود النعم؛ فالأشر والبطر مظهر لجحود النعمة، وبادرة لسوء المصير، ولقد كان فيما قصَّ الله -تعالى- في كتابه عن قارون وقد آتاه من كنوز المال ما قابله بالأشر والبطر، وكان له سوء المصير: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ...) [القصص:76].
إنَّ قارون كان من بني إسرائيل قومِ موسى -عليه السلام- فظلم قومه الإسرائيليين، وتَجَاوَزَ حدَّه عليهم في الظلم والكبْر والتجبُّر والفساد في الأرض؛ إذ جعل نفسه خادماً لمصالح فرعون وآله، في إذلال بني إسرائيل واستعبادهم، وأعطيناهُ من كنوز الأموال شيئاً عظيماً، اكتنزها في مبانٍ حصينة، ذات أبواب تُقْفل بإحكامٍ، فلا تفتح إلا بمفاتيح خاصَّة بها، حتى إنَّ مفاتيح خزائنه ليثقل حملُها على الجماعة الأقوياء من الرجال، فإذا حملوها مالت ظهورهم من ثقلها عجزاً عن النهوض بها قائمين.
وحين اغترَّ بنعمة الله عليه وكفر بها، نصحه عقلاء قومه مُوجِّهين له أربع نصائح:
... لا تَبْطَر بكثرة مالك، وتستكبر وتتعالى به على الناس، ولا يفتنك الفرح به عن شكر الله؛ إنَّ الله لا يُحب البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم، فكن على حذر من نقمة الله عليك وعقابه، فَمَنْ جعل نفسه بإرادته في زمرة من لا يحبُّهم الله، فقد جعلها عُرضةً لنقمته وعذابه الشديد.
وهذا التوجيه للناس جميعا إلى الأبد، لا يخصُّ قارون وحده، فكم في أعقاب الزمن من أمثال قارون، من تبطره النعمة، ويستعملها في المعصية والإفساد في الأرض، والتعالي على الخلق، فيكون خطراً على نفسه، وعرضة لأن يناله من غضب الله!.
وإنها لعبرة الدهر، في قرآن يتلى، تذكر بسوء المصير لكل من طغى وبغى، وجحد نعمة المولى -جل وعلا-.
ولقد كان في قوم قارون من انخدع بالمظاهر التي كان فيها قارون، كما ينخدع الظامئ بالسراب، فتمنوا أن لو كان لهم مثل نعيمه، كما قال -تعالى-: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا) [القصص:82].
ودخل في صباح ليلة الخَسْف بقارون، المفتونون من جمهور بني إسرائيل الذين تمنَّوْا باليوم الذي كان قبل ليلة الخسف، ما رَزَقه الله من الأموال والزينة، يقول بعضهم لبعض متوجِّعين ومُتحسِّرين: اسمع أيها المخاطب تعجُّبي من نفسي، كيف كنتُ جاهلاً عن حقيقة أنَّ الله يُوسِّع الرزقَ لِمَنْ يشاء من عباده، ويُضيِّق الرزق على مَنْ يشاء من عباده، لحكمٍ يعلَمُها، وليس بسط الرزق تكريماً، ولا تضييقه إهانة، وإنما هو امتحان وابتلاء، لولا أنْ أنعم الله علينا النعمة العظمى بالإيمان، وأبْعَدنا عن بَسْط الرزق المُطْغي والمُوصل إلى ما وَصَل إليه قارون، لَخَسَف بنا الأرض كما فعل بقارون لأنا وددنا أن نكون مثله.
(وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الكَافِرُونَ) أي: اسمع أيُّها المخاطَب تعجُّبي من نفسي، كيف كنتُ جاهلاً عن حقيقة أنَّ الشأن العظيم من مقادير الله في كونه، وسُننه في عباده، عدمُ ظفر الكافرين الذين يَجْحَدون نِعَمَ الله عليهم ولا يؤمنون بما أوْجَبَ عليهم أن يؤمنوا به.
وكم في دنيا الناس من ينظر إلى ما في يد الغير من نعمة، ويحسد عليها، وعلم أن الخير بالنسبة له هو ما قدره الله وجعله فيه! ولذلك قال -تعالى-: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].
والمعنى: ولا تَنظُرنَّ أيُّها المؤمن نَظَرَ اسْتِحْسَانٍ وإعجابٍ وتَمَنٍّ إلى ما أعطينا من متاع الحياة الدنيا، أصنافاً وجماعات من الناس، حالة كون ما متَّعناهم به زهرة الحياة الدنيا، ذات المنظر الجميل، والرائحة الزكيَّة، إلا أنها قصيرة العمر، سريعة الذبول والفناء كزهر الأشجار؛ لِنَبْتَلَيَهُم ونختبر إراداتهم، وليس تشريفاً وتكريماً لهم، ورزقُ ربِّك في الحياة الدنيا المقْرون بالطمأنينة والرِّضا، والذي سَيُفيضُه عليك في جنات النعيم خيرٌ من كلِّ ما في هذه الحياة من متاع وزينة؛ وأبقى أنواعاً وأصنافاً وأفراداً؛ لأن دار النعيم هي دار البقاء، أما الحياة الدنيا فهي دار الفناء والأكدار.
وقد رسم -سبحانه- لعباده في نهاية قصة قارون الخطة المثلى للحياة: (تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [القصص:83]. أي:تلك الجنَّة البعيدة المكان والمكانة، والمرتفعة المنزلة، نجْعَلُ نعيمَها مستقبلاً للَّذين لا يريدون اسْتكباراً عن الإيمان، واستطالةً على الناس، لتحقيق حظوظ أنفسهم من الدنيا؛ ولا الذين يدعون إلى عبادة غير الله، وينشرون الفاحشة، ويطرحون الشبهات، ويفسدون الأخلاق والقيم والآداب. (وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) والعاقبةُ الحسنة المحمودة في جنَّات النعيم لِمَنْ اتَّقى عقابَ الله بأداءِ أوامره، واجْتناب نواهيه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم