الصِّدِّيقُ وَالزِّنْدِيقُ

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ الصديقية أعظم المنازل بعد النبوة 2/ الصديقية مشاعة بين الرجال والنساء 3/ نماذج ممن حاز الصديقية 4/ لماذا حاز أبو بكر منزلة الصديقية؟! 5/ لا أضل ممن نشأ في الإسلام ثم أعلن زندقته 6/ بقاء علوم الآخرة وزوال علوم الدنيا

اقتباس

وَإِذَا كَانَتِ النُّبُوَّةُ خَاصَّةً بِالرِّجَالِ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ تَعَالَى امْرَأَةً نَبِيَّةً؛ فَإِنَّ مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ مُشَاعَةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لأَنَّ الصِّدِّيقَ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ كَامِلاً فِي تَصْدِيقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عِلْمًا وَعَمَلاً، قَوْلًا وَفِعْلاً؛ فَهُوَ المُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ وَفِي التَّصْدِيقِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ، وَالصِّدِّيقُونَ هُمْ فُضَلاَءُ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إِلَى التَّصْدِيقِ، فَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الدِّينِ لاَ يَتَخَالَجُهُ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحَمْدُ للهِ الكَبِيرِ المُتَعَالِ؛ شَدِيدِ البَطْشِ وَالمِحَالِ، جَزِيلِ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ، عَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا، وَغَمَرَ عِبَادَهُ لُطْفًا وَحِلْمًا؛ فَعَفَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَأَخَّرَ عِقَابَهُمْ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ وَالأَوْبَةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ اخْتُصَّ بِالوَحْيِ الرَّبَّانِيِّ، وَحَظِيَ بِالقُرْبِ الإِلَهِيِّ، وَجَمَعَ خِلاَلَ الكَمَالِ البَشَرِيِّ، فَشَكَرَ نِعَمَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالتَّوَاضُعِ، وَكَرِهَ الإِطْرَاءَ وَالمَدَائِحَ، وَقَالَ: "لاَ تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَأَخْلِصُوا لَهُ أَعْمَالَكُمْ، وَأَسْلِمُوا لَهُ وُجُوهَكُمْ، وَعَلِّقُوا بِهِ قُلُوبَكُمْ، وَجَرِّدُوا لَهُ عُبُودِيَّتَكُمْ، وَذَرُوا أَهْلَ الأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ وَمَا يُعَظِّمُونَ؛ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ لاَ يَنْفَعُونَ وَلاَ يَضُرُّونَ؛ وَمَنْ يَمُوتُونَ وَيُبْعَثُونَ وَيُحَاسَبُونَ: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) [الفرقان:58].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: أَعْظَمُ المَنَازِلِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ مَنْزِلَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، وَهِيَ أَعْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَجْتَهِدُونَ فِي سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى الشَّهَادَةَ، وَيَقْصُرُونَ بِجَهْلِهِمْ عَنْ سُؤَالِهِ مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ، أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لاَ يَبْلُغُونَهَا أَوْ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ لأُنَاسٍ دُونَهُمْ، وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ فِي النَّاسِ صِدِّيقِينَ، وَجَعَلَ مَنْزِلَتَهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّينَ: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].

 

وَإِذَا كَانَتِ النُّبُوَّةُ خَاصَّةً بِالرِّجَالِ، وَلَمْ يَبْعَثِ اللهُ تَعَالَى امْرَأَةً نَبِيَّةً؛ فَإِنَّ مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ مُشَاعَةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ لأَنَّ الصِّدِّيقَ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ كَامِلاً فِي تَصْدِيقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عِلْمًا وَعَمَلاً، قَوْلًا وَفِعْلاً؛ فَهُوَ المُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ وَفِي التَّصْدِيقِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ، وَالصِّدِّيقُونَ هُمْ فُضَلاَءُ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ النَّاسَ إِلَى التَّصْدِيقِ، فَكُلُّ مَنْ صَدَّقَ بِكُلِّ الدِّينِ لاَ يَتَخَالَجُهُ شَكٌّ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ صِدِّيقُ: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد:19]، وَكُلَّمَا كَانَ الصِّدِّيقُ أَسْبَقَ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيِّ حَازَ مَرْتَبَةً أَعْلَى فِي مَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ، كَمَا قَدْ فَازَ بِهَا أَتْبَاعُ عِيسَى مِنَ الحَوَارِيِّينَ، وَفَازَ بِهَا السَّابِقُونَ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ.

 

وَمِمَّنْ حَازَ مَنْزِلَتَهَا الصِّدِّيقَةُ مَرْيَمُ -عَلَيْهَا السَّلاَمُ- حَتَّى وُصِفَتْ بِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) [المائدة:75]، وَفِي عَمَلِهَا الَّذِي أَوْصَلَهَا مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ) [التَّحريم:12].

 

وَأَشْهَرُ مَنِ اعْتَلَى مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ حَتَّى بَلَغَ ذِرْوَتَهَا الصِّدِّيقُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ) [الزُّمر:33]، فَالنَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- جَاءَ بِالصِّدْقِ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِهِ مِنَ الرِّجَالِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصْفَ الصِّدِّيقِيَّةِ؛ لأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا، بَلْ يَسْتَحِقُّ أَعْلَى مَرْتَبَةٍ فِيهَا؛ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَعِدَ أُحُدًا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ، فَقَالَ: "اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

 

إِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ قَبْلَ البَعْثَةِ صَدِيقًا لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، فَلَمَّا بُعِثَ آمَنَ بِهِ عَلَى الفَوْرِ، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَدَّقَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- مُجَارَاةً لِصَدِيقٍ أَخْبَرَهُ أَنَّه نَبِيٌّ، أَوْ حَمِيَّةً لَهُ؛ لأَنَّهُ صَدِيقُهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الظُّنُونِ الخَطَأِ.

 

إِنَّ تَصْدِيقَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَكُنْ إِلاَّ عَنْ إِيمَانٍ عَمِيقٍ، وَيَقِينٍ رَاسِخٍ بِصِدْقِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، فَإِيمَانُهُ إِيمَانُ عَالِمٍ بِمَا آمَنَ بِهِ، وَهُوَ الخَبِيرُ فِي الرِّجَالِ، المُتَفَرِّسُ فِيهِمْ؛ ذَلِكُمْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يُعَدُّ مِنْ مُتَعَلِّمَةِ قُرَيْشٍ فَهُوَ خَبِيرٌ بِالتَّارِيخِ، عَلِيمٌ بِالأَنْسَابِ، بَلْ هُوَ أَعْلَمُهُمْ بِهَا، وَالعِلْمُ بِالتَّارِيخِ وَالأَنْسَابِ يَكْشِفُ أَحْوَالَ الرِّجَالِ، وَالعَالِمُ بِالأَنْسَابِ لَهُ خِبْرَةٌ فِيهِمْ، وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ مِنْ تُجَّارِ قُرَيْشٍ، وَالتِّجَارَةُ تُعَلِّمُ صَاحِبَهَا التَّعَامُلَ مَعَ الرِّجَالِ، فَيَعْرِفُ الأَمِينَ مِنَ الخَائِنِ، وَالصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ لِعِلْمِهِ وِتِجَارَتِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، فَلَيْسَ مُنْطَوِيًا عَلَى نَفْسِهِ لاَ يَعْرِفُ الرِّجَالَ، وَلاَ غِرًّا يُصِدَّقُ الكَذَّابِينَ.

 

وَسِمَع أَبُو بَكْرٍ حِوَارًا عَنْ نَبِيٍّ يَخْرُجُ بَيْنَ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ أُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَوَثَّقَ مَا سَمِعَ مِنْ وَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ، فَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، وَآنَ أَوَانُهُ، وَأَنَّهُ مِنْ قَوْمِهِ لاَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلِمَ مَا يَقُولُ وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ فَكَانَ مُسْتَعِدًّا لِلتَّصْدِيقِ.

 

إِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ فِي الجَاهِلِيَّةِ قَوِيَّ الشَّخْصِيَّةِ، يُؤَثِّرُ وَلاَ يَتَأَثَّرُ؛ وَلِذَا لَمْ يَتَّبِعْ قَوْمَهُ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ، كَانَ يَمْلِكُ فِطْرَةً سَوِيَّةً لَمْ تَتَلَوَّثْ بِأَوْضَارِ الشِّرْكِ، وَلاَ بِرِجْسِ السُّكْرِ، فَلَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ، وَقَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الخَمْرَ، فَبَقِيَ لَهُ عَقْلُهُ سَلِيمًا مُعَافًى كَامِلاً، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ صَاحِبُهُ أَنَّهُ نَبِيٌّ اشْتَغَلَ ذَلِكَ العَقْلُ السَّلِيمُ المُعَافَى مَعَ الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ فَأَنْتَجَا تَصْدِيقًا سَرِيعًا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ هُوَ الأَوَّلَ حَتَّى سُمِّيَ صِدِّيقًا. نَقَلَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيرَتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الإِسْلامِ إِلاَّ كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَكَمَ عَنْهُ -أَيْ: مَا تَلَبَّثَ- حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَلا تَرَدَّدَ فِيهِ".

 

وَنَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَدْعُوكَ إِلَى اللهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْطَلَقَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ أَحَدٌ أَكْثَرُ سُرُورًا مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ".

 

كَانَ أَبُو بَكْرٍ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ العَرَبِ، جَمَعَهُ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - تَوَاطُؤٌ عَلَى الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ، وَالخِلاَلِ الحَسَنَةِ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: "فَلَمَّا ابْتُلِيَ المُسْلِمُونَ، خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

 

وَهَذِهِ الأَوْصَافُ الَّتِي وَصَفَ بِهَا ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- هِيَ عَيْنُ الأَوْصَافِ الَّتِي وَصَفَتْ بِهَا خَدِيجَةُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ أَوْصَافُ الأَسْيَادِ الكِبَارِ فِي أَخْلاَقِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ لِلنَّاسِ. يَقُولُ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "فَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلُ النَّبِيِّينَ، وَصِدِّيقُهُ أَفْضَلُ الصِّدِّيقِينَ". اهـ.

 

وَهَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى صِدِّيقِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَإِنَّه لَمَّا أُوذِيَ وَالمُؤْمِنُونَ قَلِيلٌ مَا تَرَكَ تَصْدِيقَهُ، بَلْ عَزَمَ عَلَى الهِجْرَةِ.

 

إِنَّهُ تَصْدِيقٌ لاَ يُزَعْزِعُهُ الأَذَى، وَإِيمَانٌ لاَ يَمِيدُ بِهِ الهَوَى، وَمَا كَانَ إِلاَّ عَنْ عِلْمٍ وَدِرَايَةٍ وَهُدًى، وَدَلِيلُهُ تَصْدِيقُهُ بِحَادِثَةِ الإِسْرَاءِ حِينَ ارْتَدَّ بِهَا مُؤْمِنُونَ، وَفَرِحَ بِخَبَرِهَا المُشْرِكُونَ، يَظُنُّونَ أَنَّها شَيْءٌ تُحِيلُهُ العُقُولُ، فَلاَ يَبْقَى لِمُحَمَّدٍ تَابِعٌ، وَلاَ مِمَّنْ مَعَهُ مُصَدِّقٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلَ المُصَدِّقِينَ، فَعَلِمَ المُشْرِكُونَ أَنَّهُ لاَ حِيلَةَ فِيهِ، وَعَلِمَ المُؤْمِنُونَ أَنْ لاَ أَحَدَ أَحَقُّ بِالصِّدِّيقِيَّةِ مِنَ الصِّدِّيقِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

 

وَلاَ شَهَادَةَ أَعْظَمُ بِصِدِّيقِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ شَهَادَةِ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- حِينَ وَقَعَتْ خُصُومَةٌ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي صَاحِبِي، إِنِّي قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْتَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

 

ذَلِكُمْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي صَدَّقَ النَّبِيَّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فَوْرَ دَعْوَتِهِ، وَظَهَرَ تَصْدِيقُهُ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، حَتَّى عَجَزَ عُمَرُ عَنْ مُسَابَقَتِهِ، فَكَانَ الصِّدِّيقَ الأَكْبَرَ الأَوَّلَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاه: (مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب:23-24].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

 

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَصَدِّقُوا رَسُولَهُ، وَاسْتَسْلِمُوا لِدِينِهِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالانْحِرَافِ وَتَخَبُّطَاتِهِمْ مِمَّنْ لاَ يَرْجُونَ للهِ تَعَالَى وَقَارَا، وَلاَ يُصَدِّقُونَ لِلرَّسُولِ أَخْبَارًا: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:10].

 

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: حَازَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَنْزِلَةَ الصِّدِّيقِيَّةِ بِتَصْدِيقِهِ لِلنَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، ثُمَّ انْعَكَسَ هَذَا التَّصْدِيقُ عَلَى حَيَاتِهِ كُلِّهَا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ، وَفِي مُقَابِلِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جُمْلَةٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَجُمْلَةٌ مِنَ المُنَافِقِينَ، وَجُمْلَةٌ مِنَ اليَهُودِ، عَلِمُوا صِدْقَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَذَّبُوهُ فَكَانُوا شَرَّ البَرِيَّةِ.

 

وَلاَ أَحَدَ أَضَلُّ سَعْيًا، وَلاَ أَبْخَسُ حَظًّا، وَلاَ أَشَدُّ خِذْلانًا، وَلاَ أَعْظَمُ شَرًّا؛ مِمَّنْ نَشَأَ فِي الإِسْلاَمِ، وَتَرَبَّى عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلُقِّنَ سِيرَةَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-، وَعَلِمَ قِيمَةَ سُنَّتِهِ؛ فَلَمَّا تَقَدَّمَ سِنُّهُ، وَامْتَلَأَ بَطْنُهُ، وَتَوَرَّمُ زَنْدُهُ؛ نَاكَفَ المُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي بَعْضِ قَوْلِهِ، وَرَدَّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَأَعْلَنَ عَلَى المَلَأِ زَنْدَقَتَهُ!

 

أُولَئِكَ قَوْمٌ عَبّوا مِنْ قَاذُورَاتِ الغَرْبِ حَتَّى الثُّمَالَةِ، وَأَلِفُوا الغِوَايَةَ وَالعِمَالَةَ، وَنَاصَبُوا قَوْمَهُمْ وَدِينَهُمُ العَدَاوَةَ، فَخُذِلُوا عَنِ الحَقِّ، وَعَمُوا عَنِ الهَدَى، وَارْتَكَسُوا فِي الضَّلاَلَةِ، وَأَوْغَلُوا فِي العَمَايَةِ: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الرعد:33]، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ) [الصَّف:5].

 

وَسُنَّةُ المُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- أَجَلُّ فِي نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَطْعَنَ فِيهَا طَاعِنٌ، أَوْ يَسْخَرَ مِنْهَا سَاخِرٌ، أَوْ يَرُدَّهَا زِنْدِيقٌ مَارِقٌ، وَمَا زَالَ المُسْتَشْرِقُونَ وَالمُسْتَغْرِبُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ وَالمُنَافِقُونَ يُشَكِّكُونَ فِي الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَيُدْخِلُونَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَيُخْرِجُونَ مِنْهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَقَدْ رَمَوْهَا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ لإِبْطَالِهَا، فَعَادَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُهُمْ، وَتَكَسَّرَتْ نِصَالُهُمْ، وَأَبْطَلَ اللهُ - تَعَالَى -كَيْدَهُمْ، وَأَضَلَّ سَعْيَهُمْ؛ فَحُفِظَتِ السُّنَّةُ كَمَا حُفِظَ القُرْآنُ، حُفِظَتْ بِرِجَالٍ حُفَّاظٍ تَنَاقَلُوهَا جِيلاً عَنْ جِيلٍ، فَنَخَلُوهَا وَنَقَّوْهَا، وَأَثْبَتُوا مَا هُوَ مِنْهَا، وَأَخْرَجُوا مَا أُدْخِلَ فِيهَا، وَلاَ يَزَالُ عَامَّةُ المُسْلِمِينَ يُعَظِّمُونَ الحَدِيثَ النَّبَوِيَّ، وَيَحْتَفُونَ بِحُفَّاظِهِ وَنَقَلَتِهِ، وَلاَ يَقْبَلُونَ قَوْلَ الزَّنَادِقَةِ فِيهِ، فَمَنْ أَزْرَى بِشَيْءٍ مِنَ السُّنَّةِ فَإِنَّمَا يُزْرِي بِنَفْسِهِ، وَيَكْشِفُ سَوْءَةَ عَقْلِهِ، وَيُخْرِجُ مَكْنُونَ قَلْبِهِ وَهُوَ يَقْطُرُ حِقْدًا عَلَى السُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، وَأيمُ اللهِ لاَ يُفْلِحُ أَبَدًا.

 

وَلَحَدِيثٌ وَاحِدٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْجَحُ فِي المِيزَانِ السَّوِيِّ مِنْ عُلُومِ الغَرْبِ وَمَعَارِفِهِ كُلِّهَا؛ فَذَلِكَ عِلْمٌ يَبْقَى أَثَرُهُ لِتَعَلُّقِهِ بِالآخِرَةِ، وُعُلُومُ الدُّنْيَا كُلُّهَا إِلَى زَوَالٍ مَهْمَا بَلَغَتْ كَثْرَتُهَا وَجَوْدَتُهَا، وَلَكِنَّ الزَّنَادِقَةَ لاَ يَعْقِلُونَ: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الرُّوم:7].

 

وَلَنْ يَبْلُغَ عَبْدٌ دَرَجَةَ الصِّدِّيقِينَ حَتَّى يُصَدِّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- تَصْدِيقًا تَامًّا لاَ يُخَالِطُهُ شَكٌّ وَلاَ تَرَدُّدٌ وَلاَ ظَنٌّ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ تَصْدِيقِهِ عَلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. وَأَمَّا الزَنَادِقَةُ فَلَنْ يُصَدِّقُوا: (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس: 97].

 

هَذَا؛ وَإِنَّ بَيْنَ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ كَمَا بَيْنَ مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ فِي أَعْلَى الجِنَانِ، وَمَقَرَّاتِ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ: (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة:119-120].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

 

المرفقات

والزنديق

والزنديق - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات